الخرطوم: ذاكرة لم تغترب

جمانة طه | سوريا

(تحية إلى أهلنا في السودان مع رجائي لله أن يشملهم بلطفه وعطفه).

عندما دعتني وزارة الثقافة السورية، في عهد الدكتور محمود السيد، للمشاركة في الأسبوع الثقافي الذي ستقيمه في السودان في العام 2005 بوصف الخرطوم عاصمة الثقافة العربية، حملتني الدعوة على جناح من الفرح للقاء سنديانة استعصت على معول الدخيل.

فأن أكون في السودان وهو يحتفل بعيد استقلاله التاسع والأربعين وبالخرطوم عاصمة الثقافة العربية، يجعل من الزيارة حدثًا مهمًا وباهيًا.

قبيل منتصف الليل بتوقيت السودان، وصلنا فندق “هوليداي فيللا” مقر إقامتنا. وضعت حقيبتي في الغرفة التي أعطيت لي، وخرجت لأرى النهر الخالد الذي يستلقي في سرير يواجه الفندق ذي الطبقات الثلاث الممتدة على أرض واسعة مشجرة ومزينة بأنواع الورد والأزهار.

كان الجو ربيعًا، والهواء نسيمًا على غير عادته في هذا الوقت من السنة. وكان النيل آهة ليلية مجروحة، يسير بهدوء متناسيًا أحزان الناس وغافلًا عن أنين القصب المترنح على ضفتيه، غير مبالٍ بشجن الأشجار المنتصبة على كتفيه. 

جمال الطبيعة أدخلني عالمًا من التصوف والشموخ. فالخرطوم دمعة متعبة على خد النيل، ومع ذلك بقيت شامخة. وشموخها مستمد من تنوعها، ناسًا وأرضًا. فترابها أحمر ونيلها أبيض وشجرها أخضر، وأديمها وقدها ووجهها وشعرها إفريقي، وقلبها عربي عربي.   

اتحاد المرأة السودانية

في الصباح، وفي مقر الاتحاد العام للمرأة السودانية التقينا السيدة سمية اليونس غانم وأنا رئيسة الاتحاد السيدة رجاء حسن خليفة وعددًا من السيدات. استمعنا منها إلى شرح مفصل عن هيكلية الاتحاد الذي هو تنظيم طوعي قومي مسجل رسميًا لدى مفوضية العون الإنساني والمجلس السوداني للجمعيات الطوعية، وله فروع قاعدية في شكل جمعيات متخصصة على مستوى الأحياء، يبلغ عددها حوالي /27000/ فرعًا. يقدم الاتحاد منذ تأسيسه خدمات عديدة للمرأة وللمجتمع، ويخطو خطوات ثابتة وحثيثة من أجل تفعيل دور المرأة السودانية ومشاركتها في مختلف مجالات الحياة، وفق مشروع تحريري فكري اجتماعي وثقافي واقتصادي وسياسي يستمد مضمونه من هداية الدين وتقاليد المجتمع. 

في الأيام التي تلت هيأ لنا اتحاد المرأة السودانية زيارات إلى بعض المناشط الاجتماعية والثقافية، ولقاءات مع بعض السيدات العاملات بتميز في الحقل الاجتماعي. ورافقتنا في هذه الزيارات، الدكتورة فهيمة مبارك والسيدة نوال صديق المجتبى.

كما كان لنا لقاء في تلفزيون النيل الأزرق، تحدثتُ أنا فيه عن المشهد الأدبي النسوي في سورية، وتحدثت السيدة سمية عن وضعية المرأة السورية في الدستور وفي الواقع.

في المساء كرَّمَنَا الاتحاد بحفل عشاء تجلت فيه الحميمية والمحبة الصادقة، وضمَّ نخبة من السيدات السودانيات شماليات وجنوبيات، قاضيات ومحاميات ودبلوماسيات وكاتبات. وكانت فاكهة السهرة، وصلة من الطرب السوداني الأصيل.

لقاء في جامعة الأحفاد    

القصة وأنا، كنا على موعد صباحي في جامعة “الأحفاد الخاصة للبنات” التي أسسها آل البدري وتضم على مستوى الدراسة الجامعية خمس كليات: العلوم الأسرية، علم النفس ورياض الأطفال، التنظيم الإداري، التنمية والإرشاد الريفي، الطب. وعلى مستوى الدراسات العليا: التغذية، والدراسات النسوية.  

رافقت الدكتور قاسم البدري صاحب الجامعة ورئيسها إلى الباحة الرئيسية، حيث اجتمعت مئات الطالبات في الهواء الطلق. الحشد الكبير، وسوس لي بالانسحاب. إذ كيف يمكن لي أن أقرأ في مثل هذا الجو، ومن سيسمع في مكان يضج بطنين أين منه طنين النحل!  

