الصحافة العربية: الاتضاع كُمُونا بالإثبات بنفي النفي قانونا!
د. آصال أبسال – أكاديمية وإعلامية تونسية | كوبنهاغن (الدانمارك)
في صبيحة ذلك اليوم الواقع في اليومِ التاسعَ عشرَ من شهر كانون الأول (ديسمبر) من العامِ الفائتِ 2019، صدر في الصحيفةِ اليوميةِ الإسرائيلةِ الشهيرةِ «المساء» מעריב، وهي الصحيفةُ السياسيةُ التي تأتي في الترتيبِ الثاني في «دولةِ» إسرائيلَ من حيثُ الانتشارُ، والتي تميلُ من الجانبِ «الأيديولوجيِّ»، فيما يبدو، إلى اليمينِ أكثرَ مما تميلُ إلى اليسارِ أو حتى إلى الوسط، صدر في هذه الصحيفةِ مقالٌ مقتضبٌ للكاتب الصحافي الإسرائيلي، إسحٰق ليفانون، تحت العنوان الاستفهاميِّ ممسُوحا بمَسْحَةٍ تهكُّميةٍ سَاخرةٍ: «هل يطمح أردوغان باستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية؟» – إذ، نظرا للسُّهولةِ الإرسَاليةِ الانسيابيةِ في هذا العنوانِ مبنًى ومعنًى، لم أدقِّقْ كثيرا في ترجمته العربيةِ هذه بالذاتِ حسبما نشرته، في ظهيرة ذلك اليوم كذلك، صحيفةُ «القدس العربي» الغنيةُ عن التعريفِ انتهازا ونفاقا وازدواجا وتناقضا ذاتيًّا وحتى عبثا شائنا بتعليقات القراء والقارئات، هذه الصحيفةُ التي برهنت، من خلال ترجمتها للعديد من المقالات والتقارير الأجنبية /وخاصة تلك المكتوبة باللغة الإنكليزية منها/، برهنت بالدليلِ الدامغِ على مستوًى جِدِّ متدنٍّ في الإلمام باللغتين المعنيَّتين على أقلِّ تقدير متوقَّع من صحيفةٍ كمثلِهَا، مستوًى جِدِّ متدنٍّ يندى له الجبينُ /وتلك، والحالُ هنا، مسألةٌ أخرى/.. أما المسألةُ الأساسيةُ، في هذا السياقِ بالذاتِ، فهي مسألةُ أن صحيفةً عربية /فلسطينية/، كمثل «القدس العربي» هذه، تنشر في قسمها الصحافي العبري مقالا «مدوزنا» لكاتب صحافي إسرائيلي يشرح /أو، بالأحرى، يفضح/ فيه، كممثِّلٍ لعدوِّها «التاريخيِّ» التقليديِّ، أخطارَ التوسُّع الاستعماريِّ السافر لتركيا متمثِّلةً، هي الأخرى، في طموح رئيسها الفاشيِّ والشوفينيِّ والوصوليِّ والانتهازيِّ بكافَّةِ المعاييرِ، رجب طيب أردوغان، متمثِّلةً في طموحهِ إلى «استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية كي يكون سلطانها [الجديد]»: والتسويغ المنشودُ للنقيض الكامل من كلِّ هذا وذاك، وما شابه من غيرِهِمَا كذاك، لَهُوَ التدليلُ المقصودُ، بطبيعة الحال..
ومن بين العديد من مُلْتَوِيَاتِ الوسائلِ الإعلاميةِ الدَّنِيَّةِ التي تتَّبعها اتّباعا كلُّ المعنياتِ من الصُّحُفِ العربيةِ «المستقلةِ» /بالمعنيَيْن النفاقيِّ والازدواجيِّ، تحديدا/، تتَّبعها لكيما تتلوَّى تلوِّيا على فحواءِ ما تدَّعيهِ بـ«استقلالها السياسي» قدَّامَ العالمِ، تنجلي تلك الوسيلة الإعلاميةُ المسطَّحةُ المبنيةُ على قانونٍ رفيعٍ ظاهريا وضيعٍ باطنيا يمكن أن نسميه، استنادا إلى بعض من مصطلحات علم المنطق الكاشفِ الصَّدُوق، بقانون «الإثبات بنَفْيِ النَّفْيِ» Affirmation via Negating Negation: إذ تتبدَّى، من خلال هذا القانونِ، كيفيةُ إظهارِ الولاءِ إظهارا تضمينيا لـ«الصديق» المُرادِ /تركيا ممثَّلةً بشخصِ أردوغانَ، في هذه الحال/، تتبدَّى في كيفيةِ استحضارِ العداءِ استحضارا تصريحيا من «العدوِّ» المعتادِ /إسرائيلَ ممثَّلةً بشخص ليفانون، على سبيل المثال/.. والمُظْهِر والمُستحضِر يتجسَّدان اِثنَيْن في واحدٍ، في كلا الحالين، في «شخصِ» الكائنِ البشريِّ مُمَثِّلا لتلك الصحيفةِ العربية المعنية /صحيفة «القدس العربي» بالذات/، تلك الصحيفةِ التي تمثِّلُ /أو، بالأقمن، تظنُّ أنها تمثِّلُ/، بدورِها هي الآخرى، أيَّ شعبٍ عربيٍّ منتهَكٍ انتهاكا بربريًّا لاإنسانيًّا ولاأخلاقيًّا من لدن نظامِ الحكمِ الطغيانيِّ والاستبداديِّ المعنيِّ.. ويمكنُ، بناءً على هذا التمثيلِ «القدساويِّ» الفهلويِّ، لنظام الحكم الطغيانيِّ والاستبداديِّ المعنيِّ، في هذه القرينةِ، يمكن له، بالطبعِ، أن يطالَ بالتوصيفِ المموَّلِ /أي المأجور/ كلاًّ من أنظمةِ الحكم «العربية» غيرِ المرغوبِ فيها، بأيتما هيئةٍ كانت، كمثلِ النظامِ «الديكتاتوريِّ» في السعوديةِ أو في الإماراتِ أو في سوريا أو في لبنانَ أو في مصرَ، وهلم جرًّا – ولكنْ، لا يمكنُ لهُ، على العكسِ من ذلك، أن يطالَ بالتوصيفِ المموَّلِ /أي المأجور/ ذاتهِ أيًّا من أنظمةِ الحكمِ «العربيةِ» غيرِ «غيرِ المرغوبِ فيها»، بهيئةٍ أو بأخرى، وذلك تحقيقا أولَ لقانونِ «الإثبات بنَفْيِ النَّفْيِ»، كمثل النظام «اللاديكتاتوري» في قطر أو في الكويت أو في أيةِ دولةٍ /خليجيةٍ/ شبيهةٍ، وهكذا دوليك /وخاصَّةً وأن الدولةَ «اللاديكتاتوريةَ» الأولى، ها هنا، إنما هي بالخليقِ المصدرُ التمويليُّ الأوَّلُ الذي تقتاتُ عليهِ أشداقُ تلك «الكائناتِ البشريةِ» الخاصَّةِ بالصحيفةِ العربيةِ /الفلسطينيةِ/ المعنيةِ أوَّلا وآخرا، والذي تعتاشُ عليهِ أشداقُ هكذا «كائناتٍ» وأشباهِها أيَّما اعتيَاشٍ وإلى حدِّ الارتزاقِ في أزرى معانيه/.. أما التحقيقُ الآخرُ لقانونِ «الإثبات بنَفْيِ النَّفْيِ» الذي نحن بصدده هنا الآن، فيتجلَّى بكلِّ جلاءٍ، والحالة هذه، في اليقينِ الافتعاليِّ بـ«لاديكتاتورية» نظامِ ذاك الحكمِ «اللاعربي»، لكن «الإسلامي»، غيرِ «غيرِ المرغوب فيه» في تركيا هذا الرئيس الفاشيِّ والشوفينيِّ والوصوليِّ والانتهازيِّ بكافَّةِ المعاييرِ، أردوغانَ، يتجلَّى مع ذلك على أنه «السلطان العثماني الجديد العتيد» في هذا الزمان..
