المخفي في ديوان ” فائض بالموت ” للشاعر الفلسطيني سميح محسن
رائد محمد الحواري | فلسطين
عندما يأتي الشاعر بعبارة/ببيت من الشعر لشاعر/كاتب آخر، ويضعه في قصيدته فإن هذا يثير المتلقي ويجعله يتوقف متسائلاً عن سبب هذا العمل، فهل هو (سرقة)؟، أم أن الشاعر أراد به شيئاً آخر، ربط ما يكتبه بما كتبه الآخرون؟، أم أن ما كتبه يعد تكملة لما بدأه غيره من الشعراء/الأدباء؟، أم أنه يريد (التجديد) وتقديم الفكرة بشكل/توزيع جديد كما يفعل الموسيقي مع الأغاني الكلاسيكية؟.
في نصّه الشعري المطوّل (فائض بالموت) يعمل الشاعر سميح محسن على إضافة مادة شعرية جديدة لا تخلو من التذكير بأبيات/عبارات استخدمها غيره من الشعراء/الأدباء، يفتتح الديوان:
” جئنا خفافا
من وراء جدائل الغابات
تحرسنا صخور
في تجاويف الجبل” ص 9،
كأننا أمام قصيدتي “الجسر” للشاعر خليل حاوي وللشاعر محمود درويش، حيث أن الأول كتبها بضمير الغائب: “يَعْبرون الجسرَ في الصبحِ خِفافًا/أضلعي امتدّتْ لهم جسرًا وطيدْ/من كهوفِ الشرقِ/من مستنقعِ الشرق/إلى الشرقِ الجديدْ/أضلعي امتدّت لهم جسرًا وطيدْ”، والثاني بدأ القصيدة بضمير أنا المتكلم ثم غيّبهم وتحدث عنهم بضمير الغائب، كما فعل سلفه “حاوي”: ” مشياً على الأقدام، /أو زحفاً على الأيدي نعود،
قالوا.. /وكان الصخر يضمر /والمساء يدا تقود .. /لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق /دم ومصيدة، وبيد /كل القوافل قبلهم غاصت، /وكان النهر يبصق ضفّتيه /قطعا من اللحم المفتت، /في وجوه العائدين /كانوا ثلاثة عائدين: /شيخ، وابنته، وجندي8/ قديم /يقفون عند الجسر”، إذن “سميح محسن” (يحيي) قصيدتي الجسر، والعملية الفدائية، وشهداءها، ويضيف تحسينات/تجديدات/تغييرات على الحدث بحيث قدمها بضمير المتكلم/المتحدث “نحن/أنا” وبما أن ضمير الأنا أشد وقعاً وأثراً وحميمية عل المتلقي، لأن فيه روحاً فإن القصيدة تقدمنا من الماضي، من النضال، من الشهداء، ومن الأدب/القصائد، بتوزيع/بطريقة جديدة، وهذا لوحده كاف لنقول أن الشاعر “سميح محسن”: “حرّك المياه الراكدة” وحرّك فينا فعلاً فقدناه/ وحدثاً تجاهلناه.
وبما أن ليس كل ما هو جديد مفيداً وجميلاً، فإن هذا يستدعي (المقارنة) بين القصائد الثلاث، وهذا عمل شاق ويحتاج وقتاً وقدرات كبيرة لا أقدر عليها، لكن بما أن هناك قصيدة جديدة فلا بأس من التوقف عندها بشيء من التحليل.
جمالية فاتحة القصيدة من خلال حملها المعنى الواقعي والرمزي معا، “الغابات، الصخور، الجبل، تحرسنا”، والرمز أتى من خلال “جدائل” والتي ستجعل المتلقي يأخذ المعنى على أنه (غير واقعي) وواقعي، وهذه الثانية في الطرح تخدم أيضا فكرة الثانية القصيدة مع قصيدتي حاوي ودرويش، اللتبن تداخل فيهما الحدث الواقعي من الجمالي الأدبي.
وقبل أن نغادر المقطع ننوه إلى وجود الطبيعة، “غابات صخور، الجبل” لكنها طبيعة وعرة، تخفي وراءها أشياء/أحداث/أشخاص كثر، وهذا يمهد القارئ للبحث والتوقف عند ما فيها من خفايا:
” لم نأتِ إلا طائعين لحزمة الرغبات
أو جئنا بمحض الصدفة العمياء
كان الموت يسبقنا
ونحن أجنة
أو فكرة في الرحم
فعل ولادة عادية جدا
أمام مغارة
أو في فضاء السهل
أسمونا بأسماء الطبيعة
نحن ابناء الحقول
لا نحتمي إلا بأسماء حملنا وزرها” ص9و10.
في هذا المقطع نجد إشارات تتماثل مع فكرة ولادة ووجود السيد المسيح وما حدث معه، “لم نأتِ إلا طائعين لحزمة الرغبات/فسَتَحبَلينَ وتَلِدينَ اَبنًا تُسَمِّينَهُ يَسوعَ. فيكونُ عظيمًا/أنا خادمة الرب فليكن لي كما تقول، فرغبة الله مطاعة من قبل المكلم ومن قبل مريم، ونجد التماثل بفكرة الموت وحتميته على الإنسان “وكان الموت يسبقنا/”إن ابن الإنسان سيموت كما هو مكتوب”، كما أن الحديث عن عملية الولادة متقاربة في القصيدة والإنجيل: “فعل ولادة عادية جداً، أمام مغارة/ فوضعت بكرها وقمطته وأضجعته في المذود”. وأيضا الأسماء التي تعطى للإنسان عند مولده: “أسمونا بأسماء الطبيعة، نحن أبناء الحقول، لا نحتمي إلا بأسماء حملنا وزرها، كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم/ فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع”، من خلال ما سبق يمكننا التقدم من مجموعة قضايا، منها المكان التي ولد فيه المتحدث، القدر السماوي الذي (ميزهم) عن بقية الناس، والقدسية التي يتمتعون بها، السير نحو القدر، الموت بصدر رحب، الأسماء ودلالتها، وهذا ما يجعل مكانهم/قضيتهم/سيرتهم/أسمائهم مقدسة، كحال سيرة السيد المسيح.
فالشاعر بطريقة غير مباشرة استطاع أن يربط/يجمع ذهننا بما هو مقدس، ما هو أعلى من البشر، وأيضا بما هو إنساني نقي/صافي، وبما هو أدبي (حاوي ودرويش)، كل هذا نجده (مخبأ) بين السطور، وكأن الغابات، الصخور، تجاويف الجبل” لم تكن متعلقة بالشهداء فحسب، بل بالقارئ نفسه الذي عليه البحث في (غابات النص وجباله) ليكتشف (الكنز) الذي وضعه “الشهداء/الشاعر، وليذهب به مغيراً مسار حياته، لتكون أفضل وأجمل وأمتع.
….لا شيء يحمينا من العثرات
سرنا تائهين على بساط الخوف
محميين بالأوهام
والنار المقدسة
اللظى
والعشب تحت ظلال أشجار السفرجل
في غياب الياسمين
سلالة الماء الندي
نحن فلسفة التكاثر في البراري
سرنا حفاة خلفهم
كأننا
لم ننتبه للأمهات” ص 9-11،
كلما تعمقنا في القصيدة نكتشف أهمية ما تخفيه، فمن خلال رحلتهم: “سرنا تائهين على بساط الخوف، محميين بالأوهام، والنار المقدسة، اللظى” يمكنا اكتشاف تماثلها مع رحلة مريم وهروبها من بطش هيرويس، “إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر” فنحن أمام (مسيح جديد)، استحضره الشاعر وبشّر به من كتب/قصائد “حاوي ودرويش” كما بشر الكتاب المقدس بيسوع المخلص.
ففكرة وجود الرسالة المقدسة جاءت من خلال: “نحن فلسفة التكاثر في البراري” وهي تتماثل مع ما جاء في الإنجيل: “ها إن العذراء تحمل وتلد أبنا يلقبونه بعمانوئيل أي الله معنا” فالقدسية التي تتحدث عن الشهداء لم تأتي بسهولة، بل تحتاج إلى بحث وجهد، وهذا يتماثل مع عملهم الاستشهادي/الرسالة المقدسة، وكأن الشاعر ـ بطريقة غير مباشرة، من خلال ما هوة كامن في عمق القصيدة ـ يريدنا نحن القارئ أن نأخذ (تدريب) على تحمل التعب والمشقة، لنكون مهيئين وقادرين على تكملة “فلسفة التكاثر” وإيصالها للآخرين، كما وصلتنا.
هناك مقاطع تأخذنا إلى ما جاء في قصيدة أحمد العربي “يا أيها الأمل المدثر بالغموض”ص12/يا أيها الولد المكرس للندى”، ومقاطع أخرى تأخذنا إلى الجدارية: “وهل لي أن أكون كما أريد” ص28/سأصير يوما ما أريد”، “يا أيها الموت ابتعد عني قليلا وانتظرني، كن نبيلا” ص57/يا موت أنتظر، يا موت… حتى استعيد صفاء ذهني في الربيع” كل هذا يعد دعوة من الشاعر للقارئ ليتقدم من تلك الأعمال الشعرية لما فيها من جمال وتألق.
لكن أين وهو إبداع الشاعر “سميح محسن”؟ لأن التناص مع الآخرين ـ رغم جماليته ـ لا يلبي طموح القارئ، من هنا لا بد من وجود شواهد على إبداع الشاعر.
الصورة الشعرية تظهر إبداع الشاعر وفي الوقت ذاته، تعد من الأعمال التي تمتع المتلقي وتأخذه إلى عوالم الفرح، حتى لو كانت الفكرة قاسية ومؤلمة، فجمالية الصورة كافية لمحو وإزالة القسوة والألم:
” تؤلمني مسارات الطريق إلى عيون الماء
قد جفت من الفتيات” ص20،
من المنطق أن يؤلمه جفاف عيون الماء، لكنه جعل ألمه “لجفاف الفتيات” وهذا التحويل الفتيات بدل الماء يعد (اختراقاً) لما هو عادي، ويعكس خصوبة خيال الشاعر، الذي قدم صورة تتداخل فيها الطبيعية بما هو بشري.
ومن الصورة الجميلة: “(تقول نساء قريتنا عن الأزواج، إذا هجروا مضاجعهم أسبوعا، وما سنوا مناجلهم، وقد يبست سنابله، وجف النبع من غضب السماء” ص38،
أيضا اعطاء لباس (الطبيعية) لما هو بشر يمنح القصيدة ثراءً جمالياً مزدوجاً، حيث أن الطبيعة تعد من عناصر الفرح، كحال المرأة والكتابة والتمرد، كما أن حضور الطبيعية الريفية يعكس أثرها عليه، فهو شاعر (ريفي/طبيعي) لهذا استحضر/استعان بالطبيعة لتخفف من قسوة الأحداث/الأفكار/المشاهد.
“ليل على شرفات ذاكرة تشيخ” ص41، استخدام هذه الصورة التي جعلت هناك (شرفات) للذاكرة، هو الذي منح جمالية ل”تشيخ” رغم قسوة الفكرة.
إذا كان الألم الذي جاء في الصورة السابقة يتحدث عن وجع خارجي/عام، فكيف يتحدث الشاعر عن ألمه هو، عن تعبه؟:
“ظلي سيتبعني
ويتعبني
ويوجعني
لذا حاولت أن أمشي مرارا
في زقاق ضيق حتى أضيعه تماما” ص55.
اختفاء الطبيعة يزيد من القسوة، حتى أن الألفاظ جاءت سوداء كحال الفكرة، وهذا ما جعل المقطع مطلق السواد، فكان لا بد من إيجاد مخرج لهذه القامة، يخفف به على القارئ، فكانت الفانتازيا الفعل في “أضيعه” هي الأداة التي محت السواد وأزالته.
الشعراء كالأنبياء، يتحملون الأذى ويواصلون الطريق، لكن هذا لا يعني أنهم لا يتألمون، فهم يمتلكون مشاعر مرهفة، وإحساساً ناعماً يمكن لأي كلمة/حدث/فعل أن يخدشه ويؤذيه، كما أن أدوات الشاعر هي الكتابة/القصيدة، فهي إحدى وسائل الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها عندما تضيق به الحال، ولكن عندما تشتد القسوة وتعم، تكون الكتابة غير ما هي عليه:
“من أين أبدأ
كيف أحتمل الكتابة في المراثي
بعدما فاضت بحور الشعر بالموتى
وأنهكني العذاب المر؟
لي عتب على لغتي التي أنساق أحيانا لمرماها
وأحيانا أطوعها
وإن كانت تعاندني لقهر الموت
أعاتبها على لا شيء…
أغلق فوق جدران القصيدة
رسم قافلة من الأحباب
لقد رحلوا بصمت غامض” ص74و75،
هذا العتب على اللغة يشير إلى مكانتها عند الشاعر، فهي من تعطيه صفة شاعر/نبي، رغم (الحميمية) التي تجمعه بها إلى أن شدة الألم انعكست عليها، بحيث أصبحت (تتعبه) حيث توحد/انصهر الواقع مع اللغة، بحيث لم يعد يقدر على الفصل بينهما، فقد توحدت اللغة بالواقع وامتزجت معه، وفي الوقت ذاته هي (وسيلته/أداته) التي يبشر بها الآخرين، فهو يريدها أن تكون مستقلة عن الواقع، لتكون كما عهدها، خاصة به وله دون سواه.
هذه العلاقة المتداخلة والمتشابكة والتي تتشكل من ثلاثة اطراف (الواقع/اللغة/الشاعر) هي ألمه ووجعه، فكيف سيصفي أداه من الشوائب ليوصل الرسالة/البشارة؟ بلغة تليق بالرسالة؟، وكيف سينهي هذا التشابك والاختلاط؟.
يبدو أن الواقع الأسود يتمدد ويتواصل، لهذا نجد خاتمة الديوان/القصيدة تتجه نحو القتامة:
“حجر على جبل تدحرج في صعود
مدن على قمم الجبال
لم يبق لي أمل لأسمع
صوت راع ينهر الغنمات
هل ضاع القطيع؟
جبل تورم بالخنوع
كتل من الإسمنت تخنقه” ص83،
إذا ما توقفنا عند هذا المشهد، سنجد أنه غارق السواد، فالصورة المعكوسة “تدحرج في صعود” تشير إلى الحالة الصعبة التي وصل إليها الشاعر، ونجد حالة قريبة من القنوت “لم يبقَ لي أمل” ونلاحظ أن الشاعر يجمع قتامة الشأن العام/القطيع، بالألم الخاص “لي”، ونجده يجمع قسوة الطبيعة: “جبل”، مع قسوة المدينة: “مدن، كتل من الإسمنت” فبدا وكأنه محاصر من كل الجهات، وهذا السواد نجده في الفكرة/المضمون، وفي الألفاظ أيضا: “حجر/جبل، تدحرج، صعود، لم، ينهر، ضاع، القطيع، تورم، بالخنوع، كتل، الإسمنت، تخنقه” وهذا مرهق له وللقارئ، لهذا نكان لا بد ـ للعقل الباطن ـ أن يدفع بالشاعر لاستخدم (وسائل/طرق/أشكال) يخفف بها من وطأة القسوة والألم، فكان الصورة المعكوسة لتدحرج “حجر” وكانت أنسنة الجبل الذي تورم وتخنقه الكتل، كما أن استحضار سؤال في المقطع: “هل ضاع القطيع” دفع القارئ ليتوقف قليلا ـ مما أعطاه وقتاً للراحة ـ بحيث يستطيع مواصلة درب الآلام.
وهنا يستعيد الشاعر (وعيه/رسالته) فما كان له أن يكون من القانطين، لها يستجمع قواه، كما يخرج طائر الفنيق من الرماد يخرج الشاعر حيا معافى مواصلا دربه في الحياة:
“لم أسمع خرير الماء
أو عزف الحساسين التي كانت
ترتل في الصباح نشيدها النبوي
هل دمع الينابيع التي جفت
يعيد النبض في عروق السواقي
ثم ينعشها
لأسمع عزف حسون
يحن إلى صباه” ص84،
لمعرفة طبيعة/حالة الشاعر، إن كانت ايجابية أم سلبية، علينا التقدم من الألفاظ المجردة، لأنها تعكس ما هو داخل العقل الباطن، فهناك كم من الألفاظ البياض: “أسم‘ خرير، الماء، عزف (مكررة) الحساسين، ترتل، الصباح، نشيدها، النبوي، الينابيع، السواقي، ينعشها، حسون، يحن، صباه” يتفوق على تلك السوداء: “لم، دمع، جفت” فالغلبة للبياض، وتأكيدا على توجه الشاعر نحو البياض والأمل استخدامه “جفت” بصيغة الماضي، وليس بصيغة المضارع “يجف”، وغالبا ما يأتي الفعل الماضي ليشير إلى حالة انتهاء مرحلة والخلاص منها، بهذا يكون العقل الباطن قد وجه القصيدة نحو رؤية رسالة/نبوية الشاعر المستقبلية، والتي لا يمكنها إلا أن تكون حاملة للأمل والخير.
- “فائض بالموت” نص شعري مطوّل صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية/ رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2020.