قصاصات محمد الشميري العنيدة جدا

د. قائد غيلان | اليمن

القصة القصيرة جدا من أحدث الأجناس الأدبية جاءت متزامنة مع الثورة الرقمية وظهور  وسائل التواصل الاجتماعي مثل الواتس أب والفيسبوك وتويتر التي فرضت  أسلوبا جديدا في التواصل  يقوم على السرعة والإيجاز الشديد، لهذا جاءت الق.ق.ج.

كتابة نوعية جديدة تتسم بالسرعة والإيجاز والاختزال والتكثيف والمفارقة والإيحاء، والرمزية والتلميح، في جمل قصيرة  تقوم على الإدهاش وتوتير المواقف وتأزيم الأحداث في كتابة مبنية على الحذف والاختزال والانزياح والخرق الجمالي. وأغلب هذه  السمات مشتركة ببنها وبين القصة القصيرة، فالق. ق. ج.

فن متطور عن القصة القصيرة ومنسلخ عنه، وهي كما يقول خصومها ما هي إلا قصة قصيرة أضيفت إليها الصفة “جدا ” ومن هنا تأتي صعوبة الفصل بين القصة القصيرة والقصيرة القصيرة جدا.

فقد كان ينظر إلى الق.ق.ج باعتبارها جنسا أدبيا متطفّلا على جنسين أدبين مختلفين هما القصة القصيرة وقصيدة النثر، ولهذا قالوا عنها بأنها ذلك الجنس الأدبي الحائر بين الشعر والقصة.

فأنت في كثير من الأحيان لا تستطيع الحكم على نص بأنه ق.ق.ج. أو قصيدة نثر إلا من خلال الصفة التي يعطيها صاحبها في عنوان القصة أو غلاف الكتاب، مما جعل البعض يقول ساخرا إن “النـيّة” هي التي تحدد النوع، فإذا نويت أن تجعلها شعرا فهي قصيدة نثرية وإن أردت أن تحسبها قصة فهي قصة.

 لكن الجدل حول جنس الق.ق.ج قد حسم منهجيا في السنوات الأخيرة، فلم تعد الق.ق.ج. هي ذلك الجنس الأدبي الحائر بين الشعر والقصة، بل أصبحت جنسا أدبيا مستقلا، له حدوده وسماته الخاصة وله مبدعوه وأنصاره ومنظروه.

إن الق.ق.ج. فن قائم بذاته له خصائصُه، التي تجعله، يتفرّد عن أيّ نوع أدبيٍّ آخر، وهو قد يستفيد من الغنون والأجناس الأدبية والغنون الأخرى، كالفنون والموسيقى ولشعر واللقطات السينمائية والتصويرية والمسرحية والرّواية والقصّة القصيرة فضلا عن علاقته التاريخية بالنكت والنوادر والأخبار والشذرات والخواطر ..

إن القصة القصيرة جدا جنس أدبي مستقل له شروطه الخاصة، وأركانه النّابعة من بنيته وكينونته المستقلّة، يمتاز بالقصر الشديد، والإيحاء المكثف، والمفارقة والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، والحكائية أي المقصدية القصصية الموجزة، والرمزية والتلميح، والاقتضاب، والتجريب، والنفَس الجُملي القصير القائم على توتير وتأزيم المواقف والأحداث، كما يوظف تقنيات الحذف والاختزال والإضمار.

إنها كتابة تتسم بالإدهاش والمفارقة التكثيف والتلغيز والترميز والأسطرة والانزياح والتناص والسخرية.

وقد استجاب المبدع اليمني لهذا الجنس الأدبي الجديد وتعامل معه بحرفية عالية وجرأة غير عادية، إذ تعدى الأمر عند بعضهم مجرد التجريب على مستوى البنية والأسلوب إلى التعدي على المصطلح نفسه، فلا يعترف بمسمى القصة القصيرة جدا، بل يتصرف فيه، ويعطيه بدائل خاصة من عنده، فيسميها قصاصات قصيرة جدا مثل الدكتور محمد الشميري أو صلوات قصيرة جدا مثل الأستاذة انتصار السري.

إنه شكل من أشكال التمرد وعدم التسليم للقيود المدرسية و تفنن وتنويع يطال المصطلح نفسه، أو هو الحذر الإبداعي في تسكين نصوصهم ضمن جنس أدبي مازال يصنع تاريخه ويشكل شخصيته، يظهر ذلك في تجنب توصيف أعمالهم توصيفا دقيقا، ربما من باب إشراك القارئ في تحديد الجنس الأدبي للمقروء.