وهكذا، فإن هذا الولاءَ الاصطناعيَّ المموَّلَ /أي المأجور/ الذي تبديهِ إبداءً تضمينيا هكذا صحيفةٌ عربية /فلسطينية/ بـ«استقلالِها السياسيِّ» مأخوذا بالمعنى الآنفِ بالذكرِ، تبديهِ لهكذا «سلطانٍ عثمانيٍّ جديدٍ عتيدٍ»، لَيُفْهَمُ منه فَهْما كاشفا، بقانون «الإثبات بنَفْيِ النَّفْيِ» المعنيِّ، هكذا: الصحيفةُ العربيةُ /الفلسطينيةُ/ المعنيةُ بـ«استقلالها السياسي» /صحيفةُ «القدس العربي» بالذات/، وعلى الأخصِّ في مشهدٍ سياسيٍّ خلافيٍّ نزاعيٍّ حسَّاس جدا كهذا، لا تصفُّ بتَّةً إلى جانبِ هذا التمثيلِ التركي /أو العثماني/ ولا إلى جانبِ ذاك التمثيلِ الإسرائيلي /أو الصهيوني/.. ولكنها لا تتردَّد في السَّماح لنفسها بأن تصفَّ كلَّ الصفِّ إلى جانبِ تلك الوسيلةِ الإعلاميةِ المسطَّحةِ التي تنبني على معنيِّ ذلك القانونِ الرفيعِ في الظاهرِ والوضيعِ في الباطنِ، حينما لا تتردَّد في السَّماح لنفسها بأن تنشرَ مقالا مقتضبا صادرا عن التمثيلِ الأخيرِ، التمثيلِ الإسرائيلي /أو الصهيوني/، بتصريح جليٍّ بوصفهِ عدوَّها «التاريخيَّ» التقليديَّ، مقالا «مدوزنا» يشرحُ /أو، بالأحرى، يفضحُ/ بعضا من أخطارِ التوسُّع الاستعماريِّ السافرِ صادرةً عن التمثيلِ الأوَّلِ، التمثيلِ التركي /أو العثماني/، دونما أيِّ تصريحٍ جليٍّ بوصفهِ صديقَها «اللاتاريخيَّ» المقابلَ – والأدلَّةُ الملموسةُ والقطعيةُ على هذا التصريحِ مدركا إدراكا «خفيًّا»، من خلالِ اللجوءِ اللغويِّ المحدودِ معرفيًّا، كما العهدِ، إلى أحابيل المُصانعةِ والمُداهنةِ، بل حتى إلى أماثيل التملُّقِ والتَّلَهْوُقِ وغيرها مما شابه، لَأدلَّةٌ ملموسةٌ وقطعيةٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى في افتتاحيَّاتِها المعهودةِ، وعلى الرغم من حقيقةِ أن هذا التمثيلَ التركيَّ /أو العثمانيَّ/، في حدِّ ذاتهِ، لَهو التمثيلُ «الإسلاميُّ» الثاني الذي اعترفَ بالقصدِ والعمدِ بـ«دولةِ» إسرائيلَ اعترافا رسميًّا عام 1949، وذلك بالإتباعِ الحَوْليِّ بعدَ الاعترافِ الرسميِّ الأوَّلِ من التمثيلِ الإيرانيِّ /أو الصفويِّ/ بهذه «الدولةِ» بالذاتِ عام 1948.. فليس على الصحيفةِ العربيةِ /الفلسطينيةِ/ المعنيةِ بـ«استقلالِها السياسيِّ» جُنَاحٌ من جهةٍ أولى، إذن، فيما تنتقيهِ بالنشرِ انتقاءً متقصَّدا متعمَّدا لتعليقاتِ كلِّ أنواعِ التطبيلِ والتزميرِ والتبويقِ المرهونةِ رهنا لشخصِ أردوغانَ على اعتبارهِ «السلطانَ العثمانيَّ الجديدَ العتيدَ»، وكذاك لتعليقاتِ كلِّ أشكالِ الاتِّجارِ والتَّسَاعُرِ والتَّصَافُقِ المصونةِ صونا بقضايا الإسلامِ عامَّةً وبقضيةِ فلسطينَ خاصَّةً على اعتبارها كذلك «القضايا الأولى والأخيرةَ للعرب والمستعربين في تاريخهم التليد».. وليس على الصحيفةِ العربيةِ /الفلسطينيةِ/ المعنيةِ بـ«استقلالِها السياسيِّ» جُنَاحٌ من جهة أخرى، إذن، فيما تنتويهِ بالحظرِ انتواءً متقصَّدا متعمَّدا بشدَّةٍ أكثرَ حتى لتعقيبات أيٍّ من محاولاتِ العدلِ في تبيانِ أن هؤلاء المطبِّلين والمزمِّرين والمبوِّقين /بمن فيهم كذاك المحرِّرُون «القدساويون» ذواتُهُمْ/ لا يعرفون العيشَ بتَّةً إلا أقنانا جاثمين تحتَ نيرِ حاكمٍ مستبدٍّ وهم صَاغرون، ولتعقيباتِ أيٍّ من محاولاتِ الإنصافِ كذلك في إيضاحِ أنهم ليسوا سوى أقنانٍ آبقين من عبوديةِ كلِّ حاكمٍ «عربي» مستبدٍّ مثيلٍ وهم «صَائبون»، وأنهم بالتالي ليسوا سوى أقنانٍ مرتمين في أحضانِ عبوديةِ حاكمٍ «تركيٍّ» مستبدٍّ بديلٍ /متشبِّثٍ بالإسراعِ في «تنفيذِ القرار» في ليبيا، بعد أن تشبَّثَ بهِ في العراقِ وفي سوريا/ وهم ضَائعون..
