الفلسطيني الأحمر 

نداء يونس | فلسطين

ما يحدث الآن من تهجم على الفلسطيني والتمنن عليه يدخل في إطار عملية كي للوعي الفلسطيني والعربي، في المرحلة القادمة، سنسمع الكثيرين ممن يدعون أنهم لا يريدون أن يطبِّعوا لكنهم يقومون بذلك نكاية بالفلسطيني السيء الذي لا يقدر الجميل.

منذ سنوات قلت: من أراد أن يُطبِّع فليطبِّع، لم يكن هذا الموقف استنادا إلى رؤية خارجة عن الصف أو دعوة للتطبيع، ولكنه رؤية استندت إلى دراسة مستفيضة لتجربة أمريكا واستراليا تحديدا واللتين قامتا بتصفية ١١٠ مليون هندي أحمر بأبشع الطرق لإنشاء وطن لما أسموه “الشعب المختار” على ما أطلقوا عليه اسم “أرض الرب”. بالمقابل، صارت هذه المجتمعات الحديثة نسبيا أو المجتمعات التي بلا تاريخ سوى الدم قبلةً للأمم (بكسر القاف وضمها)، يتحصلون منها الامتيازات، والمثير في الأمر أن لا أحد يرى الدم على يد “السيد” لما يسلمه العطايا والإقامات والامتيازات وعقود الدراسة والعمل، وعلى العكس من ذلك، يقوم المستجدون بتجميل صورة مركبة على شاكلة عقلية ترامب.

وهنا، في أرض فلسطين، قامت دولة الاحتلال ببناء منظومة مشابهة ومتطورة وستصبح محجَّةً لكل العرب، المال والمصالح سيحكيان كثيرا ولن يذكر أحد دم الفلسطيني الأحمر.

حتى الآن لا يزال الدستور الاسترالي يرفض الاعتراف بوجود الهنود الحمر الأصليين ويتعامل معهم كأشباح أو كائنات غير مرئية؛ حيث يدعي المستعمرن وحكومتهم الاحتلالية أمام داعمين أجانب للاستيطان أن الأرض فارغة تماما، وإن هؤلاء الفلسطينيين والفلسطينيون الموزعون في قرى بدوية منذ فجر التاريخ أشباح.

المُشرِّع الاسترالي الأول وضع تحسبا عدة خطوات صعبة وشبه مستحيلة لتغيير الدستور، أما هنود أمريكا الحمر، فهم أفضل حالا من حيث إنهم يُمنحون جوزات سفر خاصة لعبور الحدود والتواصل مع أشقائهم في كندا، لكنهم معزولون في محميات طبيعية، يتكلف الهندي الأحمر للخروج منها التنازل عن قيمه الثقافية والفكرية، حينها يصبح وهو بلا هوية ثقافية أو فكرية أو تاريخ مناسبا جدا للاندماج في المجتمعات التي بلا تاريخ وتقدم نفسها بشكل كدول بينما تعمل على محو حضارات الشرق والأمم الأخرى بتدميرها وتدمير غيرها.

 التدمير خيار لما لا يمكن استلابه من تاريخنا لحشوه في متاحف تحتل الجادات الراقية لمدن مستحدثة، وكما فعل الإسرائيليون بتاريخنا اليبوسي الكنعاني الذي يعتقلونه الآن في متاحفهم جيدة التنظيم وجميلة الشكل ومرتبكة المضمون، يتلخص الوضع هكذا: آلهة حبيسة وأرض وشعب، ووعي يتم كيُّه ومضامين يتم محوها وإنشاء مضامين جديدة باستخدام عدة أدوات مثل الإعلام، و(أسرلة) المناهج في القدس، وسرقة المطعم الكنعاني، والعملة (الشيكل)، والتطريز الذي يزين مضيفات العال، والأحجار من القدس لزراعتها أمام مبانيهم التي لا يزيد عمرها عن بضعة عقود، والتطبيع الثقافي من خلال أفلام تفرض الوصاية على فهمنا ولقاءات ومهرجانات وإصدار انطولوجيات شعرية مشتركة مع شعراء إسرائيليين وأجانب تستخدم أسماؤهم كغطاء، وقمت شخصيا برفض عروض لذلك عن طريق موفدين من دول تعتبر حيادية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحت عناوين مثل فهم وجهات النظر من خلال الشعر وفهم الآخر والحوار وغير ذلك.

الرفض فردي والقبول فردي أيضا لكنه يمر من تحت مظلة مؤسسسة أو شخوص متنفذين، إذ تزخر كتابات أدباء هنا وهناك بإشارات إلى محارق وقصص ما زالت موضع جدل، بل ويصبح المستعمرون ضيوفا في إعلام عربي يبني على وظيفته التي أُنشأ لأجلها، فهمنا متأخرين ربما، بأن رواية المحتل ومستعمريه جزءً من السياق الطبيعي للإعلام، بينما هو جزء أصيل من مرحلة كي الوعي.

 

نتتياهو في مؤتمر صحفي في باريس مع الرئيس الفرنسي ماكرون، يبدأ تاريخ القدس التي عمرها ستة آلاف عام من حيث يريد هو أو من حيث يخدم روايته وأقصد منذ ٣ آلاف عام تقريبا، نتياهو الذي يتبنى الرواية التاريخية على علاتها، يتناولها مجزوءة طبعا، والسؤال هنا: إذا كان نتياهو يعترف بالرواية التاريخية التي عمرها ثلاثة آلاف عام، فهل هو مستعد أيضا لأن يشكر إيران والقائد سايروس الفارسي الذي حرر اليهود من السبي البابلي وأعادهم إلى فلسطين قبل ٣ آلاف عام تقريبا؟

المشكلة أن تخاذل البعض يؤسس لتسلق البعض الآخر على ظهر القدس للمرة المليون وترويج الذات كحماة وناصرين.  كلمة البعض هذه تعني دولا بأكملها تصطاد في مياه القدس، وتصطاد القدس والوصاية علينا. حتى الاحتلال نفسه يستخدمها هذه الورقة، يبدو أننا الوحيدون على هذه الجهة، والآخرون على الجهة المقابلة.

لن تتمثل حكومة دولة الاحتلال النموذج الأسترالي؛ بل ستقتدي بالأمريكي في التعامل مع الفلسطيني الأحمر، ففي معزل طولكرم أو رام الله أو الخليل سأعيش، وسيتطلب أن أكون مواطنة صالحة أو عربية (متأسرلة) و(متأمركة) مرضيا عنها وأن أشطب ذاكرتي ووعيي والمقال السابق كله، وأن أعلن أنني سأُطبِّع مع المحتل نكاية بالعرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى