وقفات مع القرآن في رمضان (02)

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)[البقرة]

إن هذه الآية فيها درامًا غيرُ مسبوقة تسببت فيها بنيتها التركيبية.. و لكن قبل الدخول في تفصيل رؤيتي و ما ذُقْتُ منها سأقف على بعض الدلالات و المعاني لأستكشف تلك الدراما المعنوية المحبوكة بإحكام لا يقدره إلا الله الأعظم.

أولا – معجم الآية الكريمة:

– ذٰلِك: يذكر صاحبُ “النحو الوافي” ج١ ص ٢٤ – ٢٥-٢٦ أن أسماء الإشارة أقسام ثانيها “الذي يلاحظ فيه المشار إليه من ناحية قربه أو بعده أو توسطه بين القرب و البعد فإنه ثلاثة أنواع:

(١) الأسماء التي تستعمل في حالة قربه هي كل الأسماء السابقة الموضوعة للمفرد و المفردة و المثنى و الجمع بنوعيهما من غير اختلاف في الحركات أو الحروف و من غير زيادة شيء في آخر تلك الأسماء .

(٢) الأسماء التي تستخدم في حالة توسطه للدلالة على أن المشار إليه متوسط الموقع بين القرب و البعد ، و هي بعض الأسماء السابقة بشرط أن يزاد آخر كل اسم منها الحرف الدال على التوسط و هذا الحرف هو “كاف الخطاب الحرفية” فإنها وحدها – بغير اتصال لام البعد بها – هي الخاصة بذلك .

(٣) الأسماء التي تستعمل في حالة بعده و هذه الأسماء لا سبيل للدلالة على أن “المشار إليه” بعيد إلا بزيادة حرفين في آخر اسم الإشارة ؛ هما “لام البعد” في آخره يليها وجوبًا “كاف الخطاب الحرفية” و لا يصح أن توجد لام البعد بغيرها ، و هذه اللام تزاد هنا في آخر بعض الأسماء دون بعض فتزاد “الكاف” في آخر أسماء الإشارة التي للمفرد نحو “ذلك الكتاب لا ريب فيه” .

 

– الكتاب: في اللسان: كَتَبَ * الكتاب معروف و الجمع كُتُبٌ و كُتْبٌ … كَتَبَ الشيء يَكْتُبُه كَتْبًا و كِتَابًا و كِتَابَةً ، و كَتَّبَه خَطَّه … و الكِتَاب الاسم “عن اللحياني” : الكتاب اسم لما كُتِبَ مجموعًا … أ.هـ

و الكتاب غير السِّفْر فالكتاب ما أتاكَ مجموعًا دون تدخلك فيه كما أورد اللحياني و أما السفر ، فهو كتاب كبير تخطه بيدك … و لهذا مدلول خطير فيما هو آتٍ

و (أل) هنا تسمى “أل” الزائدة و هي – كما أوردها – صاحب “النحو الوافي” ، هي أحد نوعين كلاهما حرف ؛ الأولى منهما تسمى “زائدة لازمة” و هي التي تقترن باسم معرفة و لا تفارقه أبدًا بعد اقترانها ، و من هذا اقترانها ببعض الأعلام منذ استعماله عَلَمًا ، فلم يوجد خاليًا منها منذ عَلَمِيَّتِه و لا تفارقه بعد ذلك مطلقًا برغم زيادتها كبعض أعلام مسموعة عن العرب لم يستخدموها – فيما يقال – بغير “أل” مثل : السَّمَوْءَل و أَلْيَسَع و أللات – ألعُزَّىٰ … و هذا يشمل ما وضع من أول أمره مقرونًا بـ “أل” و لم يُستَعملْ في غير العَلَمِيَّة من قبل كالسموءل ، و ما كان مجردًا في أصله من “أل” ثم دخلته عند انتقاله إلى العَلَمِيَّة و لازمته معها من أول لحظة كـ: النضر و النعمان و كذلك “الكتاب” الذي هو القرآن .

 

– لا : هي لا النافية للجنس يقول فيها صاحب النحو الوافي – المسألة ٥٦ ج١ ص ٦٨٥ :

حين نقول “لا كتابٌ في الحقيبة” ؛ بإدخال “لا” على جملة اسمية في أصلها و رفع كلمة “كتاب” التي للمفرد يكون معنى التركيب محتملا أمرين :

(أحدهما) نفي وجود كتاب واحد في الحقيبة مع جواز وجود كتابين أو أكثر فيها .

(الآخر) نفي وجود كتاب واحد و ما زاد على الواحد فليس بها شيء من الكتب مطلقًا .