لكن كياسة الدكتور قاسم البدري استطاعت أن تريحني وتهدأ الجو إلى حد ما، مثلما استطاعت قصصي أن تخفف من لغط البنات وتجذب انتباههن. هذا اللقاء- التجربة الذي لم أر له مثيلًا بالمكان وبعدد الحضور، تطعَّمَ بنكهة الموسيقى وبالغناء الشعبي، فامتثلت القدود للطرب وارتاحت الوجوه للفرح واستجابت الأكف للتصفيق.

وجدير بالذكر أن هناك عددًا من الجامعات المرموقة علميًا في الخرطوم، أهمها جامعة الخرطوم التي تعد من أعرق الجامعات في أفريقيا والشرق الأوسط.

أسس الجامعة (اللورد كتشنر) وأسماها (جامعة غوردون)، وبعد الاستقلال صار اسمها جامعة الخرطوم. وقد حددت الجامعة عملها في شعار يتكون من أربع كلمات: الله ، الحقيقة، الوطن، والإنسان.

في المساء اجتمعنا على العشاء بدعوة من النادي السوري، مع عدد من المثقفين السودانيين وبعض أفراد من الجالية السورية الذين يعملون في الخرطوم ويرفدون المجتمع السوداني بعلمهم الأكاديمي وبخبرتهم في ميدان المال والاقتصاد.

وينوه السودانيون في أحاديثهم بدور الوجود السوري في السودان، الذي يعود إلى القرن التاسع عشر. ويذكرون بامتنان ريادة السوريين في مجال تأسيس بعض المرافق الخدمية والفنية في السودان. فالسوري فتح أول صيدلية وأول مطبعة، وأنشأ أول جريدة وأول مسرح. وتقول السيدة الحلبية نجلاء فحام التي ولدت في عطبرة، إن والدها ميخائيل إلياس فحام كان من أوائل السوريين القادمين إلى السودان وذلك في العام 1883، استقر في مدينة عطبرة وعمل مع مصر في تجارة الجمال ومع حلب في تجارة الجوز واللوز. ويبدو من كلام السيدة نجلاء أن معظم الوافدين إلى السودان، كانوا من مدينة حلب. فإلى جانب أسرتها كان جوزيف وأنطوان صايغ، لطيف صباغ، عبد الله وجرجي وارتان، أنطون نعيم سنكي. ومجموعة من آل فحام، منهم عبد الله فحام وكان قاضيًا في الخرطوم وصديقًا للأديب السوداني عبد الله الطيب.

كما جاء إلى الخرطوم من مدينة حمص فتح الله قرنفلي الذي صار رئيسًا للجالية السورية، في حين عمل بعض أقربائه في تجارة الأقمشة والأدوية. وظهر من هذه العائلة لاعب تنس مشهور، هو شكري قرنفلي.

إنَّ ما ذكرتُهُ من أسماء السوريين الذين جاؤوا إلى السودان هو غيض من فيض، فالمجال لا يتسع لبيان أسماء الجميع وذكر الأعمال التجارية والاجتماعية والثقافية التي مارسوها أو قاموا بها.

العاصمة المثلثة

في الخرطوم تشعر أنك حقًا في أفريقيا، شعور لم يعبر إلى نفسي وأنا في مصر وتونس والجزائر، ليس بفعل الطقس وحده وإنما لما تراه من أفارقة بقسمات وسحنات مختلفة، أتوا إليها نزوحًا أو تسللًا من بلدان إفريقية مجاورة للسودان هربًا من حرب أو من مجاعة. 

الزمن في الخرطوم لا قيمة له، فالناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية، غير معنيين به ولا يتقنون التعامل معه.

يَعِدُونَ، ويأتون بعد عدة ساعات من الموعد المضروب. وفي هذا السياق تحضرني نكتة سمعتها، تقول: سألوا واحد سوداني: إيش بتعمل وقت بتصحى من النوم؟ قال: أرتاح شوي! 

في الخرطوم، يواجهك عالم يدهشك بقدر ما يغيظك. في لحظات يحملك إلى جو يشبه الأساطير، وفي لحظات أخرى يضعك أمام واقع تتمنى أن تهرب منه. طبيعة بكر توحي لك بأنك (أليس في بلاد العجائب)، وطقس ثقيل الوطأة، برغم أن الفصل خريف والصيف لم يفرد جلبابه بعد. الرجال مستسلمون للكسل تحت أشجار منتشرة على طرقات غبراء لا أرصفة لها، ونساء مشلوحات هنا وهناك يبعن القهوة لمن يريد أن يشربها. لكنَّ هذا لا يحجب عنك ما يتحلى به الشعب السوداني من ألفة ولطف ومحبة، فهم من أكثر الشعوب العربية تواضعًا سواء أكانوا مواطنين عاديين أم مسؤولين.

