الصديق القديم

عبد ازغني المخلافي | اليمن

التقيته . يحمل بعضًا منه بعدما قُتلَ بعضه الآخر.. حاولتُ أستعادة ، ما عهدته فيه من روح الفكاهة والجنوح نحو المغامرة التي أوقعني في فخاخها مرات عديدة ، وسطَ هذه المدينة و أوضاعها التي لم يصلح شأن لها ..

ندير أحاديثنا في شؤون حياتية متنوعة 

و فيما قرأنا من شعر وأدب .. الفن  القاسم الجميل الذي يربطنا ببعض وثمة قواسم أخرى تجمعنا ..

بعد انقطاعي الطويل عن هذه المدينة التي كان لشبابي فيها الكثير من الجنون والنزوات، ها أنا هذا المساء أعبر شوارعها مع صديقي القديم الحاضر  بطباع بدت غير معهودة ودون أي لهفة أوشجون  ، وكأنني طوال هذه السنوات لم أسافر عنه بعيدا ..

بعد السلام و الاحتضان الحار له  ،أخذته من يده  كاشفًا عن رغبتي معه بالمشي والتسكع في أرجاء المدينة . نظر بملامح باهتة لي و أشار بالإيجاب بهزة من رأسه، ومضى بعد أن أمرني بالسير خلفه، دالفاً إلى المقعد الخلفي (لباص)المواصلات المتوقف . لحقت به جالساً إلى جواره ..

توقف  (الباص) بنا بعد أن قطع  مسافة طويلة. واصلّنا السير على أقدامنا بعد أن ترجلنا .لم يحادثني. فاجأني بتعريجه نحو بيوت متراصة .اتضح من هيئتها أنها إسكان أستحدث في غيابي.  سألته عن الوجهة ، جاوبني بنبرة شابها الكثير من التهكم دون أن يلتفت : اعرف أن مثل هذه الأماكن  لم تعد تليق بمكانتك .. قلتُ : ألا يمكنك أن تجد  فسحة  لنا في مكان آخر  .

كانت – ونحن نخترق الممرات  عيون أهالي الإسكان تلتهم مظهري غير المألوف ، وسط بيوت متشابهة، متساوية في الحجم دخل صديقي واحدة منها ،ودخلت خلفه، وأنا في حالة تأفف ، ليس من  المكان المتواضع فحسب، ولكن لما يشوبه من الشبهات ..أشار صديقي بالجلوس إليّ بعد أن رمى جسده بتلذذ على فراش متسخ، أظنه اعتاده .وهو يتحدث إلى صاحب المنزل  تفطنتُ إلى العلاقة  المتينة التي تربط بينهما ،وكنت على مضض قد جلستُ على فراش بعد الترحيب ،أدركتُ أنه لا يفرش إلا لمثل هيئتي.مكوثي المتوتر والمنقبض دفع بصديقي إلى المغادرة بسرعة .. تنفستُ الصعداء وأنا أجد خارج بيوت الإسكان أقدامي ..

التفت أخيرًا صديقي نحوي  قائلًا : أظن أن مثل هذه الأماكن تثير فنتازية الكاتب وتخلق الكثير من المواد الكتابية الدسمة ، عليك استغلالها. حسب متابعتي فأنت  لا تفوتك أبدًا مثل هذه المشاهدات والمواقف ، أما أنا بعدما أطفأت هموم هذه البلاد قريحتي لم تعد تستفزني . وعاد يقول : أهذا من كنت  في ساعات المقيل تعهده واللقاءات التي بأصدقاء الأدب جمعتنا  ، و التنافس الشديد على  التهام الكتب ،وحفظ القصائد، و التسكعِ  المحبوب  وسط هذه المدينة العتيقة  ..

أسهب  بالحديث  صديقي ولم يتوقف إلا ونحن على متن سيارة الأجرة التي حملتنا نحو وجهة  أخرى .