صحيحٌ أن على هذه الشعوبِ العربيةِ الثائرةِ /وحتى غيرِ الثائرةِ/ أن تستمرَّ بالعزمِ والتصميمِ في تحدِّيها السلميِّ لكلِّ مبادراتِ الإدامةِ والاستدامةِ المعسولتين و«اللامعسولتين» من لدنْ أيٍّ من أولئك الطغاةِ العتاةِ العربِ والمستعربين كافَّتِهم /لولا انعكاسَاتُ الاجتياحِ «الكورونيِّ»، في هذا الزمانِ/.. إلا أنه صحيحٌ أكثرَ، لا بل أصحُّ بكثيرٍ، أيضا أن هذا «اللاطاغيةَ اللاعتيَّ» أردوغانَ، وهو المتخبِّطُ الآنَ بين الداخلِ التركيِّ /الحزبيِّ/ وبين الخارجِ الأمريكيِّ الروسيِّ /كإرهاصٍ محتَّمٍ من إرهاصاتِ نهايتهِ المحتومةِ/، لا يمكنُ أن يكونَ تلك الضالَّةَ المنشودةَ التي تطمحُ إليها هذه الشعوبُ، خصوصا فيما يتعلَّقُ بالتباساتِ موقفهِ /أو مواقفهِ/ من الثورةِ الشعبيةِ الأبيةِ في سوريا /واستغلالهِ الدنيءِ لقضيةِ لاجئيها في كلِّ فرصةٍ سانحةٍ/، وخصوصا كذلك فيما يتعلق بالتماساتِ تواطئهِ /أو تواطؤاتهِ/ مع كلٍّ من الجانبِ الأمريكيِّ والجانبِ الروسيِّ والجانبِ الإيرانيِّ وحتى الجانبِ الإسرائيليِّ /العدوِّ «التاريخيِّ» التقليديِّ للمحرِّرين «القدساويِّين» ذواتِهِمْ/ بغيةَ القضاءِ على الشعبِ الكرديِّ أوَّلا وآخرا /لا بغيةَ «تحريرِ» الشعبِ السوريِّ من بطشِ النظامِ الأسديِّ الفاشيِّ الذي يزدادُ توحُّشا بأنيابِ أسيادهِ الروسِ والفرسِ وغيرِهِم يوما بعد يوم/.. كل هذا وذاك وقد نوَّهَ إليهِ أستاذي غياث المرزوق مرارا وتكرارا منذ أكثرَ منذ سنتين في مقالاتهِ السياسيةِ النفسيةِ الأولى – وحتى فيما تلاها كذلك من الأقسامِ المعنيةِ من مقالهِ السياسيِّ النفسيِّ المتفرِّدِ، «ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ: طُغَاةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟»، بدءا من بداياتِ عامِ اعتزامِهِ على النشرِ في هذا المجالِ /حتى قبلَ عام 2018/.. ومع ذلك كلِّهِ، مع ذلك، ولا حياةَ لمن تنادي، لا حياةَ، من أولئك المطبِّلين والمزمِّرين والمبوِّقين المعنيِّين ومن أمثالِهِمْ /وبمن فيهم كذاك أولئك المحررِّون «القدساويُّون» ذواتُهُمْ/!!..
***
تعريف بالكاتبة:ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص.