الدلالة البلاغية والفوارق اللغوية في المتشابهات القرآنية
ماجد الدجاني | فلسطين
لماذا ورد لفظ ( أنعمت ) في فاتحة الكتاب بصيغة الفعل؟ وورد لفظ (المغضوب) بصيغة اسم المفعول؟ ولفظ (الضالين) بصيغة اسم الفاعل؟ ولماذا لم يقل: أنعمت وغضبت وأضللت ؟ .
الجواب :
1 – هذا الأسلوب هو غاية الأدب مع الله عز وجل ، بأن ينسب النعمة إليه ، وينفي عنهما سواه . وهو أسلوب قرآني رصين .
وقد ورد في سورة الكهف على لسان العبد الصالح 🙁 فأردت أن أعيبها ) – عن السفينة- فنسب العيب إلى نفسه . وقال عن الغلام : (فأردنا) ، ثم نسب الخير إلى الله عز وجل في قوله : (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)- في بناء الجدار.وقد ورد هذا الأسلوب في قصة إبراهيم عليه السلام : ( الذي خلقني فهو يهدين) -فنسب الهداية إلى الله عز وجل – ثم نسب المرض إلى نفسه فقال: قال: (وإذا مرضت فهو يشفين) وكذلك فإن قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قد نسب النعمة إلى الله تعالى.
2 – هذا الأسلوب فيه التفات من الحضور(أنعمت) إلى الغيبة (المغضوب ، الضالين)، فهو دليل على بعد اليهود والنصارى عن الله عز وجل، وانحدارهم في الضلال البعيد.
3 – الاسم يدل على الثبوت ، والفعل يدل على التجدد ، وكلمة(أنعمت) فعل يدل على تجدد النعمة على هذه الأمة. وكلمة (المغضوب) و (الضالين) اسمان، يدلان على ثبوت الغضب على اليهود ، وثبوت الضلال على النصارى .
***
لماذا ذكر ( شعيب) في سورة الشعراء بينما ذكر (أخوهم شعيب) في سورة هود؟
شعيب أُرسل إلى قومين هما قوم مدين وهو منهم فعندما ذهب إليهم قال تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُممِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إ ِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ(وأصحاب الأيكة ولم يكن منهم وليسوا من أهله فلم يذكر معهم أخوهم شعيب لأنه ليس أخوهم (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُون)
وكذلك في القرآن الكريم لم يذكر في قصة عيسى – عليه السلام -أنه خاطب قومه بـ (يا قوم) وإنما كان يخاطبهم بـ (بني إسرائيل) لأنه ليس له نسب فيهم.أما في قصة موسى فالخطاب على لسان موسى جاء بـ (يا قوم) لأنه منهم.
هذه المشاركة ذات صلة بملتقى المهندسين العرب.
***
اسمان لكلام الله: قرآن وكتاب
سمّى الله سبحانه كلامه المنزل على محمد-صلى الله عليه وسلّم-اسمين ذوي دلالة خاصة على طبيعته سماه الله قرآناً،مثل في قوله تعالى):**إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم)
وسماه الله كتاباً،مثل في قوله تعالى**(ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْب َفِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)
وجمع بين الاسمين في قوله)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(حفظ القرآن بالقراءة والكتابة هناك حكم تبدو لنا من إطلاق هذين الاسمين على كلام الله
1.أن هذين الاسمين من مظاهر حفظ الله لكلامه من التحريف والتبديل بحفظهما عن طريق القراءة والكتابة
2.أن هذين الاسمين نموذجان لأهم وسائل حفظ الوثائق والنصوص
3.كل وسيلة منهما-القراءة والكتابة-جمع للقرآن في صورة من الصور فالقارئ عندما يتلو آيات القرآن فإنه يجمع كلمات الآية ويضم حروفها ويخرجها من فمه مجموعة مضمومة
.:. فالقراءة والتلاوة إذن: جمع صوتي لحروف وكلمات القرآن والكاتب عندما يكتب على الورقة فإنه يجمع حروف الكلمة وكلمات الجملة بعضها إلى بعض يجمعا بالقلم على السطر
.:. فالكتابة إذن: جمع حسّي للحروف والكلمات القرآنية على السطور .
***
الفرق بين (اسطاعوا) و (استطاعوا)
في القرآن. قول الله عز وجل (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا).الآية 97 من سورة الكهف .
لم قال “اسطاعوا ” أولاً ؟ ثم قال:” استطاعوا ” ؟وهل هناك فرق ؟يرى البعض أنهما لغتان في الفعل بمعنى واحد .
لكن عند ما تتأمل تدرك فرقاً دقيقاً فعندنا قاعدة هي: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى بمعنى أن حروف الكلمة كلما زادت يزيد المعنى معها .
استعمل الحق ـ اسطاعوا ـ مع الأقل حروفاً , مع ـ أن يظهروه , أي ـ فما اسطاعوا أن يصعدوا فوق السد (الذي صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس)
واستعمل ـ استطاعوا . بالبقاء ـ وهو الأكثر حروف مع قولة عز وجل ـ له نقبا ـأي أن يحدثوا فيه نفقاً يمر الجيش منه . وبالطبع الصعود فوق السد أيسر بكثير من إحداث نقب فيه ويأخذ زمناً أقل بكثير .
فاستعمل الحق ـاسطاعوا ـ الفعل الخفيف مع العمل الخفيف ( الذي يحتاج إلى جهد أقل)
واستعمل ـ استطاعوا ـ الأكثر حروفاً مع العمل الشاق الثقيل ( الذي يحتاج إلى جهد أكثر وزمن أطول ) مما يجعل كل ذي عقل يدرك أن كل كلمة في موضعها .
وبالتأكيد ستتساءل الآن . فما بال ـ تستطع , تسطع ؟في قوله تعالى ـ(سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) ـ ختام الآية78 من سورة الكهف .
وقوله عز وجل (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) ختام الآية 82 من سورة الكهف . فقد استعمل الحق الفعل ـ تستطع ـ الأكثر حروفاً عند مفارقة موسى للعبد الصالح وبالطبع كان موسى مثقلاً مما رأى من مواقف لم يستطع معها صبرا وينتظر تأويلها فناسب ذلك الثقل النفسي الثقل في الفعل ـ تستطع . وأيضاً يريد العبد الصالح أن يلفت نظر موسى إلى أنك لم تجاهد نفسك وتحاول أن تتصبر مع أنك أخذ ت عهد اًبأنك ستكون صابراً.
وأما بعد أنزال الثقل النفسي وعرف تأويل تلك الأمور وأصبح مستريحاً استعمل الفعل الخفيف ـتسطعـ الذي يتناسب مع الموقف , وفيه إشارة إلى أن ذلك تأويل ما لم تتحمل بأقل استطاعة للصبر . فقال : ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .ومن العجب أن هذه الأفعال–اسطاعوا–استطاعوا –؛تستطع – تسطع لم يختلف القراء في قراءتها بهذه الصيغ كل في موضع هو هذا من دقة علم القراءات وهكذا تجد كل حرف في موضعه للدلالة على معنى أراده الله جل وعلا.
***
لماذا جاء الأمر بالتوجه قِبَل المسجد الحرام ثلاث مرات، مع أن الأمر في واحدة كافٍ، فهل ثمة غرض وراء هذا التكرار؟
وقوله سبحانه: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك} (البقرة:149)، وقوله عزوجل: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} (البقرة:150). حيث يلاحظ أن الأمر بالتوجه قِبَل المسجد الحرام جاء ثلاث مرات، مع أن الأمر في واحدة كافٍ، فهل ثمة غرض وراء هذا التكرار؟
ذكر أهل هذا الشأن عدداً من التوجيهات،أرجعوا سبب التكرار إليها، وهي وفق التالي:
التوجيه الأول: أن كل أمر تكليفي إذا كان مما يتأكد وجوبه، فإنه يأتي ملحوظ من عدة جهات،منبهاً على ما يحقق مطلوبه، مدفوعاً عنه طرق الاحتمال؛ اعتناء منه سبحانه بهذه الأمة؛ لتحصل سلامتها من الأمر المحمول على من قبلها. فبنو إسرائيل إنما لحقهم الامتحان في أمر (البقرة) من جهة الإطلاق فيقوله تعالى: **إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
(البقرة:67)،فورد الأمر مطلقاً مع ما جُبِلَت عليه نفوسهم من التثاقل في تلقي الطاعات منا لمأمورات،فتابعوا لتحرير المطلوب منهم، وشددوا على أنفسهم،فشدد الله عليهم، وهذا ما حُفظت منه هذه الأمة. فقوله سبحانه في فريضة الصيام: **يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علىالذين من قبلكم) البقرة : (183)،حدد مدة الصيام بشهر، وعين الشهر بالتسمية، وبيَّن وقت الإمساك بدءاً وانتهاء، وبيَّن الحكم مرضاً وسفراً، وأمر بتكميل العدة،إلى غير ذلك مما يحصل به المطلوب، ويرفع حكم الإشكال والسؤال. وجرى الحال في أمر القبلة كذلك؛ فقوله تعالى أولاً بالتوجه قِبَل البيت: **فول وجهك شطر المسجد الحرام} فيه احتمال أن يكون الأمر خاصاً به صلى الله عليه وسلم،أو عاماً له ولأمته. وأَمْرُه بعدُ في الآية نفسها: **وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أمرٌ يدفع احتمال خصوصه صلى الله عليه وسلم دون أمته،وحصل مع قوله: **وحيثما كنتم} أنذلك لا يختص بمكان دون مكان.وقوله سبحانه ثانياً:**ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} جاء ليُخبر أن حكم التوجه إلى القبلة هو حكم عام، يعم حالتي الإقامة والسفر. وقوله عز وجل ثالثاً: **ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}، جاء ليحصل منه التوكيد،وبناء ما بعده عليه، وهو قوله: **وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}،أي:وحيثما كنتم من البلاد والمواضع التي خرجتم إليها حيث كانت منا لأرض كلها.
التوجيه الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات؛ لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة؛ أما أولاً،فقد بيَّن أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،وأمر هذه القبلة حق؛ لأنهم شاهدوا ذلك فيالتوراة والإنجيل. وأما ثانياً،فبيَّن تعالى أنه يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً. وأما ثالثاً، فبيَّن سبحانه أنه إنما فعل ذلك **لئلا يكون للناس عليكم حجة}، فلما اختلفت هذه الفوائد،حسنت إعادتها؛ ليترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظير هذا قوله تعالى: **فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند ا لله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} (البقرة:79). ذكر هذا التوجيه الرازي.
التوجيه الثالث: أنه تعالى قال أولاً: **فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك؛ طلباً لرضا محمد صلى الله عليه وسلم،فأزال سبحانه هذا الوهم الفاسد بقوله ثانياً: **ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك}،أي:ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة،التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم إنه تعالى قال ثالثاً: **ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}،طلب اً للمداومة على استقبال هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، وعدم التولية عنها، فتصير تلك لتولية سبباً للطعن في الدين. وهذا التوجيه ذكره الرازي أيضاً.
التوجيه الرابع: أن الآية الأولى قُرنت بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام. والثانية قُرنت بما يدل على أن لكل صاحب ملة قبلة يتوجه إليها، فأمروا من ثم بالتوجه إلى أشرف الجهات، التي يعلم الله تعالى أنها حق. أما الثالثة فقُرنت بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود فيأمر القبلة. فكانت هذه عللاً ثلاثاً، قُرِن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة.نظير هذا أن يقال: الزم هذه القبلة؛ فإنها القبلة التي كنت تهواها.ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. ثم يقال:الزم هذه القبلة؛ فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك. وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى): **فبأي آلاء ربكما تكذبان) )الرحمن:13)، وكذلك التكرار فيقوله تعالى: ** (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} (الشعراء:174).
التوجيه الخامس: أن واقعة تحويل القبلة كانت أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار؛ لأجل التأكيد،والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاحا لبينات.قال ابن عاشور: “وتأكيداً لدلالة الأمر التشريعي على التكرار؛ تنويهاً بشأن هذا الحكم، فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم، أولاهما: إجمالية. والثانية: تفصيلية”. وقال أيضاً:”وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين. وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله؛ التنويه بشأن استقبال الكعبة؛والتحذير من تطرق التساهل في ذلك؛ تقريراً للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين، التأكيد من زيادة **ومن حيث خرجت}، ومن جُمَل معترضة؛لزيادة التنويه بحكم الاستقبال، وهي جملة: **وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون}، وجملة: **وإنه للحق من ربك}، وجملة: **لئلا يكون للناس عليكم حجة}،وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك؛ لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميماً، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه؛لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام”. وهذا التوجيه ذكره غير واحد من المفسرين.
وقد ذكروا توجيهات أُخر في سبب التكرار في هذه الآيات، بيد أنها توجيهات لا ترقى إلى القول بها ؛كقولهم:إن الأحوال ثلاثة: كونه في المسجد، وكونه في البلد خارج المسجد،وكونه خارج البلد، فكل آية منها محمولة على حال من هذه الأحوال الثلاثة .
قال الآلوسي: ولا يخفى أنه مجرد تشهٍ، لا يقوم عليه .الموضوع ذات صلة بشبكة ومنتديات الدهر.