مع الشاعر حسين مهنا في ديوانه ” أنا هو الشاهد”

نبيل عودة | كاتب وناقد وإعلامي فلسطيني – الناصرة

nabiloudeh@gmail.com

شعر يتدفق كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه

 المكانة الشعرية والأدبية التي يتمتع بها الشاعر حسين مهنا، ابن بلدة البقيعة الجليلية، ليست وليدة الصدفة، وليست وليدة علاقات عامة أو ظروف سياسية أو غيرها، دفعته نحو الطليعة. إنما هي جهد واتقان وعشق للكلمة والنغم. وهناك قول لطيف لعلي بن ابي طالب يقول فيه: ” لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرع من العمل، وانما يسألون عن جودة صنعته “.. وكأني بعلي بن أبي طالب يقصد، أيضا، حسين مهنا بهذا القول !

ديوانه ” أنا هو الشاهد ” – اصدار الأسوار – عكا (2001) – يشمل (14) قصيدة من نتاجه الشعري منذ عام (1997)، وهذا بحد ذاته يثبت ان حسين مهنا شاعر يعيش أجواء قصيدته، بحيث تتحول القصيدة إلى مهمة يعيشها لمرحلة زمنية، وتنمو ” بوسائل طبيعية ” دون استعمال مسرعات النمو، أو الإنتاج “داخل دفيئة”، بحيث نغرق بمنتوجات شعرية قبل موسمها، أنتجت بوسائل غير طبيعية. و ربما هنا إحدى مشاكل ” البضاعة ” الشعرية التي تملأ الأسواق، بعضها بلا طعم ولا نكهة، أو أدخلت علية ” جينيات ” أخرى، فصارت “الشيء وضده “.

حسين بديوانه الجديد هو مدرسة، ليست شعرية فقط، إنما حضارية خلقية، إلا أن الشعر ليس للدنيا فقط، وليس للآخرة أيضا، إنما هو صنعة للارتقاء بالإنسان، وتطوير فكره وحسه وفهمه، وصقل إرادته. وهذه مهمة لا يجوز الاستهتار بها، إذا أردنا حقا أن نسمي المولود باسمه.. لأنه لا أجمل من أن يكون الإنسان شاعرا، أو مبدعا تبعث لمساته الحياة حتى بالجماد .

على غلاف ديوانه يؤكد حسين مهنا ما أرمي إليه، إنما بلغته، لغة الشعر، الذي أثمر على شجرته، دون أن ترهق الشجرة بالمبيدات وتسريع النمو :

على هذه الأرض نبني

كما لا يحب الغزاة –

ونرعى على مهل مجد أجدادنا.

ويقتبس حسين من إنجيل “يوحنا ” في كتاب “العهد الجديد”، قوله: ” وأيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق، أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الرب الذي أرسلني”، فهل يستطيع أحد، بعد ذلك، أن ينفي صفة الشاهد عن حسين مهنا ؟

حقا حسين هو شاهد، شاهد على حكاية وطن تمزق شغاف القلب :

كانت هنا قرى تعبق بشذا فلسطين

قرى تفردت بعرائش سطوحها ..

بكرومها ..

بأهلها الطيبين.

هذا ما جاء في بداية قصيدته الأولى ” في البدء” وانظروا إلى العلاقة هنا بين “أنا هو الشاهد”، والمرافعة دفاعا عن كونه شاهد، مستندا لإنجيل ” يوحنا “، واسم القصيدة الأولى “في البدء” … و” في البدء كانت الكلمة ” – افتتاحية التوراة – وصولا إلى فلسطين، الكلمة الأولى في قاموس أهلها الباقين والصامدين والمقاومين، ولكن بنفس الوقت نشعر في قصيدته هذه روح البكاء على الأطلال: ” قرى بلادي وقصائدي “.

أما قصيدته الثانية ” يورثون الحياة انتصارا “فهي نقلة نوعية من حالة حزن الى حالة فرح وغناء وحب يتدفق كالشلال. وقد قرأت هذه القصيدة مرات ومرات.. بطرب حقيقي. وينجح حسين هنا بأخذ القارئ/ المتلقي الى رحلة في ذات محب :

  وأذكر يوم وثبت لأقطف زهرة القرنفل

كيف نقزت – وكنت وراء الأصيص –

وصحت :

تلطف!

فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا ؟!

انتبهوا هنا للطافة وملاءمة تعبير ” نقزت ” (جفلت) العامي، وأظن أن هذا الاستعمال فرضه نمو القصيدة واكتمالها – نضجها –  الطبيعي وغير المصطنع .

ويواصل رحلته :

فوددت لو أني اقبل دارك …

هذه الجملة تذكرني بعنترة العبسي الذي خاطب حبيبته بقوله “:

وددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المبتسم .

ويواصل حسين :

ستأتيك امي قبل الغروب

لتقطع قول الوشاة

وليت أباك يقر بأني “شيخ الشباب “

واني جدير بزين الصبايا

ونفرح

نفرح

هذا الجليل يحب الزغاريد.

وهنا يكاد يقول انه لولا أن الجليل يحب الزغاريد، لما كان الحب.. ويقول :

هذا التراب الزكي شغوف

بمن يزرعون

ومن يحصدون

ومن يعشقون

ومن ينجبون

ومن يورثون الحياة انتصارا

لجيل جديد

هذا الحب يعيدنا إلى إنسانيتنا، إلى الزمن الذي كان فيه الفتى يطوف حول بيت حبيبته عاما كاملا يفرح إن رأى وجهها، فإذا ظفر منها بمجلس، تشاكيا وتناشدا الأشعار. أما اليوم، وهذا يبرز في الكثير من شعرنا الحديث، فإذا التقاها، لا يشكو حبه أو ينشد الشعر، وإنما يطلب الوصل، بحيث تحول الحب في معظم شعرنا إلى بضاعة، يقرر سعرها العرض والطلب، بينما الحب الذي يختلج بأعماق حسين لا يباع ولا يشترى .

قصيدته “أراك كما لا تراك العيون ” هي قصيدة غزل في قريته البقيعة :

“البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة “

ومع ذلك :

وآها لتلك السنين الخوالي العذاب

قريبا من القلب

نبض فلسطين كان

هذه القصيدة تركت لدي شعور انه في حبه الكبير لقريته، هناك نوع من الألم والمرارة أيضا، على تلك القرية التي تيتمت من “نبض فلسطين” ومن آلام “جرح الجليل “.

وهو يذكرني هنا بمقطع للشاعر سالم جبران يقول فيه :

” كما تحب الأم طفلها المشوه

أحبها

حبيبتي بلادي “

وربما ليس بالصدفة ان سالم من البقيعة أيضا. في القصيدة جوانب أخرى، منها مثلا قدرة حسين أن ينقلنا من الحلم الشعري الى الواقع الشعري. من حلم البقيعة إلى واقع البقيعة، وبكلمات بسيطة :

ترى أين غابت

بساتين خوخ وتين؟!

وجوز ولوز

ورمان عيد الصليب

في الشطرة الأخيرة يعرفنا على البقيعة، على أهلها، بحيث لا يبقي البقيعة حلما طائرا، بل حقيقة شعرية ملموسة. ومن المعروف أن الرمان في بلادنا يثمر في فترة عيد الصليب عند المسيحيين. وأي فلاح فلسطيني، مسلم، درزي أو مسيحي، عندما يسأل عن موعد قطف الرمان يقول يقطف مع حلول عيد الصليب !

الغنائية الحالمة تميز الكثير من قصائد الديوان، في قصيدة ” ستر عاشق يظلل ليلنا الريفي “:

تحبني .. ؟!

اذن تعال كي نصالح القمر

أمس اشتكى

يا طول ما اشتكا !

  وأكاد أشعر في هذا المقطع أجواء فيروزية .

وينشد في ” لنا فوق الجليل “:

لنا فوق هذا الجليل

تراب جليل

عليه نقيم

ومنه نبتنا كما ينبت العشب

والاقحوان .

وبين يديه تركنا طفولتنا

والشباب.

لنكبر فيه ويكبر فينا .

اذن هو ليس مجرد عشق لطبيعة ساحرة، إنما هو عشق للمنزل، للمنبت ، للانتماء . وشاعرنا العربي يقول :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب الا للحبيب الأول

الحبيب الأول، على امتداد مساحة ديوان حسين، هو الجليل.. لم يكتشف حبيبا غيره.. حتى تلك التي “نقزت” هي جزء من الجليل. قصيدة ” سأجلس ذات مساء ” فيها الكثير من الايماء والتكثيف. يقول :

سأجلس ذات مساء بعيد

وحيدا..

وأفتح قلبي

على شرفتين

وراء الغمام

لعل رفوف اليمام

تجيء

وتلقي السلام علي

وتغفو قليلا على راحتي

لأكتب أغنية

عن بلادي.

بعد قراءتي لقصيدة ” تركنا على كل درب ” اعتراني شعور أن حسين لا يكتب قصائد منفردة، إنما قصيدة واحدة متواصلة، وتكاد تكون هذه القصيدة هي مهمة حياته كشاعر، فها هو يقول مثلا ما يمت بصلة لقصائد سابقة :

وقد اورثونا

محبة هذا الجليل

وحب الحياة

وعشق قرانا

ونذكر اننا ولدنا هنا.

أما قصيدته ” بي شوق لأحيا “، فهي نشيد لتجدد الحياة بعد أن رزق بحفيده محمد / وهي قصيدة لها مناسبتها ، وتكاد تكون استراحة وسط قصيدة / قضية شعرية متواصلة وواحدة .

وانا ورثنا الصباح الجميل

  وهذا الجليل

وفجرا تلفع بالياسمين .

(قصيدة: وانا ورثنا الصباح الجميل)

في قصيدة “أسمعني صوتك”.. كتبها كما فهمت لحفيده في ميلاده الأول.. ونراه يورث حفيده ما يملكه الشاعر:

أسمعني صوتك

عربيا

لا يتلجلج في شفتيك

ويوصيه :

واخرج من جلبات الزمن المهزوم

جوادا عربيا

ينقل للريح

صهيل الفرح القادم

وأيضا :

اضرب جذرك يا ولدي

اسمعه كيف تدوزن صوتك

فوق مفاتيح اللغة العربية

ويصر على حفيده :

أسمعني صوتك

كي اسمع وطني

يتجدد لحنا عربيا

لا بد هنا من ملاحظة هامة.. في هذه القصيدة إصرار على عروبة أبناء الطائفة المعروفية (الدروز)، التي تحاول السلطات الإسرائيلية قطعهم عن جذورهم العربية وجعلهم فئة سكانية لا ترتبط بالهم الوطني العربي أو الفلسطيني.

إذن كما قلت، حسين مهنا أخذ على نفسه إبداع قصيدة / قضية وطنية إنسانية وجمالية ممتدة. في ديوانه هذا نراه يكتبها على مدى ثلاث أو أربع سنوات. ربما حقا على كل شاعر أن يأخذ موضوعا لشعره حتى يوفيه حقه. وحسين يثبت أن ذلك لا يعني الانغلاق داخل حدود مرسومة. إن البقيعة مثلا، ليست مكانا جغرافيا له حدوده الجغرافية. فالشعر لا يعترف بالحدود الجغرافية، أو كما يقول حسين مهنا: “كل قرية في بلادي بقيعة “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى