في بيداغوجيا الترجمة (3)
أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي
الترجمة كموضوع للتعليم
وفي البداية نقول إن مهارات اللغات الأجنبية عرفت عبر العصور أنها أربع -لا خامس لها- هي: الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، وهذا الترتيب هو الترتيب الطبيعي في اكتساب الطفل للغته الأم؛ فهو يبدأ حياته مستمعا ومستقبلا لإشارات صوتية وبصرية كثيرة، يعقبها – عبر شهور- تقليد الأصوات التي سمعها، حتى يصير قادرا على الاستماع والفهم والرد بطلاقة والتعبير قبيل دخوله المدرسة التي يتعلم فيها التعرف على رموز الكلام مرقومة على الصفحات ويتعثر في نطقها وربطها بالأصوات المتكونة لديه – وهي أوليات عملية القراءة – ثم محاولة رسم ما تعرف عليه من رموز حتى يكتمل كلاما وجملا ونصوصا فيما بعد – وهي عملية الكتابة.
وهذا التقسيم نقول إنه الطبيعي لدى أبناء اللغة، لكنه ليس – بالضرورة- المتبع في تعليم اللغات الأجنبية، التي يتم تعلمها – في الغالب- في سياق مدرسي يتعرض فيه الطالب للرموز المصورة (القراءة) قبل المسموعة (الاستماع)، ويسهل عليه تقليد الرموز (الكتابة) قبل تقليد الأصوات ذات المعنى المركب (التحدث). وذكرنا كذلك إن التقسيم طبيعي لــ (اكتساب acquisition) الطفل لغته وليس (تعلمها learning) لأن الطفل – في الحقيقة- لا يبذل الجهد الواعي لتعلم لغته (على مستوى الاستماع والتحدث) بل إن الامر يحدث له كما يحدث نموه الطبيعي – وعلى حد قول تشومسكي: “ينمو له ذراعان بدلا من أن ينبت له جناحان، ولذا فاللغة تحدث له، لا يحدثها”
أما عند تعلم لغة أخرى – في السياق المدرسي- فالأمر يختلف تماما، ويعتمد الدارس على قدراته في الملاحظة والتدوين والتقليد والمتابعة والتدريب والتكرار والواجبات والمحاولة والخطأ والتصويب، والممارسة المستمرة حتى يتقن – أو يقترب من اتقان- اللغة المستهدفة.
وهذه المهارات الأربع، اعتاد المنظرون أن يقسموها تقسيمات مختلفة؛ فبعضهم قسمها إلى مهارات طبيعية natural لا تحتاج دراسة مدرسية (الاستماع والتحدث)، ومهارات مدرسيةscholastic (القراءة والكتابة)، وبعضهم قسمها إلى مهارات الاستقبال recieptive (القراءة والاستماع) وفيها يستقبل الطالب مادة اللغة المرقومة أو المنطوقة، ومهارات الانتاج productive (الكتابة والتحدث) إذ ينتج الطالب فيهما نتاجا جديدا مسموعا أو مرئيا.
ومن نافلة القول إنه كما للغة مهارات – أربع- فلها كذلك عناصر أربعة: هي المفردات، والقواعد، والنطق، والوعي الثقافي. والمهارات الأربع تعتمد على العناصر الأربعة بشكل كبير، كما تتداخل العناصر الأربعة في كل مهارة على حدة وبها جميعا عند التواصل في الموقف اللغوي.
وبعد هذه المقدمة، نقول إن الترجمة مهارة تجمع بين كل المهارات، وتعتمد على كل العناصر؛ فهي تجمع بين مهارات الاستقبال (فهم النص الأصلي المكتوب أو المنطوق في حالة الترجمة الفورية) ومهارات الانتاج (الانتاج في لغة جديدة نصا مكتوبا أو منطوقا) كما لا تتم الترجمة دون الاستفادة القصوى من العناصر الأربعة (فالمفردات عماد الترجمة والقواعد ملاطها، والنطق وسيلتها والوعي الثقافي هو الضامن لصحتها ومناسبتها ألا تحدث كوراث في المعنى المنقول). وتزيد الترجمة على ذلك كله بأن هذه المهارات وتلك العناصر ليست في لغة واحدة، بل تعبر اللغة إلى غيرها من اللغات، فهي مهارة مركبة معقدة عابرة للثقافات.
والخطوة الأولى في تعليم الترجمة هي معرفة حقيقة الترجمة وتفكيك مهاراتها الفرعية deskilling translation للتوصل إلى الهياكل المؤسسة لعقل المترجم kernel levels فإذا تم هذا، يسهل بعد ذلك وضع طرائق تدريس مناسبة لكل مستوى ولكل مهارة فرعية ولكل هيكل مؤسس.
فما هي هذه المهارات الفرعية للترجمة وما هي الهياكل المؤسسة لها وما هي الطرائق المناسبة لتدريسها؟
الترجمة علم أم فن أم مهارة؟
ذكرنا سابقا أن الترجمة من أهم وأكبر مهارات اللغة، ولكن البعض يرى أن دراسة الترجمة باعتبارها مجرد مهارة من مهارات اللغة يضيق واسعا ويغمط من حق الترجمة كعلم قائم بذاته، والبعض يراها فنا وموهبة ويرى المترجم – مثل الشاعر – يولد ولا يصنع، وسنعرض لهذه الآراء بشيء من التفصيل قبل الولوج إلى تفكيك عمليات الترجمة.
الترجمة علم
أصحاب هذا المذهب يذهبون إلى أن الترجمة لم تعد ذلك المجال المتميع fuzzy الذي تصعب نسبته إلى علم أكبر، بل شب هذا الطفل، وصار علما له نظريات وأسس ثابتة وإن كان يأخذ من كل علم قديم بطرف.
الترجمة فن
وأصحاب هذا المذهب لا يرون فائدة من تدريب المترجمين، إذ أن تفوق الطالب في استخدام اللغة الاجنبية لا يعني بالضرورة تفوقه في الترجمة منها أو إليها. ويعتبرون أن لكل فرد استعدادات خاصة ومواهب وملكات قد يصقلها التدريب لكن لا ينشئها ابتداءا. وبالتالي فالتدريب على الترجمة سيوصل كل فرد إلى نطاق قدرته الأقصى zone of proximal performance ولكن لن يجعل الأفراد سواء في المقدرة competence.
ونحن نتفق ونختلف مع هذين المذهبين؛ فالترجمة -كعلم – بالطبع متمايزة ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية تفكيكها والتدريب عليها في صفوف تعليم اللغات الاجنبية، فالفرق كبير بين دراسة اللغة والدراسة عن اللغة؛ فالأولى تستهدف الوعي باللغة لاستخدامها بنجاح، أما الثانية فتستهدف إعداد باحث في الترجمة لا مترجم ولا مستخدم فائق للغة. وليس بالضرورة أن يكون عالم اللغة linguist معلما لها، ولا عالم الترجمة ممارسا متمرسا لها.
أما اعتبار الترجمة فنا و قصر الأمر على الموهبة وحدها، فنحن نقر باختلاف استعدادات الأشخاص وقدراتهم، ولكننا نقول إن التدريب الصحيح كفيل بتوجيه همم الدارسين إلى مصادر تنمية القدرات، وليس الأمر قاصرا على كم الترجمات التي يتعرضون لها، بل يشمل الإثراء الثقافي واللغوي والتدريب الواعي على العميات الفرعية للترجمة بما يفتح الآفاق أمام المتدربين والدراسين للانطلاق، كل بقدر عزمه. وبما يعني كذلك أن كل شخص يمكنه الترجمة من او إلى لغته الام إذا توافرت لديه الدافعية والمستوى المناسب من التمكن من اللغتين وتيسرت له سبل التدريب المناسب.
والدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية الحديثة بينت لنا أن العمليات المعرفية العليا التي يلجأ إليها المترجم عند الترجمة من لغته الأم إلى لغة أجنبية تختلف تماما عن العمليات التي يستخدمها للترجمة من لغة أجنبية إلى لغته الأم. كما تم التوصل إلى صيغة وسطى لتقييم الترجمة والحكم على صحتها، وتم وضع اختبارات تتحلى بدرجة عالية من الموضوعية لقياس القدرة على الترجمة، وتم تحديد المهارات الكبرى التي يجب أن تتناولها أي ورشة عمل أو برنامج تدريبي للترجمة، (وهي تشمل الفهم القرائي Reading comprehension والتحليل النصي textual analysis ومهارات البحث researching ومهارات التركيب synthesis (وسنتناول هذه المهارات بالمزيد من التفصيل لاحقا) ,وتم تقسيم النص إلى نص خام Protext ونص بيني Intertext ونص معالج metatext(A. Abdellah, 2010a)
وفي بيداغوجيا الترجمة، هناك مداخل مختلفة للتناول التعليمي للترجمة: منها مدخل الغمر Immersion ومدخل العمليات process-based ومدخل المنتوجات product-based ، ومدخل حل المشكلة problem -based، ومدخل السوق market based