يتطاولون في البنيان (2)
رضا راشد | باحث في اللغة والأدب | الأزهر الشريف
أرأيتم إلى رجل قطع طريقا طويلا شائكا وعرا؛ أملا في الفوز بجائزة كبيرة تعوضه عن مكابدته في سلوك الطريق ..حتى إذا انتهى إلى آخره لم يجد شيئا مما أمَّله،فمني بخيبة أمل تركته حطاما من اليأس ركاما من الإحباط؟..فذلكم مثل من كابد متكلفا في تأثيث بيته آملا أن يحوز إلإعجاب، حتى إذا انتهى منه فات عليه غرضه ولم يظفر مما أمل بتكلفه- في تأثيثه بطائل.
وذلك أن العيون تعشق البساطة وتنفر من التكلف وتشمئز من المبالغة، فلا تحس جمالا من كثرة الدهانات والرسومات والديكورات!!
وإنما مثله في الناس كامرأة أرادت أن تكون جميلة في عيون الناظرين إليها ،فتوهمت أن ذلك إنما يكون بكثرة ما تلطخ به وجهها من مساحيق وأصباغ، فما زادت بفعلها هذا على أن استجلبت التقزز والنفور والاشمئزاز، وفات عليها غرضها من وضع هذه الأصباغ، بكثرة ما وضعت، وربما لو كانت اقتصرت من ذلك على الشيء القليل لتحقق لها غرضها.
ولست بدعا في ادعاء أن الجمال في البساطة؛ فقديما قال أبو الطيب المتنبي يستحسن الجمال الطبيعي في المرأة وينفر من الجمال المتكلف:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
[الرعبوبة: المرأة التارة السمينة، يفضل نساء البدو على نساء الحضر،يقول: الأوجه المستحسنات بالحضر ليست كأوجه نساء البدو.
وقد أراد بظباء الفلاة: النساء العربيات، وإنهن فصيحات لا يمضغن الكلام ولا يصبغن حواجبهن كعادة الحضريات]
بل إن هذا الأمر (الجمال في البساطة ) ليقر به بعض من يتخذ التكلف مسلكا والتصنع منهجا . فلقد زارني مرة في بيتي رجل وزوجته. ومع أنها ممن يؤثرن التكلف، فلا ترضى من الأثاث إلا بأغلاه(وكثير ما هن)، فإنها امتدحت لزوجي ما يتسم به بيتي من بساطة في التأثيث والدهان، فكانت، بهذا الإعجاب بالبساطة التى لا تتخذها مسلكا، كامرأة سافرة تمتدح الحجاب وتحض عليه !!
وذلك أنى مذ عرفت يميني من شمالي آليت على نفسي أن تكون البساطة عنوانى والاعتدال والتوسط شعاري، وأن أكون بين الناس نسيج وحدي، فلا أتكلف كما يتكلفون، ولا أعجب مما به يعجبون، ولا أعبا بما به يتكلمون. ولم يكن ذلك يوما -ولله الحمد- عن ضيق ذات يد، ولا عن بخل يغل يدي إلى عنقي، بل عن إيمان بأن هذا المال(الذي جعلت الشريعة الإسلامية المحافظة عليه أحد مقاصدها الخمسة) لهو أثمن وأغلى من أن يدفن في قبور هذه الترهات!! فكان عامل المحارة إذا سألني: هل تريد أن نصنع لك وزرا في السقف؟ أجيب ضاحكا: ” كلا لا وزر ” .
وكانت حجتي في ذلك -وما زالت- أن البيت ليس إلا لساكنه أو لزائره.
(*)فأما الساكنوه: فلا يعنيهم من البيت أحجاره ولا دهانه ولا رسوماته، وإنما يعنيهم منه دفؤه، وسكنه، وراحته، وستره. وهذه المعاني إن كانت، أحالت الكوخ الصغير ميدانا فسيحا، وجعلت من البيت جنة الفردوس يتنعم بها أهله؛ وإن لم تكن -والعياذ بالله- فإن القصر الممرد ليستحيل جحيما يتلظى ساكنوه بنيران المشاكل وسعير الأزمات. وإذن، فلا دخل لأثاث البيت في تحقيق السعادة لأهله.
(*) وأما الزائروه: فإن كانوا يرومون بالزيارة من في البيت نفعا أو انتفاعا،رفدا أو استرفادا فلن يشغلهم البيت وإنما همهم من في البيت؛ وإن كانوا يرومون بالزيارة نزهة في فندق فقد ضل بهم السبيل؛ فليس الطريق هنالك، فليبحثوا لهم عن فندق في غير بيتي أو متنزه في غير منزلي. وكنت وما زلت أتمثل موقفا جليلا للشيخ حسن الطويل رحمه الله تعالى أحد شيوخ الأزهر في عهد الخديوي توفيق، وكان الرجل رحمه الله ممن يتعفف بالقليل ويرضى بالكفاف على أن يمد يده، فيدفع الثمن غاليا من دينه ومواقفه وآرائه . كان الرجل يُدَرِّسُ في مدرسة دار العلوم (قبل أن تصير كلية)، فدخل عليه ناظر المدرسة ذات يوم وقال: إن ملابسك متواضعة، فهلا ارتديت هذه الكسوة لأن الخديوي سيزورنا غدا، وفي الغد أصر الشيخ على الحضور بملابسه المتواضعة نفسها وقد طوى الكسوة الجديدة في صرة، وقال قولته المشهورة: ” إن كان الخديوى يريد أن يصافح حسن الطويل فأنا حسن الطويل، وإن كان يريد مصافحة الكسوة فهذه كسوتكم فلا حاجة لي إليها “، وأصر على أن يقابل الخديوي بنفس ملابسه التى اعتادها. قالها الشيخ ابتداء وأتمثلها أنا من بعده به اقتداء، ولهذا لا أستنكف من أن أستقبل أي أحد -كائنا من كان- في بيتي البسيط، كما لا أخجل من أن أبدو للناس -كل الناس- كما أنا، دون تكلف أو تصنع
ولا يفهمن متنطع من كلامي هذا ولا من استشهادي بموقف الشيخ حسن الطويل أني بذلك أدعو للزهد المنفر للناس من أهل الدين والتقوى، ولا أنى أوثر الانزواء من الدنيا في كهف قصي، لاهذا ولا ذاك؛ فالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإنما أدعو للاعتدال والتوسط في كل شيء؛ فالاعتدال الاعتدال رحمكم الله
وترى كل شاب مقدم على الزواج ينحت الصخر جلبا للمال ليجعله سبيلا للتفاخر بالمبالغة في بنيانه. وهو إنما يفعل ذلك طوعا أو كرها؛ تأثرأً بما شاع في مجتمعاتنا من عادات سيئة وآراء فاسدة مفسدة، أو انقيادا لأوامر مخطوبته أو أهلها.
وهذا مما استبعثني لمخاطبة هؤلاء وأولئك؛ فلعلي أجد منهم أومنهن آذانا صاغية وقلوبا واعية. وإلا، فقد أعذرت إلى الله عز وجل نصحا وتوعية .
فيا كل شاب يتطاول في البنيان اعتمادا على الدَّيْنِ أو على ما يتحصل عليه من الأموال بشق الأنفس، منقادا للعادات المفسدة، أو خاضعا لأوامر أصهاره : كيف تطيب لك الحياة في بيت صار -من قبل أن يكون لك بيتا- قبرًا دُفِنَتْ فيه أموالُك، وطوي فيه جهدك، واختفى فيه كدك، وساخ في أرضه عرقك ،ثم لم يكتف بذلك حتى جمع إلى ما اجتهدت فيه بشق الأنفس ما حصلت عليه من جيوب الآخرين دينا، فما تمر عليك أيام زواجك الأولى حتى يسرق الدين منك فرحك بزوجك، فيستبدلك ُ بالفرح ترحا، وبالراحة والسعادة هما وكربا وحزنا. فالدائنون محيطون بالبيت ليلا ونهارا،يقتضونك ديونهم في دخولك وخروجك، في غدوك ورواحك، وأنت العاجز عن تسديد بعض الدين فضلا عن كله، فما يزالون بك مطالبة واقتضاء، وما تزال أنت بهم تسويفا، ووعدا، وإخلافا، وإيهاما مؤسسا على الكذب حتى يضيق عليك البيت بما رحب وتضيق عليك نفسه، فلا تجد لك إلا أحدى السوءتين: إما أن تهرب من البيت فرارا بنفسك من لظى المطالبة، وإما أن تحبس نفسك في البيت اختفاء من الدائنين، وإذا البيت الذي أمَّلتَ فيه يوما أن يكون لك مستراحا وسكنا: (نفسا وبدنا )، قد صار جحيما تفر منه، أو سجنا يطوقك بأغلاله ويأسرك بين جدرانه. فهل يَسُرُّك أن يكون هذا مصيرَك وتلك عاقبتَك؟!
ألا فليجبني عقلاؤكم وحكماؤكم؛ إذ لا يزال سفهاؤكم في غيهم سادرين، وفي عمايتهم يتمادون!!
هذه هي رسالتي الأولى، وأما رسالتي الثانية:
فإلى كل فتاة تكلف خطيبها بما لاطاقة له به في تجهيز بيته وتأثيثه؛ جريا وراء سراب زائف وأوهام كاذبة -أقول: (ما هكذا يا سعد تورد الإبل) ،وما بالمبالغة في التأثيث تُجْلَبُ السعادةُ؛ فليس البيت أحجارا ورخاما وكراسي وأَسِرَّة وأرائك… إلخ، وإنما البيت دفء، وحنان، ومشاعر، وأحاسيس، وحب، ومودة، ورحمة. فإن وُجِدتْ هذا المعاني وتلك المشاعر كان الكوخ الصغير قصرًا ممردًا يعيش منه أصحابه في جنات النعيم وإن عدمت تلك المشاعر كان القصر الفسيح جحر ضب يتلظى منه سكانه في نار الجحيم. وحينئذ، فلا التفات لما تُوُهِّمَ فيه الجمالُ من فاخر الأثاث، فليس فيما نراه -على الحقيقة- جمال أو قبح، ولكننا نحن الذين نسبغ على الأشياء جمالها أو قبحها بما يكون في قلوبنا من حب وسرور ، أو بما تنطوي عليه جوانحنا من بغض وضيق وهموم. وإذن، فنحن نرى بعيني قلبنا لا بعيني وجهنا ؛ فكوني من ذلك -بُنَيَّتِي- على ذُكر ، ولا تنقادي لدعوات الهدم تنهال على مسامعك من ألسنة أولياء الشيطان من شياطين الإنس،فأصمي دونهم أذنيك، واستغشي عنهم عينيك، فإنهم إنما يدسون لك السم في العسل ولا يرومون لك إلا الردى والهلام وإن لبسوا ثياب الواعظين ومسوح الناسكين، فأعرضي عنهم ، لا يكوننلك قائد إلا التيسير ولا منهج لك إلا امتثال الشرع الحكيم. بهذا تنضمين لقافلة المفلحين السعداء، وتنأين بنفسك عن سلوك الخاسرين الأشقياء.
وقد بلغت فاللهم فاشهد