سلواد حكاية عشق (5)
بقلم وعدسة: زياد جيوسي | فلسطين
سلواد حكاية عشق من الصعب روايتها بالكامل، فهي من البلدات التي لم تكف عن تقديم الشهداء منذ عام 1917م، إضافة لحكايات الأبطال من الشهداء والأسرى والتي تحتاج الى مجلدات ولن تكفي لرواية ملاحم البطولة والشجاعة والصمود، فمنذ أكثر من قرن وابناء سلواد لم يتوقفوا عن النضال من أجل حرية الوطن والتخلص من ربق الاحتلال ومن دنسه ورجسه، ومن الجدير بالاشارة أن الشهداء الذين اشار لهم الشهيد غسان كنفاني في رواية: رجال في الشمس التي صدرت عام 1963م استندت وحسبما اكد لي أكثر من شخص من سلواد على حكاية مأساوية حقيقية لتسعة أشخاص من سلواد استشهدوا وهم يبحثون عن لقمة العيش في طريقهم للكويت بعد نكبة 1948م، والتي انهاها الشهيد كنفاني بعبارة: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟” لتصبح هذه العبارات خالدة في مسيرة ابناء الشعب الفلسطيني فلم يتوقفوا عن دق جدران الخزان لعل أحد يسمع.
واصلت مسيرتي وجولتي في سلواد التراثية برفقة مضيفيني الأعزاء عبد الرؤوف عياد والشيخ عبد الكريم عياد، وبتنسيق من الشاعرة رفعة يونس وأنا استذكر أبيات شعر للشاعرة رفعة تهمس فيها لسلواد والوطن في قصيدتها “وكأنا لم نفترق” تقول بمقاطع منها: ” وكأنا لم نفترق/ كأن العمر الغض يعود إلينا ..يعيد لنا/ بسمات الصباح/ لغات الأقاح/ وأنفاس الفجر/ زهر الوعد”، فمررنا من ضمن منطقة الحبايل بالعديد من البيوت التراثية منها حوش دار الشيخ خلف من آل حماد، وهو من البيوت الكبيرة المساحة الدالة على مستوى اجتماعي متميز وله بوابة خشبية تراثية خارجية تطل على ساحة وحديقة للبيت ونقوش النجمة والهلال على الجدار، ودار محـمد أبو فارة وحوش حسن عبد الكريم حماد والعديد من البيوت التي تختلف بمستوى البناء ومنها بيت صالح سليمان ابو الحاجه خضره آل حماد، وهو بيت جميل من طابقين تراثيين ومتميز بجمالية الأبواب والنوافذ والحجارة المستخدمة بالبناء وما زال البيت يحافظ على رونقه وواضح انه ما زال مأهولا، حتى وصلنا إلى حوش دار اسماعيل حيث التميز التراثي، وفي مدخل الحوش على اليمين دار فهد الحاج عارف والتي كانت اول مدرسة لتدريس البنات تابعة للوكالة وأول مقر لأول مجلس قروي عام 1956م، لنكمل باتجاه حوش دار اسماعيل حيث اوقفنا السيارة في الشارع ودخلنا من زقاق متسع، وفي مدخل الحوش على اليسار كان هناك “بد” لعصر الزيتون وتحويله إلى زيت، ولكنه مهدم ومتروك ولم يتبق الا جداران ما زالا صامدين مقاومين تأثيرات الزمان، وفي وسط الردم والخراب ما زال الحجر الاسطواني الذي كان يستخدم لعصر الزيتون ما زال قائما، وأعتقد انه من الضرورة ترميم ما تبق من هذا المكان التراثي ليبقى يروي حكاية عشق سلواد والأجداد.
بعد أن دخلنا من جوار “البد” كنا في وسط حوش دار اسماعيل التراثي، وهذه الحارة تسمى حارة “الحيطان” لسهولة التنقل من على الأسقف بين الأمكنة فيها، وفي هذه الحارة كانت أول مدرسة “للكتاتيب” أيام الحكم العثماني وهذا الحوش أنموذج متميز في سلواد لنظام بيوتات الأحواش التي اشتهرت بها فلسطين، ونجدها في الكثير من المناطق وبشكل خاص مدينة الخليل التراثية ومدينة نابلس التراثية وبلدة بير زيت حيث دخلنا الحوش من خلال زقاق ضيق للساحة الصغيرة التي تحفها بيوت الحوش، وكما اشرت في الحلقة السابقة فالحوش عبارة عن ساحة تحفها البيوت المتلاصقة وعادة كان يسكنها أبناء عائلة واحدة كل أسرة في بيت مستقل، وفي الغالب كان للأحواش بوابة خارجية او مدخل ضيق للساحة لحماية سكان الحوش من أي طارئ فيسهل الدفاع عنه، وكل منزل مكون كما اشرت سابقا من القبو فمكان المؤونة واعداد الطعام ويعلوه بالعادة مساحة الاستخدام اليومي من النوم الى الجلوس، ولكل منزل منها بوابة حجرية قوسية من الأعلى وتفتقد في الطابق الأول الا ما ندر النوافذ، ولكن بأعلاها يكون طاقات صعب أن يرى أحد ما بداخل المنزل من خلالها.
على يمين الحوش يوجد بيت تراثي متميز مع علية مرتفعة فوقه، وهذا المنزل جرى ترميمه عام 2004م بدعم من مؤسسة سيدا/ الوكالة السويدية للتنمية والتعاون الدولي وبالتعاون مع مؤسسة رواق – مركز المعمار الشعبي وتم تحويل قسمه الأسفل الى متحف للتراث الشعبي تابع للبلدية، ويتم الدخول لباحة المتحف الصغيرة من خلال بوابة حجرية تراثية في جدار سميك حوالي 100سم تقريبا ان لم يكن أكثر، وعلى يمين البوابة مزروعة شجرة عنب، وفي الباحة شجرة عنب ما زالت صغيرة وشجرة زينة، ولطيف الاشارة أن سلواد تشتهر بالعنب ومنه نوع معروف بإسم عنب “بيوض حامد” حسبما افادني الأخ أبو صالح في بداية الجولة، والمتحف ذو بوابتين كبيرتين من أقواس حجرية وجدران سميكة ومبني على نظام العقود المتصالبة وحيث كان مكون من الجزء السفلي وهو القبو ومن ثم الصعود عبر درجات حجرية لقسم المعيشة في البيت، وفيه العديد من الفتحات المستغلة للمتحف رغم صغر المساحة التي لا تزيد عن غرفتين تحتوي العديد من الأدوات التراثية ومنها مفتاح قديم، والمفاتيح القديمة اصبحت رمز فلسطيني للعودة الى العمق الفلسطيني الذي احتل عام 1948م، اضافة الى قدور الطعام التراثية النحاسية وصواني القش وادوات كانت تستخدم الزراعة كالمحراث وبحصاد القمح كما الشاعوب والمذراة، والمصنوعات الفخارية كأدوات الشرب وغيرها وعدة قطع من الملابس التراثية وصندوق كان يستخدم لحفظ الألبسة وعادة كان جزء من مقدم العروس، ولكن بكل أسف كان المتحف مغلق وكنت أنظر وأصور ما بداخله من خلف البوابات الزجاجية والتي كانت تحتاج الى تنظيف بسبب الغبار عليها مما ادى لصعوبة التصوير، ومن الضروري للحفاظ على التراث توسعة المتحف لزيادة كمية المعروضات التراثية التي توثق تاريخ وتراث سلواد، إضافة لوضع اللوحات الارشادية من مدخل البلدة لتدل على موقع المتحف وضرورة أن يكون هناك أوقات محددة لزيارة المتحف مع وجود موظف من البلدية لاستقبال الزوار.
انهيت الجولة في باحة المتحف وأكملنا الجولة في الحوش مرة أخرى وصعدت برفقة مضيفي عبد الرؤوف عياد على سلم حجري تراثي لسطح بيوتات الحوش مما اتاح لي التقاط الصور من الأعلى للحوش والحارة حوله والبيوت التراثية العديدة والتي يروي كل بيت تراثي فيها حكايات عشق الأجداد للمكان والبلدة، وكان مشهد رائع اني شاهدت المشهد الخلاب للجبال والتلال التي تحيط بسلواد من هذا المرتفع الجميل واستنشاق الهواء البكر النقي من هذا المكان، لننهي الجولة في حوش دار اسماعيل متجهين إلى مركز سلواد الثقافي في البلدة التراثية حيث وفي بداية الجولة حين وجدنا المركز مغلق اتصل مضيفي عبد الرؤوف بأحد الأشخاص ليؤمن لنا مفاتيح البوابة لنزور المركز بعد اكمال جولتنا في البلدة التراثية، فكان ختام جولتنا في البلدة التراثية وكما نقول في مثلنا الشعبي: ختامها مسك، فوصلنا المركز واستلمنا المفتاح التراثي الكبير للبوابة من صاحب محل تجاري مجاور اعتقد ان اسمه أبو سامر حسب يافطة المتجر ودخلنا المركز والذي يقع في مبنى تراثي يعود وحسب اليافطة الحجرية في اعلاه الى عام 1358ه وهو يعود بالأصل للمرحوم عبد الرحمن عمر النجار/ حامد، بينما على اعلى البوابة التراثية الخارجية حجر منقوش عليه بتخطيط جميل ومميز عبارة “الملك لله الواحد القهار 1363ه، وقد أعلمني الحاج صاحب المحل عن وجود كتاب لديه فيه فصل عن علماء ومشايخ سلواد وقد قمت بتصوير هذه الصفحات حين انهيت جولتي بالمركز.
ما أن دخلنا بوابة المركز التراثية بخشبها ومفتاحها الكبير وغال “زرفيل” البوابة، والقضيب المعدني لتوثيق الاغلاق بشكل عرضي من الداخل “النجر” لفت نظري اعلى البوابة يافطة تحمل اسم “ديوان آل اسحق” حين دخلنا شاهدت مبنى تراثي جميل يظهر مستخدم كديوان أو سبق استخدامه، وهو مكون من غرفتين متجاورتين على نظام العقود المتصالبة مع ساحة مبلطة بالحجارة لكن النوافذ والأبواب مستطيلة بدون أقواس اعلاها كما نمط البيوت في السابق، إضافة لبوابات ونوافذ في الجدار المرتفع الذي كان سورا حول المبنى، ثم صعدنا السور الحجري لباحة المركز التراثية الصغيرة حيث يوجد ايضا عدة درجات حجرية مرتفعة للصعود الى السطح، وبوابة المركز تراثية قوسية الأعلى، وفي داخل المركز والذي تأسس عام 1980 والمبني على شكل العقود المتصالبة مجموعة من المقاعد المستخدمة للدراسة، وعلى حافة الجدار المواجه مجموعة من القطع التراثية ومكتبة وخزائن ملصق عليها مجموعة من اللوحات الفنية كما في غرفة صغيرة جانبية أيضا، وواضح انها من انتاج الطلبة المتدربين بالمركز، وكوني لم التق بأحد من المشرفين على المركز فيه فلم يمكنني الحصول على معلومات عن دور هذا المركز ودوره في سلواد.
كانت نهاية الجولة في البلدة التراثية، وكان بودي أن ازور المقامات او بعضها في البلدة، ولكن كل هذه المقامات أزيلت أو اندثرت عبر الأعوام ولم يتبق منها الا أسماء في ذاكرة مقالات كتبت عن تاريخ سلواد، لنتجه من البلدة القديمة لمسبح سلواد بدعوة للراحة قليلا واحتساء القهوة من الشباب الرائعين الاخوة بشار وباسل عبدالمجيد حامد، ووالدهما أبو بشار رحمه الله كان رئيسا سابقا للبلدية، فارتحنا قليلا مع احاديث لطيفة لقليل من الوقت لنتجه لموعدنا في نادي سلواد الرياضي، حيث استقبلنا بكل لطف وكياسة الشاب عبد الرحيم محمود سكرتير النادي، فاحتسينا القهوة معه في غرفة الإدارة الحافلة بالميداليات والكؤوس والدروع وشهادات التقدير التي نالها النادي عبر الاعوام منذ تأسيسه عام 1966م وحتى الآن اضافة لمجموعة صور توثق تاريخ ومسيرة النادي، ولفت نظري خزانة زجاجية بها بعض من الجرار والأواني الفخارية الأثرية والتي وحسب الورقة الملصقة تعود لأجدادنا الكنعانيين لما قبل 4500 عام، لأقوم بعدها بجولة في صالات وقاعات النادي والتي تشكل متنفسا للشباب، لنغادر النادي مودعين كما استقبلنا بحفاوة، متجهين الى موقف السيارت لأودع سلواد وأعود إلى رام الله للراحة يوما في بيت شقيقي جهاد قبل عودتي لوكني في بلدة جيوس، وبالصدفة التقينا الشيخ بسام عبد الرحيم حماد والد الشهيد أنس الذي اشرت الى استشهاده البطولي في الحلقة الثالثة، فعرفني عليه العزيز عبد الرؤوف وأصر على استضافتنا فاعتذرت بشده فقد كان التعب قد نال مني ما نال والوقت قد تأخر، ووعدته ان احتسي القهوة معه بزيارتي القادمة لسلواد لبؤة الجبال التي روت لي حكايتها وذاكرة المكان وحكايات الأجداد وعشق الجدات فكانت سلواد حكاية عشق.
مع نسمات ناعمة ولكن مع هبات حارة من هذه الموجة التي تجتاح البلاد، أجلس في هذا الصباح في وكني في بلدتي جيوس احتسي القهوة واستعيد ذاكرة زيارتي سلواد في السابع من حزيران لهذا العام 2020م، وأحلم بما ستحفل به جولتي القادمة فيها من حكايات أخرى ومواقع جميلة وذاكرة سلوادية ستكون مجال مقالاتي القادمة، واستمع لشدو فيروز وهي تشدو: ” هون نحنا هون وضو القمر مشلوح، عا أهلنا الحلوين عا بيوت غرقانين بالعطر بغمار الزهر”.
فأهمس: صباحكم أجمل احبتي وصباح أجمل لسلواد ووطننا.