فخلال الأيام التي أمضيتها في الخرطوم لم أر سيارة يقطع لها الطريق تبجيلًا لراكبها، ولم ألحظ وجود مرافق أو أكثر مع الوزراء الذين قابلتهم في أسبوعنا الثقافي، وهذا مشهد يغيب عن معظم الدول العربية إن لم نقل عن جميعها. تدعى الخرطوم العاصمة المثلثة، لأنها تضم الخرطوم وبحري وأم درمان.

وهي موقع أثري قديم يشكل امتدادًا لجزيرة توتي، لذا كانت تعرف حتى أواسط القرن العشرين باسم (خرطوم تيتي). وبينت الدراسات أن الأرض التي تقوم عليها الخرطوم حاليًا، كانت مستوطنات بشرية تعود بتاريخها إلى العام 4000ق.م. ما يدل على أن ملتقى النيلين كان منطقة مأهولة، منذ ذلك الزمن ومرورًا بالعهد المسيحي وبالعهود الأخرى التي شهدها السودان.

المتحف القومي

أما المكان الذي لا يمكن نسيانه، فهو متحف الخرطوم القومي الذي يضم المتحف كنوزًا سحيقة في القدم ترجع في زمنها إلى عصور حجرية وفخارية وبرونزية. وتستقبلك في مدخله حديقة مزينة بعشرات التماثيل لحيوانات رابضة ومنتصبة. يحتوي المتحف على مقتنيات وقطع أثرية نادرة من مختلف أنحاء السودان تسجل فترات الحضارة السودانية، يمتد تاريخها على عصور ما قبل التاريخ وحتى فترة الممالك الإسلامية. هذا إلى جانب آثار فرعونية، وجداريات ضخمة مرسومة بألوان زيتية تصور في قسم منها ولادة السيد المسيح في المغارة، وتصور في القسم الآخر عددًا من القديسين. وبالمناسبة أشير إلى أن الكنائس لمختلف المذاهب المسيحية، تنتشر في معظم مدن السودان.  

تشتمل الصالات الداخلية للمتحف على العديد من المقتنيات الحجرية والجلدية والبرونزية والحديدية والخشبية، وغيرها في شكل منحوتات وآنية وأدوات زينة وصور حائطية وأسلحة وغيرها. أما فناء المتحف وحديقته، فعبارة عن متحف مفتوح يشتمل على العديد من المعابد والمدافن والنصب التذكارية والتماثيل بأحجام مختلفة كان قد جرى إنقاذها قبل أن تغمر مياه السد العالي مناطق وجودها.

وتمت إعادة تركيبها حول حوض مائي يمثل نهر النيل حتى تبدو وكأنها في موقعها الأصلي. وأهمها معبد (سمنة شرق) و(سمنة غرب) وتشتمل على مقبرة الأمير (حجو تو حيت).

تشكيل ثقافي سوري

في اليوم الثالث من أيام الثقافة، عبقت دار الشرطة برائحة البخور وبرقصات وتشكيلات فنية لافتة قدمتها فرق شعبية قومية سودانية. وأقيمت في الدار نفسها معارض سورية ثقافية وفنية وتراثية، ضمت الكتاب والفن التشكيلي والصور الضوئية عن القلاع الأثرية في سورية. وقد نالت إعجاب السودانيين واهتمامهم الأفلام السورية التي شاركت في الأسبوع الثقافي، وهي: (ما يطلبه المستمعون، الطحين الأسود، رؤى حالمة، الترحال، آه يا بحر)، والعروض التي قدمتها فرقة أمية للفنون الشعبية وما ضمت من وصلات شعبية ورقص سماح ولوحة العرس وغناء شعبي مع عزف منفرد على العود. وتخلل الأسبوع الثقافي، مجموعة من المحاضرات والأمسيات الأدبية قدمها عدد من الأدباء والباحثين والشعراء. 

رحلة نيلية

إذا كان المسك هو ختام كل ملتقى جميل، فإن النيل هو المسك الذي عطّر يومنا الأخير في رحلة ضمت أفراد الوفد السوري وعدد من الجالية السورية ومجموعة من المثقفين والفنانين السودانيين. تخلل الرحلة النيلية أغنيات ورقصات سودانية، وأغنيات ودبكة سورية أشعلت المركب هرجًا ومرجًا، ومنحت الجميع ذكريات خالدة. 

الخرطوم… مدينة هاربة من صرامة الزمن ودقته، لكي لا يكسر تنظيم الوقت جمالية تعودتْ عليها.

قصيدة.. يكتبها النيل كل صباح، يفتت شطورها حرَّ الهجير ويرميها كحلًا على زجانبي الطريق.         ذاكرة.. لم تغترب ونقاء لم يتلوث. غانية.. يبس الحنين في شفتيها، ولم تتخل عن عطرها. 

يا خرطوم! يا مشكاة تتهاطل صبرًا وشجنًا، لك ولأهلك مني السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى