قراءة في ديوان (وجه الفجر) للشاعر رعد أحمد علي
د. ثابت الآلوسي | أديب وناقد عراقي
يمكن القول إن المحور المركزي الذي تدور حوله أغلب قصائد ديوان (وجه الفجر) للشاعر رعد أحمد هو الهم الوطني ، حب العراق والشوق إلى بغداد ورصد واقعها الجريح وإدانة ما أصابها عبر عشرات السنين:
” قالوا : قد غير الدهر في محاسنها
فقلت :بل الأشرار
فصارت شمسها ليلا
من الأحزان …”
بغداد مدينة الأمجاد والحضارة والتاريخ سرعان ما تعرضت للتدمير والتخريب.
في بلدي: لا يأتي فجر
ليل يأتي بعد الليل (ص ۱۰)
وحين يعاني من آلام الغربة التي اضطر اليها ، لايجد أحدا يستجير به إلا وطنه
“أحضنيني يا بلادي
مزقت الغربة أوصالا فؤادي ” ص ۲۷
هاجيا الزمن والظروف القاسية التي أجبرته على الرحيل من منفي إلى منفی :
تلك الحقائب أكفان تشيعنا
في كل يوم الى حتفنا سبب ” ص ۷۷
لكنه واثق أن بغداد ستنهض من جديد كالعنقاء:
“عنقاء أنت طول المدى بغداد” ص ۱۲۹
ولابد لليل أن ينجلي وتعود بغداد شامخة وباسمة قادرة على استرداد مجدها وموقعها في حركة الحياة
” لابد لليل فجر يبدد فيه الطغيان
وتعود لبغداد الحلوة ضحكة أطفال وأمان ” ص١٣١
لغة القصائد جيده الا بعض التجاوزات القليلة هنا وهناك التي جائت ربما تحت ضغط السرعة وعدم الانتباه من ذلك قوله:
” لو فتحتي بعض انمله ” ص١٦ وقوله “لو صغيتي رب شيء تسمعين” ص114
وقوله “و عرفتي سفاحا دربه” ص ٣٥ و الصحيح ( فتحت ، صغيت ، عرفت )
دون ياء المخاطيه وقوله ” فنناموا بطانا بأمان ” ص١١٨ والصحيح فننام دون واو الجماعة … أغلب قصائد الديوان واضحة قريبة جدا من المتلقي وما فيها من صور أدبية فهي تستثمر تقنيات التشبيه والاستعارة القصيرة والكنايات ذات المدى المحدود معززة غالبا قيم التقابل بین الظلمة والنور:
” نحتضن أضواء الصبح ” ص ۱
“ليل يأتي بعد الليل ” ص 4
” والقلب ذو سكن كصخرة تغفو ” ص ۷
” يخنق نوره لیل بهیم ” ص ۸۳
“وتعود نورا بعد ظلمتها ” ص٨٦
الأفق داجن ” ص ۱۲4
العلقم المزكوم ملء ديارنا ” ص ١٢٤
ليل أتي بعده ليل اطول ” ص ۱۲۸
بعض قصائده تتحرك على مساحة أوسع في الزمان والمكان ، فبعضها يتناص مع الأعشى في قصيدته (ودِّع هريرة ) ومع الجواهري في قصيدته ” حييت سفحك عن بعد فحييني ” و ( سلام كله قبل) و مع قصة يوسف في القرآن الكريم ومقتل الحسين سيد الشهداء في تراثنا العربي ظاهره جديده في مجال كتابة الشعر خلال السنوات الأخيرة، هو شيوع نوع من القصائد ، تقوم على التداخل الإيقاعي فلا هي قصائد عموديه أو مايسمى بشعر الشطرين، ولا هي قصيدة تفعيله ولا هي قصيدة نثر وانما هي مزيج من كل ذلك وربما أحيانا من غير ضرورة فنيه، وكثيرا ماتقترب في بعض أجزائها من النثر العادي والكلام اليومي فهل هي ظاهرة صحية مرتبطة بتطور القصيده على وفق التطورات الثقافيه والتحولات الحضاريه أم انها ستتراجع لصالح تلك الأشكال القارة والأبنية التي عرفها الشعر العربي في مسيرته، أم ستظهر أشكال أخرى مختلفه وربما ينطبق هذا التوصيف أو بعض منه على بعض قصائد ديوان (وجه الفجر) الذي امتزجت كثير من قصائده بين العمود والحر والنثر والكلام اليومي؛ نأخذ على سبيل المثال قصيدة ” شناشيل ” التي يقول في مطلعها:
” بانت سعاد … وبان الحزن والشجن
وظل متيما فؤاده بالشوق مرتهن
بانت تباريح الصبا والشيب مضجع
على مفرق احلامه يتوجع
بانت تباريحها والقلب ذو سكن
كصخرة تغفو سباتا
عليها غبار الأمس مزدحم ” ص ۷-۸
هذه القصيده تستحضر قصيدة كعب بن زهير المشهوره ” بانت سعاد” التي جاءت على البحر البسيط، غير أن قصيدة شناشيل ما أن تبدأ على هذا البحر حتى تنفلت منه ليضيع الايقاع وتضطرب القافيه وتشيع النثرية وتتراجع ظاهرة التحويل الدلالي. وهو ايضا في قصيدة ” هريره ” التي تتناص مع قصيدة ” ودع هريره ” للأعشى التي يكسر مسارها المألوف ويحول دلالتها على نحو جميل من (ودع هريرة) إلى (قف لا تودعها ) ساحبا أجواء الرحيل المرهقة إلى زمنه المعاصر يقول:
” ودع هريرة إن الركب مرتحل
ودع هريرة
قف لا تودعها
إن الرحيل أدمى في خدها الأثرا ” ص ٧٦
هكذا تبدا القصيده مستثمره ” بحر بسيط ” غير أن هذا البحر سرعان ما يتراجع أمام سطوة النثر اليومي :
أمسك إن لمحت سما من خياط
بين قضبانها. أمسك بها
أمسك فما أبقت لنا الأحزان
غیر روح هلامية ” ص ۷۸-۷۹
من القصائد الجميلة المتماسكة قصيدة “محنة يوسف ” التي يخاطب فيها ولده أحمد والتي تتناص مع قصة النبي يوسف في القران الكريم غير أنه ببراعة يحول مسارها، فبدلا من الآخرين أو الأخوة الذين يرمونه في البئر للتخلص منه، يقوم هو برمي ولده في المنافي المعادلة للبئر، خوفا عليه من واقع قاس و زمن أشد قسوة :
” ونفس البئر … رميتك فيها
لا عن قصد … ولكن
من أخوة يوسف أخاف عليك
جعلوا علينا الدرب احمر
فاقبع بالبئر لاتجزع ” ص ۲۹
وإذا جاءت بعض القصائد خاضعة لرقابة المألوف وسطوة العاطفة المباشرة و تجاوزات في الأوزان و القوافي . فإن بعضها الآخر عبر صدق تجربتها و تدفق مشاعرها، اختزنت طاقات شعرية مؤهلة لوضع المتلقي في دائرة المدهش والمثير .