فالتركيب محتملٌ أمرين ولا دليل فيه يعين أحدهما و يمنع الاحتمال .

مما سبق نعلم أن “لا” و أشباهَهَا تدل على نفي يُحتَمَلُ وقوعه على فرد واحد فقط أو على فرد واحد و ما زاد عليه .

و لما كان النفي بها صالحًا لوقوعه على الفرد سمَّاها النحاة “لا” التي لنفي الوَحْدَة ؛ أي لنفي الواحد و هي إحدى الحروف الناسخة التي تعمل عمل كان الناقصة .

فإذا أردنا أن تدل الأمثلة السابقة و أشباهها على النفي الصريح العام وجب أن نضبط تلك الألفاظ ضبطً آخر يؤدي إلى هذا الغرض فنقول : “لا كتابَ في الحقيبة” ؛ فضبط كلمة “كتاب” المفرد بهذا الضبط الجديد ؛ و هو بناء الاسم على الفتح و رفع الخبر يجعل النفي صريحًا في غرض واحد لا احتمال معه لغيره كما يجعله عامًّا يَنْصَبُّ على كل فرد فيقع على الواحد و على الاثنين و على الثلاثة و ما فوقها و لا يسمح لفرد أو أكثر بالخروج من دائرته .

إنها تدل على نفي الحكم عن جنس اسمها نصًّا أو إنها لاستغراق حكم النفي لجنس اسمها كله نصًّا و يسمونها لذلك “لا النافية للجنس” ؛ أي التي قُصِدَ بها التنصيص على استغراق النفي لأفراد الجنس كله من غير ترك أحدٍ تمييزًا لها من “لا” التي لنفي الوَحْدَة ، فليست نصًّا في نفي الحكم عن أفراد الجنس كله و إنما تحتمل نفيه عن الواحد فقط و عن الجنس كله . أ.هـ

– ريب:

كما أورد صاحب اللسان :

الرَّيبُ : صرف الدهر . و الرَّيْبُ و الرِّيبَة : الشَّكُّ و التهمة و الرِّيبَة بالكسر و الجمع رِيَبٌ … و الرَّيبُ : ما رَابَكَ من أمر و قد رَابَني الأمرُ و أَرَابني … و أَرَبْتُ الرجل جعلتُ فيه رَيبَةً و رِبْتُه : أوصلتُ إليه الرَّيْبَة … و في حديث فاطمة “يُرِيبُني ما يُرِيبُها” ؛ أي يسوءُني ما يسوءُها و يُزْعِجُني ما يُزْعِجُها … و هو مِن رابني هذا الأمر و أرابني إذا ما رأيتَ منه ما تكره … و في حديث الظبي الحاقِف : “لا يُرِيبُه أحدٌ بشيء” ؛ أي لا يتعرض له و يزعجه . (أ.هـ)

* إذن فالريب : شَكٌّ و إساءةٌ و إزعاجٌ و مكروهٌ .

 

– هُدَىً:

أورد صاحب اللسان : …. ابن سِيدَه : الهُدَىٰ ضد الضلال و هو الرشاد … و الدَّلَالَة أنثى و قد حُكِي فيها التذكير … قال ابنُ جني : قال اللحياني : الهُدَى مذكر . و قال الكسائي : بعض بني أسد يؤنثه و يقول : هذه هُدَىً مستقيمة … قال أبو إسحٰق : قوله عز و جل “قل إن هدى الله هو الهدي” ؛ أي الصراط الذي دعا إليه هو طريق الحق .

 

– المُتَّقِينَ:

أورد صاحب اللسان اللفظة في بابين (تقي – وقي) و في باب (تقي) قال : تَقَى الله تَقْيًا خافه و التاء مبدلة من واو …. ثم أحال الأمر على باب (وقى) فقال فيه :

وقى : وقاه الله وَقْيًا و وِقَايَةً : صانه … و وقاه صانه و وقاه ما يكره … و وقاه : حماه منه …

تَوَقَّى و اتَّقَىٰ و قد تَوَقَّيتُ و اتَّقَيتُ الشيء و تَقَيْتُه أَتَّقِيه و أَتْقِيه تُقَىً و تِقْيَة و تِقاءً : حَذِرْتُه و الاسم التَّقْوى التاء بدلٌ من الواو و الواو بدلٌ من الياء و في التنزيل “و آتاهم تقواهم” أي جزاء تقواهم …

قال أبو بكر : رجل تَقِيٌّ و يُجْمَعُ أتقياء ، و معناه أنه مُوَقٍّ نفسَه من العذاب و المعاصي بالعمل الصالح …

قال الجوهري : اتَّقَىٰ يَتَّقِي كان في الأصل اوْتَقَىٰ على افتعل فقُلِبَت الواو ياءً لانكسار ما قبلها و أُبْدِلَتْ منها التاء و أُدغِمَتْ فلما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء من نفس الحرف فجعلوه اتَّقَىٰ يَتَّقِي بفتح التاء . (أ.هـ)

***

 

* ثانيًا رؤيتي لدراما المعنى في هذه الآية :

إن هذه الآية و ما احتملته من إحكام نسج لَتُثبتُ يقينًا أن هذا النسج لا يأتي إلا من لدن عليم خبير.

لقد استُهِلَّت الآية باسم الإشارة (ذلك) المُشِير إلى مُشار بعيد هو الكتاب ، و ما أُبْعِدَ المشار إليه إلا لعلتين:

(الأولىٰ) لعظمته و جلاله و بُعْدِه عن أن يُنَالَ ؛ بمعنى أن لا أحدَ مستطيع أن يأتي بمثله أو قادرٌ على التدخل في نصه .

(الثانية) لبُعدِ منبع إتيانه فما هو من قول محمد و إنما هو تنزل كاملا من مكان بعيد عنه و هذا ما ستثبته الآية نفسُها .

ثم أعقبت الآية اسم الإشارة بالكتاب ليكون هو المشار إليه و في بنيته أمران غاية في الخطورة:

(الأول) دخول “أل” الزائدة عليه والتي رافقته عند انتقاله إلى العَلَمِيَّة لتؤكد قَصْرًا أنه هو الكتاب و ما من كتاب دونه ، تأكيدًا على أنه الكتاب الخاتم و أن ما سبقه من نصوص لديانات اُخَرَ ما كانت كُتُبًا و إنما كانت مجرد أسفار و هذا ما يحيلني إلى الفرق المعنوي بين الكتاب و السِّفر الذي أورده صاحب اللسان ؛ فالكتاب ما أُعِدَّ مسبقًا دون أن يتدخل متلقيه فيه بشيء ثم أتاه تامًّا وإن كان الإتيان قد حدث مُجَزَّءًا ، ذلك لأن السِّفْرَ و إن كان ضخمًا إنما يكون بتدخل حامله في نصه و كتابته أو كتابة بعضه .

 

(الثاني) تسميتُه بالكتاب لا السِّفْر و ذلك يحيلني إلى أخطر القضايا التي شغلتني أعوامًا طوالا : لماذا كفل الله لهذا النصِّ الحفظ دون سائر نصوص الأديان الأخرىٰ إذا كانت كلها من عند الله ؟ أعندَ الله “خيارٌ و فاقوس” أو “أكان هذا الكتاب على رأسه ريشةٌ ؟ كما يقول المثلان الشعبيان ؟

سأقف أولا على موطنٍ لسكتةٍ تحدث هنا لتحيلني لهذا المعنى و تؤكد لي صدق ما سأدعيه بعد قليل ..

وقبل أن أحقق السكتة فسوف أستعرض ما هي السكتة حتى يتلقف قارئي ما سأدعيه قانعًا راضيًا .

(الاستراحة أو السكتة) و هي عند علماء الصوت وسيلة صوتية لمنح الكلام خاصة الاستمرارية عند الوقفة أو السكتة في فتراتها الزمنية ؛ إذ لا يكاد يلحظها السامع غير المجرب أو يتوقع حدوثها ، إنها فرصة لمجرد أخذ النفس أو ما يسميه بعضهم “سرقة النَّفَس” و لا قواعد ضابطة لها و يتوقف تفعيلها على قدرة المتكلم و على فهمه و استيعابه لقواعد اللغة و هي في حاجة إلى خبرة و دُرْبَةٍ حتى لا تمتد في فترتها الزمنية إلى ما يشبه الوقفة أو السكوت فيُفسِدُ المعنى .

والملاحظ أن بعض قراء القرآن الكريم كثيرًا ما يعملون هذه الاستراحة عندما تطول الآيةُ قصدًا إلى الإمعان في التطريب و التلحين و تلوين الصوت لجذب المستمعين و كسب انتباههم و تعلقهم بهذا الأداء المطرب … و مهما يكن من أمر فإن للفواصل الصوتية – مصاحبة التنغيم – دورًا بارزًا في دقة التحليل اللغوي و على الأخص في حسبانها عاملا فاعلاً في تصنيف الجمل والعبارات إلى أجناسها النحوية المختلفة و في توجيه الإعراب كذلك مما يكون له الأثر الأكبر في تحويل مسارات الخط الدرامي للمعنى ؛ فهناك آيات قرآنية كريمة تلقي إلينا بأكثر من وجه إعرابي و بالتالي بأكثر من معنىً و بتقليب هذه الأوجه و النظر الدقيق في أحوالها المختلفة نرى أن المسوغ الحقيقي لها كيفية أدائها نطقًا بما يلفها من ظواهرَ صوتيةٍ تمنح التراكيب ألوانًا موسيقية معينة ترشد إلى تسويغ هذا الوجه أو ذاك … و هناكَ شواهدُ كثيرة في القرآن و هذه الآية وحدها فيها ثلاث سكتات إحداها واجبة و الأخريان جائزتان .

(ذلك الكتاب لا ريب فيه) : تتيح لي قواعد الصوت أن أسترقَ النَّفَسَ بعد “الكتاب” أو بعد “فيه” و في كلا الحالتين يتحول المسار الدرامي للمعنى ، فإن سكتُّ بعد “الكتاب” أتتمتُ الجملة بمُخْبَرٍ عنه و مُخْبَرٍ به و أصبح اسم الإشارة على الابتداء و “الكتابُ” على الإخبار عن المبتدأ … و قد أسكت بعد “فيه” فيرفع الكتابُ على البدلية و جملة لا ريبَ فيه تكون المخبر به عن “ذلك” …

و في حالة السكتة الأولى فإن الجملة أخبرتني أن “ذلك الكتاب” هو الأوحد الذي لا كتاب سواه نزل من السماء و أي نص غيره إنما هو سِفْرٌ من وضع البشر …

فإذا سألني سائل : و هل الكتب السماوية السابقة للقرآن ليست من عند الله ؟ أقول : إنما الكتب الأخرى التي سبقت القرآن كانت أسفارًا ؛ معناها من عند الله دون مبناها … و سأضرب مثالاً للتوضيح:

هَبْ أنك اشتريتَ قميصًا لولدك بمبلغ من المال كبير ثم وضعه لك البائع في “كِيسٍ” مجاني ، فإنك حين تذهب به لولدك تقول له : هذا قميص غالٍ فإياك أن تفرط فيه دون أن تُعيرَ الكيسَ اهتمامًا و لكنك إن ألزمك البائع أن تدفع ثمن كيس القميص بأغلى من القميص نفسه فإنك حين تذهب به لولدك تقول له : أتيتُ لك بقميص كيسه أغلى منه فإياك أن تفرط في الكيس ! و سوف تتخذ كافة إجراءات حفظ الكيس بنفس درجة اهتمامك بالقميص …

فاعتبر أن المعنى هو القميص و المبنى اللفظي هو الكيس الذي يحمله ، هنا ستدرك أن النصوص التي سبقت الإسلام كانت تنزل على رسلها معنىً لا مبنىً ؛ فينزل الوحي بالمعنى يبلغه للرسول من الرسل السابقين و يقول له أنبئْ قومَك به فيصوغ ذلك الرسول المبنى الذي يوصل به المعنى المُنَزَّلَ عليه ؛ إذن كانت النصوص السابقة للقرآن قد نزلت من عند الله معنىً لا مبنىً و بقاعدة أن الله ما خلق شيئًا و يضيعه ؛ فإن معاني هذه النصوص بقيتْ لأنها من عند الله و أما مبانيها فقد فُقِدَتْ لأنها لم تكن من صياغة الله كمبانٍ …

أما في حالة القرآن فإن ما نزل على محمد كان معنىً و مبنىً لذلك كفل الله له الحفظ ؛ لأن الله لا يضيع مبنىً هو صائغه .

أعود لبنية جملة “ذلك الكتابُ” و ما يحتمله أحد أوجه الصوت بأخذ النَّفَس بعد الكتاب ليؤكد لي المعنى الدرامي أن ذلك هو الكتاب و لا كتاب سواه و أما ما دونه إنما هو أسفارٌ بما يحمله اللفظ من مدلول أشرتُ إليه سالفًا .

و أما قوله “لا ريبَ فيه” فقد انتخب النص القرآني “لا” التي هي لنفي الجنس حتى يؤكد نفي الريب نفيًا عامًّا و مطلقًا بما أقرته قواعد علم النحو العربي و إذا كان “الرَّيبُ” كما أورد صاحب اللسان هو : الشَّكُّ و الإساءةُ و الإزعاج و المكروه ؛ فإن لا لم تنفِ الشَّكَ فقط عن هذا الكتاب و إنما نفتْ مطلقًا الشك و الإساءة و الإزعاج و المكروه ؛ فليس فيه ما يسيء أو يزعج أو يُكْرَهَ ، و لذلك فقد أنبأتنا كتب التراث أن أعرابيًّا فصيحًا – لم يكن مسلمًا – حين سمع قوله تعالى “فاصدع بما تؤمر” سجد و لما سُئِلَ : لِمَ سَجَدْتَ ؟ قال : لفصاحة ما سمعتُ … إن حروف الصاد و الدال و العين من الحروف التي أذا اجتمعت – عند العرب الفصحاء – أحدثت إزعاجًا صوتيًّا تنفر منه سليقة العرب و لا تستحب جمعها ، و ذلك الأعرابي كان يعلم هذا ، و لكنه حين أستمعها في القرآن أتته هيِّنَةً لَيِّنَةً فأصابه اليقينُ أنها ليست من فعل بَشَرٍ فسجد لفصاحتها و عذوبتها .

و أما قول الآية (فيه) فقد حملت معنى حرف الجر فيه وما يدل عليه من التوغل في التفاصيل لتأكيد نفي الرِّيبَة عن أدق تفاصيل هذا الكتاب .

أعود إلى البنية النصية في قوله تعالى “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين”

هنا أتاحت لي قواعد التلاوة سكتتين إحداهما واجبة سأفصلها أولا ثم أعود إلى ذلك الإعجاز في النسج القرآني :

إنَّ من يتلو القرآن مُلِمًّا بقواعد التلاوة سيجد الرسم الآتي في الآية «ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)» فبين (ريب) و (فيه) هذه العلامة (.·.) ثم تتكرر بين (فيه) و (هدى) ، وهذه العلامة يعرفها كل من يقرأ القرآن واسمها “علامة تعانق الوقف مع الوصل” أو”علامة التجاذب” وهذه العلامة تتكرر مرتين وتلزم القارئ بالوقوف عند إحدى المرتين ، فإن لم يقف عند الأولى كان ملزمًا بالوقوف عند الثانية وإن لم يقف عند الثانية كان ملزمًا بالوقوف عند الأولى ولا يجوز الوقوف عند الاثنتين .

لكن ! ألم يسأل أحدنا نفسه لماذا ألزَمَتْنا العلامتان بضرورة الوقوف على إحداهما ؟

إن الوقوف على إحدى العلامتين يعطي معنىً دراميًّا مغايرًا لذلك المعنى الذي يتحقق بالوقوف على الأخرى .

فإننا إن وقفنا عند الأولى سنقول (ذلك الكتاب لا ريبَ) وهذا يأخذنا لمعنى نفي الريبة عن اسم الإشارة الذي يشير إلى الكتاب ، فالريب منفي عن الكتاب بالكلية لأنه كله من عند الله .وإننا إن وقفنا عند الثانية سنقول (ذلك الكتاب لا ريب فيه) انتقل نفي الريبة لما في الكتاب من محتوىً تفصيلي ؛ فتفاصيل ذلك الكتاب كلها من عند الله دونَ أن يتدخلَ محمدٌ في أيٍّ منها .

هنا ندرك أن أحد الوقوفين في التلاوة ينفي الريبة عن الكل والوقوف الآخر ينفي الريبة عن الأجزاء والتفاصيل والمحتوى .

وكأن العلامتين تؤكدان لنا نفي الريبة عن هذا الكتاب (جملة وتفصيلا) .

أيُّ إحكامٍ ذلك الذي في نسج آيِ ذلك الكتاب و أيُّ عقلٍ بَشَرِيٍّ يستطيع أن يُحْكِمَ نسجًا لغويًّا كهٰذا؟

وبعد كل ذلك التدليل على صدق هذا الكتاب جملة و تفصيلا بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ و الرِّيبَةِ عند كل ذي عقلٍ يعي أخذنا التنامي الدرامي ليختم لنا المشهد بأن من أراد أن يتَّقي و يحتمي من أي عذاب فعليه أن يهتدي به و لا شيءَ سواه فيكون قد بلغ حد الرشاد .

سبحانك اللهم آمنتُ بنفسي و عقلي و فهمي و وعيي بأن قرآنك هذا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و آمنتُ موقِنًا لا مُلَقَّنًا أنه كتابك المنزل و إني لعامل به ما وسعتني طاقتي البدنية و النفسية بعد أن بلغتُ مبلغ استطابة طعمه حقيقةً لا مجازًا بما لم يذُقْه لساني من طعوم هذه الدنيا و إن غلت و علت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى