الحقيبة والرحيق المختوم.. قصة قصيرة
أحمد خميس | روائي سوري – مقيم في اليونان
كسائر سكان قريتي كان لدينا حقيبة سفر واحدة.
تناوبنا على استخدامها كلّنا وأقصد إخوتي الشباب الثمانية كتناوبنا على ارتداء سروال والدي الذي فعلتْ به (صوبة المازوت) فعلتها فغدا كالحيّة أرقطاً.
حقيبة العائلة كانت بخسةً، ورثّة لكنها طافتِ البلاد من شرقها لغربها لا بل وعبرتِ الحدود إلى لبنان، والأردن حيث عمل إخوتي فيما مضى، كذلك زارتِ (الدريج والكسوة ومدرسة المشاة في حلب) أثناء خدمتهم العسكرية إلى أن وصلتْ إليّ أنا الطالب الجامعي (الصاجعة) على حد وصف أهل الحي.
حقيبتنا عبارة عن: قماشة مهترئة خِيطَ لها سحّاب أعادتْ أمي خياطته بسلكٍ أبيضٍ مراراً وتكراراً؛ احتراماً لشيخوختها وأملاً في إبقاءها قيد الخدمة. ولأنني عاثر الحظّ؛ كانت القراءة هاجسي ومتعتي منذ نعومة أظفاري.
كيف لا وقد دخلتُ الجامعة وأصبح لدي ثلاث خليلاتٍ كلهنَّ جميلات جداً، وأجملهنّ الرّقّيّة التي وعدتها لاحقاً بالزواج وما نكثتُ لأجلها عهدي.
أصبحتُ أشتري العطور من عند أبي فراس الذي كانت الشكوك تدور حول مثليّته ورغبته بالرجال؛ الأمر الذي أضحكني بادئ الأمر، وأفزعني بعد إذ قلّبتُ الفكرة في رأسي عديد مراتٍ فحلفتُ بأن لن أدخل دكانته حتى وإن عاد إلى رشده، لم تكن عطوري فارهة فاخرة، لكنها كانت تفي بالغرض فيما لو أردت مضاجعة إحدى صويحباتي دون أن أتسبّبَ لها بالغثيان لا سيما وأنّ العفن، والرطوبة هما أبرز ما يسيطر على القبو الذي كنتُ أسكنه في( مزّة ٨٦).
في ذات شتاء شاميّ عَبِق، وعقبَ انتهاء مباراة الوحدة والفتوّة في ملعب العباسيين، خرجتُ غاضباً رغم أنني لم أكن أشجع أحد الفريقين، لفتَ انتباهي رجل شارف على السبعين، يعتمرُ قبعة حلزونية، أسود لونها، قابضاً على لفافةِ تبغٍ حمويّ بشفتيه النحيلتين الشاحبتين، فارداً كتبه القيّمة على سجادةٍ رفيعةٍ ليست بأفضل حال من حقيبة عائلتي .
(اعترافات عميل سوفيتي) أول ما وقع عليه بصري كتاب فضي اللون مهترئ المتن يتذيله منجل الشيوعيين ومطرقتهم.
وكتيّب صغير لجبران لم يتسنَّ لي قراءة عنوانه إلا أنني قلتُ في نفسي دعك منه، كتبٌ كهذه لا ترضيك، دعها للصبية المراهقين، وعشرات الكتب الأخرى إلى أن شدّني كتاب ضخم نُقِش على مغلفه (الرحيق المختوم)، في الواقع لم أكن قد سمعتُ به من قبل، إلا أنّ غلافه الفخم السميك أثار شهيتي.
تذكرتُ الحقيبة وكيف ستصبح أفخمَ فيما لو وضعتُ هذا الكتاب الكبير الصلب فوق ثيابي ومحاضراتي؛ بكل تأكيد سيمنحها ذلك شيئًا من الجمال، وسأشعر للحظة بأني أجرُّ حقيبة ثمينة مثل أولاد أولئك الذين أقرأ أسماء آبائهم في الجرائد التي عزفتُ عن شرائها مؤخراً كونها تافهة، وكوني حفظتُ تفاهتها عن ظهر قلب.
ابتعته على عجل رغم أني لم أكن أملكُ أكثر من ثمنه، غادرت مسرعاً فالحافلة التي ستتجه إلى الرقة ستنطلق في تمام العاشرة مساءً.
وصلتُ باب البناية، لتستقبلني أم ربيع بابتسامتها الشيطانية كعادتها وهي تطالبني بدفع إيجار الزريبة التي أسكن بها.
شتمتها، ودلفتُ القبو مسرعاً ..
“رح خلي كل أهل الشام يعملوا فيني إللي ما بينعمل إذا أجرّت بيتي لرقّاوي مرة ثانية” قالت عبارتها المعتادة التي ما زلتُ أسمعها مذ أن غضب علي الله واستأجرتً خمّها هذا.
حملتُ حقيبتي وزينتها بالرحيق المختوم، اتصلتُ بغادة تلك العاهرة التي لطالما باعتني كما باعت غيري جسدها الطري البارد، وطلبتُ منها تأجيل مجيئها الليلة بداعي السفر.
في الحقيقة ورغم مواعدتي لها باستمرار إلا أنّني كنتُ أشعر بتأنيب الضمير بعد أن أفرغ منها، فتحدثني نفسي بعدم منحها ليرة واحدة لقاء أتعابها، لكنني كنتُ أخاف لسانها الطويل فهي تتفنن باستخدام الشتائم لدرجة أنها تقنعك بما تشتمك.
بالمناسبة لا أذكر أنني استخدمتُ أيَّ عطر في أيِّ لقاء لي معها؛ فتيات كغادة يمتهنَّ البغاء تغويهن النقود، وتثير شبقهن أكثر من البيرفومات والعطور ومع ذلك كنتُ أشفق عليها أحياناً.
دخلتُ موقف الحافلات في التاسعة والنصف تقريباً، شعورٌ غريبٌ تملكني، إحساس بالسعادة داعب نفسي وأنا أجرُّ حقيبتي مزهواً، لاسيما وأنّ غلاف (الرحيق المختوم) أكسبها شيئاً من الأناقة، أو هذا ما كنت أحسبه!!!
وقفتُ أمام طابور التفتيش الروتيني، كان المجند الواقف أمام كبينته سميناً حليق الشعر مخنّث الصوت.
ألقيتُ عليه التحيّة وأنا أُطالع نفسي بفخار.
تُرى ما الذي سيقوله في نفسه عني!!!
ضحكتُ في داخلي بالطبع سيقول: يا لهذا الولد المثقف! ويا لحقيبته التي تحتوي كتباً ومحاضرات في المادية التاريخية لماركس، والانتحار لـ دوركهايم، والرحيق المختوم!!!!
في الواقع لستُ أدري لمن؟
نظر إليَّ وابتسم .. فابتسمت وتأكدتُ بأنه قال في نفسه ما قلته للتو في نفسي.
أخرجَ الكتاب ،أمسكه بيده اليسرى، وحقيبتي في اليمنى وأشار إلي برأسه ..
كان يمشي وتتساقط خلفه ملابسي الداخلية، ومحاضراتي الجامعية، وآخر قارورة عطر نسائيٍ اشتريتها من عند أبي فراس هديةً لأختي بمناسبة خطوبتها.
كنتُ أحاول لملمة شيء من متاعي، لكنه كان سريع المشي رغم بدانة مؤخرته التي تترنّح خلفه بانتظام.
دخلنا مكتباً ضيقاً لم يتسع لكلينا، أسود الجدران، طويلاً كنفق مظلم، يتجاوز العشرين متراً، يجثم في آخره رجل يرتدي زيّاً عسكرياً، ودون أن يعرف عن شأني شيئاً قفز من على طاولته وراح يخطو نحوي بهدوء، وما أن أصبحَ على مقربة مني؛ يفصلنا نصف متر وألف ألف ذلّ، صفعني براحته فارتطم رأسي بالجدار؛ سائل ساخن سالَ من جبهتي فلم أعره بالاً.
(سلفي يا أخو الشرموطة)؟؟
صمتت وفي قلبيَ حقد أرفسه بقوة علّي أُسيطر عليه.
لم أفهم!!! قلتُ رغم أني فهمت.
” هويتك أعطني هويتك” .. قالها ليرن هاتفي، مددتُ يدي على عجل لأسكته. إلا أنه أبى وابتسم.
(حماك الله يا أسدُ) أغنيةٌ خصصتها لعاهرتي فأنجتني وكاد يقتلني كتاب.
مومسٌ، وأغنيةٌ تُمجِّد السفاح يكفيانكَ فيما لو أردت العيش في بلادٍ تمارس هوايتها بذبحك، وقتلك، وشتم أختك في يوم خطبتها ليس لشيء بل خوفاً من حقيبة مليئة بالكتب، والملابس الداخلية.