من ذلك هذا الإصدار  الجديد للكاتب المبدع الدكتور محمد الشميري تحت عنوان:(رياح في قصاصة عنيدة) حيث وصفه في الغلاف بأنه(قصاصات قصيرة جدا)، وهو عنوان يتجنب وصف ” قصص” ويترك ذلك للقارئ.

 يحتوي هذا الكتاب قصصا قصيرة جدا يتخللها عدد قليل من النصوص الطويلة التي تتجاوز الصفحتين، والحجم محدد رئيسي من محددات الق. ق. ج.

كُتِبت النصوص جميعها بلغة جميلة تتوخى الإدهاش والمفارقة، بل تتعدى المفارقة إلى درجة أعلى وهي غياب الروابط، مما يقطع على المتلقي إمكانية القفز على النص وتوقّع نهاية معينة له انطلاقا من خبرته مع الق. ق. ج التي لابد أن تصدمك بنهاية مغايرة لما فكرت فيه.

إن نصوص هذه المجموعة تحتفظ بأسرارها منذ العناوين التي اختيرت بعناية واختزال جميلين، وحتى نهاية كل نص. فأنت دائما أمام رياح عاتية تحتضنها قصاصة صغيرة، وليس بوسعك أن تدرك ما تقوله الرياح في قراءة واحدة.

سأتوقف بداية عند أقصر قصة، وهي “بين السطور”:

“خانت حبيبها مع أحد أبطال روايتها، قتلهما معاً في قراءته النقدية!” .. 

في هذا النص هناك حدث، وهي حالة خيانة امرأة لحبيبها: ” خانت حبيبها” في مفارقة بين الحب والخيانة، فعندما تحدث الخيانة ينتهي الحب، إذ يصبح العشيق الذي تتم معه الخيانة هو الحبيب، ومازال النص يسميه حبيبها ” خانت حبيبها” لكن تلك الخيانة تحدث مع شخصية اخترعتها الكاتبة في خيالها، إذ يتضح أن العاشق والمعشوقة كاتبان (روائية – ناقد) فالضمير المؤنث في خانت يعود لروائية والضمير المذكر لحبيبها يعود لناقد. الكتابة الإبداعية عملية انتاجية/ إنجابية، فعل مؤنث، بينما النقد عملية هجومية، فعل ذكوري.

 فنحن إذاً أمام لعبة على مستوى الخلق الإبداعي، فيه بطلة ورجلان؛ الكاتبة وبطل الرواية والناقد، الكاتبة خانت الناقد حين خلقت له شخصية ورقية منافسة له، وأوحت له أنها وقعت في حبه، الشخصية الورقية توقع الكاتبة في حبها،  تقع الكاتبة في علاقة مع مخلوقتها الورقية، ويأتي الناقد فيقوم بدور هدمي تدميري إذ يقتل تلك القصة العاطفية الافتراضية ويقضي على أطرافها بقتل الخالقة والمخلوق في قراءته النقدية، أي إن العنف الذي يمارسه الناقد يظل على مستوى الورق، فهو يمارس سلطته العدوانية  الذكورية داخل النص مستغلا إمكانياته المعرفية. تمتلك المرأة في النص إمكانيات إبداعية توظفها في الخلق والإبداع والحب، ويمتلك الرجل إمكانيات معرفية يوظفها في الانتقام  وتدمير المواهب. 

 ‏ تتداخل العوالم في هذا النص، العالم الحقيقي والعالم الخيالي على الورق، تزول الحدود، إذ يختلط عالم الواقع بعالم الخيال، فالبطل الورقي ينافس رجلا حقيقيا من لحم ودم، ويفوز بقلب الكاتبة، ويتحول الكاتب الحقيقي “الناقد” إلى رجل من ورق يقتحم العالم الداخلي للرواية فيقتل بطلها ويقتل كاتبتها في قراءة واحدة، ثم يخرج ليمارس حياته الطبيعية.

 ‏ يصور النص المرأة تمتلك فائضا إبداعيا “مؤلِّفة روائية” ورغبة إضافية “اختراع عشيق” ، فهي تتعامل مع حبيب في الواقع وتخلق لها عاشقا إضافيا على الورق تمارس معه الخيانة، فهي تعيش مع رجل واقعي وتكمل حياتها مع شخصية ورقية خيالية، ببنما لا يمتلك الرجل إلا امراة واحدة مشغولة بمخلوقاتها الورقية، يمارس الرجل الواقعي دور القتل المعنوي في حق شخصين بدافع الحقد،  فالناقد في النص يوظف إمكانيانه النقدية في الانتقام من الآخر وتحطيمه وقتله، بيننا توظف المراة إمكانيانها في الإبداع والحب، تبدع رواية وتخترع عشيقا. وهكذا ينحاز النص من وجهة نظر التحليل الثقافي لصالح المرأة، إنه نص  ينحاز للمؤنث ويدين الرجل، إذ نسب لها فعل الإبداع والحب واختراع العشيق، وترك للرجل فعل الانتقام والقتل وتدمير المواهب، لكن النص يصف عمليتها العشقية بالخيانة، وهي إدانة أخلاقية لعلاقة حب بين الكاتبة وشخصية اخترعها خيالها،  وكأنه يفترض أن تخلص لرجل يقف خارج النص ولا تسمح لعاطفتها أن تميل حتى مع ما تبدعه من لعبة خيالية على الورق، لا يحق لها حتى الدخول في حالة عشق مع أشكال وأرواح صنعتها قريحتها ورسمتها على الورق، بينما بجوز للرجل أن يثأر لكرامته فيرتكب جربمة شرف في حق كاتبة صنعت لنفسها عالما خاصا مستقلا بعيدا عن وصايته ولو على مستوى الخيال. 

 ‏إننا في هذا النص أمام قصة حب تحدث بين السطور، وخيانة عشقية تتم بين السطور أيضا. وإذا كانت عبارة بين السطور (between lines) تعني ذلك المعنى الذي لا تدركه من خلال الكلمات، بل بالغوص بعيدا خارج الكلمات وخلف السطور فإننا نكون أمام قصة مراوغة تخفي وتضمر أكثر مما تظهر، إننا أمام نص هو في الحقيقة سطر واحد، لكنه يتحدث عن رواية وقصة حب وخيانة عشقية وجريمة قتل. علاقة عشقية يؤطرها سطر واحد وتحجبها سطور. إن السطور عبارة عن مكان مقفل أو شقة مفروشة يمارس فيه الكاتب عشقه وغوايته وخياناته الافتراضية. 

 ‏يذكر النص الكاتبة والناقد بالصفة وضمير الغائب، ويعطي صفة ” بطل” للشخصية الورقية داخل الرواية، وكلمة بطل ذات دلالة إيجابية، فالبطل عادة لا يكون شرّيرا، بل يتحول في هذا النص إلى شهيد، وكذلك البطلة تصبح شهيدة قصة حب اخترعتها وصنعت أبطالها، ويصبح الناقد هو الشخصية الشريرة الوحيدة في النص إذ يصبح قاتلا حقودا. إننا امام كاتبة ملتبسة تعيش عالما مقسما بين رجل حقيقي وشخصية من ثنع خيالها، عندها حبيب وعشيق يسني النص علاقتها به ” خيانة” فهل هي خيانة للنص أم للرجل، وما دمنا مع قصة عنوانها ” بين السطور، فإن الخيانة خيانة للنص لا للرجل، لهذا يوجه الناقد سهامه للنص ذاته فيقتلهما داخل النص بقراءة نقدية. لكن الخيانة تنحاز للبطل للورقي، أي أن الكاتبة مخلصة لمخلوقاتها الورقية اكثر من وفائها لعلاقتها الفعلية وحبيبها الحقيقي، وبهذا يلتبس مهومنا لفعل الخيانة، ويندمج بالنقيض، فالخيانة في حالة العملية الإبداعية ليست إلا وفاء من نوع آخر، أيُّ وفاءٍ هذا الذي يجعلك تدخل في علاقة غرام مع مخلوقاتك الإبداعية، أي وفاء هذا الذي يجعل طرفك الآخر يغار من هذا النص الذي استولى على وقتك وعواطفك فيدخل يقبض على البطل داخل النص ويرديه قتيلا ؟!

 ‏وإذا كان الناقد في الأصل قارئا نوعياً شريكا في العملية الإبداعية باعتبار أن النص لا يكتمل إلا بالقراؤة، فإن الناقد القاتل هنا ما هو صورة من صور سوء الفهم والتوظيف البرجماتي النفعي لعملية القراءة، فتتحول القراءة النقدية من قراءة منتجة إلى قراءة مغرضة، إنها صورة من صور النقد الموجّه ضد ما تكتبه النساء، إذ يصبح القارئ الناقد شرطياً وحاكماً شرعيا أو شيخ قبيلة أو فقيها يدخل إلى النص الأدبي بأدوات غير أدبية وغير لغوية، فيجني على النص ويجني على الكاتب، وتغدو القراءة في هذه الحالة اغتيالا للنص والكاتب وقتل لكل تفسير جمالي أو فني، أو قتل للعملية الإبداعية برمتها.

 ‏إن هذا النص القصير جدا الذي لا يتجاوز سطرا وكلمة واحدة قد طرح جملة إشكالات ثقافية وإبداعية واجتماعية، تمثلت في ثنائيات:  الإبداع/النقد، المرأة/ الرجل، الكتابة/ القراءة،  الخيال / الواقع، الحب/ الكره، التسامح/ الانتقام، الإبداع الحقيقي المنصف/ الإبداع المتحامل، الحرية/ الرقابة،  الخلق/ القتل، الحق/ الاعتداء، الخيانة/الحرية الشخصية، الحق/ تجاوز الحد. وهي أمور لا يستطيع الإحاطة بها دون أن يقع في المباشرة والتسطيح إلا نص إبداعي فائق الدقة والثراء  والقوة مثل نصوص المبدع محمد الشميري في هذه المجموعة ..

هنالك دائما مسافة بين النص والقارئ، خاصة في النصوص عالية الدقة مثل نصوص هذه المجموعة. وسأقف هنا مع نص متوسط الحجم أنموذجا لنصوص المجموعة، وهو بعنوان ” سؤال من الدرجة الثالثة”..

يتوزع النص في ست فقرات أو مشاهد مختلفة الأساليب؛ ففي الفقرتين الأولى والثانية نجد سؤالين يطرحهما السارد، وهو ما قد يرضي القارئ الذي سيبحث عن سؤال في النص مادام لفظ ” سؤال” موجود في العنوان:

 “لماذا تصرون على أن الحقيقة هي تلك القابعة في عمق التقكير وأن لونها ناصع كالحليب؟!

 لماذا تظلمون السطح والفهم القريب وتحتقرون صاحبه، ليعيش في الظل العازب ترفضه الجميلات؟!” 

  يدور التساؤل هنا حول ثنائية العمق/ السطح،  في انحياز واضح للسطح. ثم يترك النص هذا التساؤل وينتقل إلى مشاهد أخرى متناسيا تساؤلاته أو مهملا لها:

  ‏” كان صوت الممرضة يرهق الصدى، بل لم تنتظر سماع  ردّات فعلهم، ظلت عيناه فاغرة كأنما سمعت حديثها …

سرت في تضاريسه قشعريرة جعلته يعيد النطر في هندام غيبوبته، حكّت صلعته بنصف ظفر ودمعة، ثم توجّهت نحو الباب مغادرة قسم الحروق”.

يدخل النص الممرضة ثم المريض، ويصدمنا بعبارة” قسم الحروق” ما يجعلنا نعود إلى العنوان فالدرجة الثالثة التي كانت وصفا للسؤال تصبح الآن قابلة لتأويل آخر مرتبط بالحروق، وحروق الدرجة الثالثة هي أخطر أنواع الحروق، وذلك عندما تحرق جميع طبقات الجلد الثلاث، وقد يؤدي ذلك إلى تلف العظام والعضلات. 

ثم ينتقل النص إلى مشهد آخر:

“هناك في الحديقة الافتراضية للمستشفى كانت حبيبته تجلس على كرتون مهترئ كاحلامها الجافة، جلست إلى جوارها ووضعت ورقة ملوّنة بالتعديلات والأسماء ..”

 وهنا يدخل عنصر جديد “حبيبته” ومرأة أخرى، والأغرب هما مفردتا ” التعديلات والأسماء” وهنا تغيب الروابط بظهور عناصر جديدة لا علاقة لها بسياق المشاهد السابقة، ليملأها المتلقي بنفسه، ورغم ان النص يحتاج إلى تأمل عميق فالنص يدعونا في بدايته ألا نكون عميقين أكثر من اللازم، فالجمال موجود في السطح لا في الأعماق. ويختتم النص بهذه الفقرة:

‏”لم يكن يحاول الانتحار صدقيني؛ لكنه تخلّص من جلده المكتظ بالقبلات!”.. 

 ‏يطرح النص هنا إشكالية أخرى يدسها النص في كلمة واحدة ” صدقيني” لولا كلمة ” صدقيني” كنا سنعتبر العبارة من ضمن لغة السارد صاحب التساؤلات في البداية. كلمة ” صدقيني” تثري النص بفتح مجالات التأويل والبحث عن صاحب/ة العبارة ودلالاتها.

ما علاقة الأسئلة العميقة بحروق الدرجة الثالثة، وما علاقة ذلك بالممرضة والمرأة والأسماء والتعديلات والانتحار والقُبل، تلك فراغات يتركها النص للقارئ باعتباره شريكا في صنع النص و إنتاج الدلالة. 

 ‏كما أن التنويع في المشاهد والمراوغة في تقديم المعنى، وطرح عناصر غريبة على سياق النص تمنح النص شرعيته الأدبية وحقه في الانتماء لذلك الجنس الأدبي الذي يتكئ على مجموعة من الخصائص منها الإدهاش والمفارقة والتلميح والإيجاز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى