من إشكاليات الترجمة الدينية.. ترجمة الاستعارة التهكمية (26)
أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي –
التهكم هو السخرية، أسلوب يُستعمل في نقيض الشيء أو ضده، ويقصد به التنبيه أو التقريع، وفيه تنفيس عن غضب المرسِل أو عدم رضاه، وقد لا يعي المرسَل إليه الرسالة، فيكون “كالأطرش في الزفّة”.
تتفاوت أساليب السخرية والتهكم، وأجملها ما أثار البسمة أو الضحكة. هناك من يبدع في أسلوب التهكم، فيقوم بنقل فکرته بأيسر السبل، وكأنه يقول أمرًا جِدّيًا، وفي سبيل ذلك نراه يعمد إلى المخالفة، فالمحاسن قد تكون مساوئ، والمساوئ محاسن، والجمال يقف أمام القبح، والسمعة الحسنة أمام السيئة، والموت أمام الحياة. لكن الهدف الأول هو أن يُشهر قلمه أو لسانه ضد مظاهر الرذيلة والقبح والجهالة. وتبقى في الأدب المتعة، ورحم الله الجاحظ- شيخ الساخرين!
الاستعارة التهكُّمية: هي اللفظ المستعمل في ضد معناه تنزيلا للتضادِّ منزلة التناسب لقصد التهكم والاستهزاء. أسوق لكم بعض الآيات من هذه الاستعارة التهكمية أو التمليحية كما سماها بعض البلاغيين. يقول تعالى: فبشِّرهم بعذاب أليم- آل عمران، 21، أي أنذِرهم، فاستعيرت البشارة وهي أمر إيجابي– الإخبار بما يَسرّ للإنذار الذي هو ضدها، بإدخاله من جنسها على سبيل التلميح والاستهزاء. (القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 420)
أشار الفرّاء إلى مثل هذا الأسلوب في شرحه لقوله تعالى- فأثابكم غمًّا بغمّ- آل عمران، 153، والإثابة هي في معنى العقاب. نظر ابن جنّي إلى هذا الأسلوب على أنه مَجاز، وذلك في قوله تعالى – ذُق إنك أنت العزيز الكريم- الدخان، 49 فهو (أبو جهل) في النار ذليل ومهان، لكنه خوطب بما كان يُخاطب فيه بالدنيا، وفي هذا ضرب من التقريع وتذكيره بسوء ما كان يفعل. أما القصد هنا في قوله- “العزيز الكريم”: الذليل اللئيم، فشبة الذلة بالعزة، واللؤم بالكرم على سبيل الاستعارة التصريحية.
ووردت آية أخرى في معرض التسفيه لشعيب من قبَل قومه- إنك لأنت الحليم الرشيد- هود، 87، وهم يقصدون: إنك لأنت السفيه الجاهل، إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به. هناك من سمّاها الاستعارة العِنادية، فالمعنى في الأصل لا يتوافق، كأن تقول للجبان: أنت أسد، أو بطل، وللبخيل: يا حاتم!
وفي شعر عنترة ننتبه لقوله:
وسيفي كان في الهيجا طبيبًا يداوي رأس من يشكو الصُّداعا
يداوي، والمتوقع بعلاج نافع، وإذا به قطع الرأس. وكقوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم- الصافات، 23. فأية هداية هذه؟! (انظر: الميداني- البلاغة العربية، ج2، ص 262). هي صور ساخرة، ونحن لا نصل إلى المعنى المقصود بيسر، بل بعد مسافة تفكير ومحاولة وتدبّر العبارات.
وإذا كان هذا حال أهل العربية من أبناءها، فلابد لمترجم معاني القرآن التوسل بأساليب خاصة في اللغة الأجنبية عن ترجمة هذه الاستعارات التهكمية، ربما يشمل هذا بعض علامات الترقيم؛ مثل علامات التعجب، وربما يحتاج إلى إرجاع الألفاظ إلى معانيها المقصودة ويضحي في سبيل ذلك بالأسلوب التهكمي التقريعي، وأحيانا يكون السياق مناسبا لنقل الاستعارة كما هي. فلننظر في ترجمة معاني بعض الآيات السابقة:
فبشرهم بعذاب أليم
Sahih International: give them tidings of a painful punishment.
Pickthall: promise them a painful doom.
Yusuf Ali: announce to them a grievous penalty.
Shakir: announce to them a painful chastisement.
Muhammad Sarwar: Warn those who deny the revelations of God …that they will suffer a painful torment.
Mohsin Khan: announce to them a painful torment.
Arberry: do thou give them the good tidings of a painful chastisement;
نجد أن البعض استخدم لفظ announce الذي يعني (الإعلام والإخبار) مكان البشارة، والبعض استخدم promise التي تعني (الوعد والتوعد)، والبعض استخدم warn بمعنى (التحذير والوعيد)، والأخير Arberryترجمها حرفيا بـ good tidings البشارة بالخير.. بل أكدها بـ do thou give them ، بما يشكل صدمة للقارئ بوجود القصاص المؤلم painful chastisement في النهاية.
وفي ترجمة: ذُق إنك أنت العزيز الكريم
Sahih International: [It will be said], “Taste! Indeed, you are the honored, the noble!
Pickthall: (Saying): Taste! Lo! thou wast forsooth the mighty, the noble!
Yusuf Ali: “Taste thou (this)! Truly wast thou mighty, full of honour!
Shakir: Taste; you forsooth are the mighty, the honorable:
Muhammad Sarwar: They will be told, “Suffer the torment. You had thought yourselves to be majestic and honorable.
Mohsin Khan: “Taste you (this)! Verily, you were (pretending to be) the mighty, the generous!
Arberry: ‘Taste! Surely thou art the mighty, the noble.
وكما نرى تفاوت استراتيجيات المترجمين. فالبعض استخدم لفظة تهكمية قديمة forsooth التي تعني (بالتأكيد)، والبعض اختار تغيير الزمن إلى الماضي: يعني كنت في الدنيا عزيزا كريما وأنك لست كذلك الآنPickthall, Yusuf Ali، وهذا ليس المقصود من الاستعارة في الآية. والبعض اختار أن تكون العزة والكرامة متوهمة عند المعذبين، فاستخدما ما يشير إلى التوهم thought yourselves to be, pretending to be. مع ملاحظة أن ترجمة (الكريم) نفسها تباينت بينه؛ فبعضهم ترجمها من (الكرامة) honour، والبعض ترجمها من (الكرم) generous. ولكن الذي اختلف تماما هو Arberry مرة ثانية، حيث لم يستخدم أي أسلوب يبين التهكم أو التوهم أو المضي، بل استخدم لفظة التأكيد surely، ففاته المعنى تماما.
وفي ترجمة: – إنك لأنت الحليم الرشيد
Sahih International: Indeed, you are the forbearing, the discerning!”
Pickthall: Lo! thou art the mild, the guide to right behaviour.
Yusuf Ali: truly, thou art the one that forbeareth with faults and is right-minded!”
Shakir: Forsooth you are the forbearing, the right-directing one.
Muhammad Sarwar: We still believe that you are a person of forbearance and understanding.”
Mohsin Khan: Verily, you are the forbearer, right-minded!” (They said this sarcastically).
Arberry: Thou art the clement one, the right-minded.’
نلاحظ أن البعض استخدم لفظة forsooth التهكمية مرة أخرى، والبعض علق على الكلام بالقول إنهم يستهزؤون Mohsen Khan، والبعض أخذ الكلام على علته وترجمه كما هو دون إشارة إلى التهكم Pickthall, Arberry، والبعض وضع علامات التعجب في نهاية القول، والبعض فهم من العبارة أنهم يتوددون إلى شعيب عليه السلام، ولا يتهكمون عليه، فزاد في الترجمة (مازلنا نظن أنك… we still believe you are..
ومهما يكن من أمر، فلابد من مراعاة سياق الألفاظ ومناسبتها، خاصة أنه – كما رأينا- ليس من السهل تفهم المقصد من الاستعارات التهكمية حتى عند القارئ العربي دون أخذ السياق في الاعتبار.
والله أعلم.