إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. مشهد مهيب وحوار فريد (٣)

رضا راشد | باحث بالأزهر الشريف

ذكرنا في المقال السابق أنه  مما كان سببا في امتثال إسماعيل عليه السلام لأمر ربه لأبيه بذبحه على الرغم من مشقته: (1) الجزاء من جنس العمل. (2) والدعاء. (3) والعامل الوراثي. وأضيف هنا السبب الرابع؛ وهو من أهم الأسباب، وهو: (4) دور الأم في التربية..

دور الأم في التربية ..ويكاد يكون هذا السبب مسكوتا عنه،  فلم أقرأ – فيما قرأت- أن أحدا سلط الضوء عليه  ..ولكني أتحدث عنه استدلالا بالأثر على المسير .فلقد أسكن إبراهيم من ذريته (هاجر وابنها الرضيع إسماعيل) بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم بأمر من الله،  وتركهما وليس معهما إلا القليل من التمر والماء، قافلا إلى العراق حيث زوجته سارة،  وكان ما كان من نفاد الماء وسعي هاجر بين الصفا والمروة بحثا عنه،  ثم تفجر الماء من تحت قدمي الرضيع ..ومنذ ذلك الحين لم يكن الأب يزورهما إلا لماما وعلى فترات متباعدة. (يؤكد ذلك ما كان من بعدُ من أمر الزيارتين اللتين أوصاه في الأولى أن يغير عتبة بابه،  وفي الثانية أن يثبتها؛ فإن خليل الرحمن لم يطل مقامه في الزيارتين، حتى إنه لم ينتظر لحين عودة ابنه إسماعيل من الخارج، مع كثرة الدواعي وانتفاء الموانع =كما يؤكده ما ورد في بعض الأحاديث أن إبراهيم قدم على إسماعيل ثلاث قدمات) ..فحين يبلغ إسماعيل مع أبيه السعي،  ويأتى أبوه ليعرض عليه ما رآه في منامه من أمر ذبحه،  فلا يكون من الابن إلا الامتثال الكامل لأمر ربه قائلا: { يا أبت افعل ما تؤمر} وحسن الطاعة لأبيه،  فلنا أن نتساءل: من أين تَأَتَّى لإسماعيل كل هذا الإيمان والصبر والتسليم والخضوع واليقين، وهو الذي لم يلتق أباه كل هذا العمر؟

والجواب:  أنه لا أحد غير الأم؛ لأنه بغياب الأب،ثم بما عو معهود من أن التربية موكولة للأم غالبا، ثم بخلو المكان إلا من قبيلة جرهم التى لم يكن لها من قبلُ علم بالإسلام والتوحيد ، ولأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ..فلن يكون غيرُ الأم هي من تولت تربية ابنها على تعظيم أمر الله، حتى كان من  ثمرة تربيتها ذلكم الامتثال الكامل من الابن الشاب في هذا الأمر الشاق أمر الذبح .فهذا الامتثالُ من ابنٍ غاب عنه أبوه وكل محضن تربوي آخر يمكن أن يعوض غياب الأب ..لا بد له من سبب،ولا سبب هنا إلا الأم .

فإن قلتَ: من أين علمت هذا ؟

قلتُ: من عدة إشارات:

(*) الأولى: ما نقل عنها  من كمال ثقتها في الله لما علمت بأن إبراهيم ما تركهما في هذا الوادى الموحش القفر اليباب  إلا بأمر الله فقالت :” إذن لن يضيعنا الله”،  وظلت على كمال ثقتها في الله حتى في أحلك الظروف وهي تسعى بين الصفا والمروة سعي الإنسان المجهود، وابنها يكاد يموت عطشا،  فلم ينقل عنها ما يدل على تسخطها وجزعها، ولو كان منها جزع لتناقلته الأخبار.. فأمٌّ بهذه الثقة المطلقة في الله لَخليقةٌ بأن تغذو ابنها مع لبنها الذي ترضعه إياه إيمانا بالله  ويقينا به  وتوكلا عليه ..حتى يكون من ثمرة ذلك أن يهون عليه أمر البلاء فيما يحب، حتى تهون عليه نفسه في سبيل الله فيرضى بأن يذبح ابتغاء مرضاة الله.

(*) الثانية: ما جاء في دعاء إبراهبم عليه السلام لما غاب عنهما من قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة}، فتأمل الحكمة الإلهية من وجودهما في هذا المكان (وهي إقامة الصلاة). فإذا كان إسماعيل رضيعا وقتئذ فمن غيرها سيعلمه الصلاة ليساعدها بعد ذلك في نشرها بين من يساكنونهم ؟ لا أحد غير أمه هاجر رضي الله عنها .

(*) الثالثة: ما تناقلته الأخبار من أن إبليس لما حاول أن يوسوس لها في أمر ذبح ابنها إسماعيل من أجل أن تصد زوجها عن تنفيذ أمر الله فيه=رمته بالحجارة ممتثلة أمر الله في ابنها الوحيد، وهذا مما لا يمكن صدوره إلا من أم تجرد قلبها من كل عاطفة أمام أمر الله عز وجل، وياله من مقام جليل عند الله !!

(*) الرابعة: أن الله جعل من سعيها بين الصفا والمروة شعيرةً لكل حاج ومعتمر،  وهذه منزلة عليا وكرامة كبرى لا ينالها إلا من تجرد لله تجردا كاملا في عبوديته فلم يكن له من أمر نفسه شيء، كما قال العلماء: ” لما ارتقى آل إبراهيم الدرجة العليا في التجرد لله، جُعِلَتْ أفعالُهم مناسكَ الحج الذي هو الغاية في التجرد”.

لهذه الإشارت وتلك الومضات لا يخالجني شك في أنها ما كانت تفتر عن تربية ولدها على الإيمان والتوحبد وكمال التحرد لله تهيئة له للمهمة التى أوجدا هنا من أجلها؛ وهي إقامة الصلاة، وأنها كانت تتوسل لغايتها بما كانت تقصه على ابنها من سيرة أبيه أعبد أهل الأرض قاطبة لله في هذا الزمان ومسيرته الطويلة في رحلة العبودية لله ..كل ذلك بلسان المعجب الشاكر لا الجازع الساخط، فنشأ الابن -تبعا لذلك- لا يجد في صدره حرجا تجاه أبيه الذي تركه رضيعا وأمه بواد غير ذي زرع بل نشأ وقلبه ممتلئا إعجابا وفخرا بأبيه ومهابة له  بأبيه؛  ولهذا لم يقل له مثلا: أتركتني وأمي في هذا المكان القفر الموحش قافلا إلى زوجتك الأولى، ثم لم تكن تزورنا إلا نادرا ..حتى إذا بلغتُ السعي جئتَني تريد ذبحي ؟!! هيهات هيهات،لن تنال مني ما تريد. هذا ما كان يمكن أن يقال في مثل هذا المقام، لكن شيئا من ذلك لم يكن، بل ما كان إلا عكسه تماما {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.

   لا أشك في أن ذلك كله قد كان، فإن كنتَ أنتَ في شك من عظم دور الأم في التربية، وأن لها دورا عظبما في تنشئة إسماعيل على التوحيد والإيمان،  فوازن بين ما كان من الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام وما كان من نوح عليه السلام وابنه ..وازن بينهما تَرَ المفارقة العجيبة؛إذ دعا إبراهيم ابنه للذبح فَلَبَّى،  ودعا نوح ابنه للنجاة، فرفض قائلا:{ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}، وعصى أمر أبيه وتمرد على ربه فكان من الكافرين، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

فما السبب؟

السبب – كما يقول أخي حسين مختار- في “التربية المستقيمة والتنشئة السوية؛إذ إن إسماعيل عليه السلام نشأ في بيت يذكر فيه اسم الله وتعلو فيه قيمة الأبوة.

فإن قيل: فإن ابن سيدنا نوح كان ابن نبي يذكر الله ليل نهار؟

قلتُ: وأين أنتم من دور الأم التي هي ميزان التربية وعمود التنشئة؛ فإن امرأة نوح كانت كافرة أرضعت وليدها مع اللبن كره الرسالة وسقته مع الماء عصيان أبيه، فكانت  النتيجة أن غرقت هي وابنها=أما أم إسماعيل عليهما السلام فكانت مؤمنةً تقيةً تعبد الله وتطيع زوجها، وقامت على تنشئة ابنها أحسن قيام، فكانت النتيجة أن خلد الله سعيها شعيرة دينية ليوم الدين،  وخلد ذكر ابنها نبيا في القرآن يتلى إلى يوم الدين .”

 [انتهى من صفحة أخينا حسين مختار على الفيس بوك في يوم ٢٠٢٠/٨/٢]

 

فيا أيتها الأم الكريمة :

اعلمى  أنكِ أساسُ التربيةِ ومعيارُ التنشئةِ، وأن صلاحَ أولادكِ مبدؤه منكِ أنتِ ومنتهاه إليكِ،فأنت من تبذرين البذرة وأنت ممن سيجني الثمرة، فلا تقصري في واجبكِ تذرعا بغياب الأب عن البيت  أو احتجاجا بقسوة الظروف وشدة الحال؛ فلو كان هناك مسوغ لأم في ترك تربية ابنها لغياب أبيه لكانت أمكِ أمُّ إسماعيل هي الأوْلَى منك بذلك، ولو تعللت امرأةٌ بقسوة الظروف في إهمال ابنها لكانت هاجر رضي الله عنها هي أيضا الأَوْلَى بذلك ، فاستعيني بالله ولا تعجزي ؛ولْيكنْ أولَ ما تُرَبِّينَ عليه أولادك تعظيمُ الله وأوامره، ثم احترامُ الأب وتوقيره؛ ففي ذلك فلاحُكِ  وحسنُ رعايتك؛  فإن الولد إن يُنَشَّأْ على تعظيم أمر ربه وحسن طاعة أبيه يَكنْ بكِ بارا وإليكِ محسنا،  ويكنْ احترامه لأبيه سياجا لك من سهام عقوقك والتجرؤ عليك. وإياك أن تتوهمي خيرا في أن تُجَرِّئي ابنًا على أبيه؛ فإن الذي يعصي أباه متجرئا عليه لن يكون لك مطيعا وإن الذي يسيء لأبيه لن يكون إليك محسنا ..وإنك إن تفعلي ذلك تكوني ك”براقش”  التي جنت على أهلها بنباحها،  فهلكت وأهلكت.

فأحسني يُحْسَنْ إليكِ ولا تسيئي فتندمي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى