ما المقصود بمفهوم الذات؟ الاستكشاف النفسي لـ “من أنا”؟
إطلالة: كيندرا تشيري، 2020
تناول وتحليل : د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك كلية التربية، جامعة دمنهور.
مفهوم الذات هو الصورة الذهنية التي يرسمها كل إنسان عن نفسه، ويعتبرها تعريفًا نفسيًا لذاته، يطل به على الآخرين ويبحر به في الحياة بخصوصية توجه وتميز رؤية ووضوح غاية واتساق مسلك. وسبق أن عبر سقراط في فلسفته الإنسانية عن حتمية استكشاف ووعي الإنسان بذاته بمقولته الأشهر في الأدبيات الفلسفية بصفة عامة “اعرف نفسك Know Yourself“، ويمكن ودون افتعال أو ادعاء في غير محله الإشارة إلى أن بوابة الولوج لعلم النفس والشخصية الإنسانية في حالة سواءها وانحرافها تبدأ وصلاً واتصالاً ونفاذً من مقولة “اعرف نفسك”.
وبدون الدخول في تفاصيل ذات طابع فلسفي ـ أدبي كما تعودت السؤال: ما المقصود اصطلاحيًا بمفهوم الذات؟ وكيف تتشكل صورة الإنسان عن ذاته؟ وهل تتغير مع الزمن؟ على أية حال تتشكل وتتطور صورة الإنسان عن ذاته بعددٍ من الطرائق تتعلق بصورة عامة بمصدرين:
- تفاعلات الإنسان المتبادلة مع الآخرين منذ وعيه على الذات في الوجود Interpersonal Relationships.
- ممارسته لفعل التدبر التأملي في الذات Self – Reflection.
وبصورة عامة يُعْرف مفهوم الذات بأنه “الفكرة التي يكونها الإنسان عن نفسه من خلال إدراكه لقدراته وسلوكه وخصائصه النوعية الفريدة عن الآخرين، بما يعكس الصورة الذهنية التي تمكنه من الإجابة بنفسه عن سؤال: من أنا كشخص؟”، وعادة ما يستدل على هذا المفهوم من التعبيرات اللغوية التي تتردد على لسان الإنسان وتعكس اعتقاداته وتصوراته عن ذاته مثل: أنا صديق مخلص، أنا شخص حساس، أنا شخص متفائل، …الخ، ويمكن من خلال تتبع ورصد التعبيرات اللغوية التي تتردد على لسان الشخص في عديد من مواقف التفاعل التي تحتويه “الاستدلال” على “الصورة الإجمالية العامة لمفهومه عن ذاته” فيما يعرف بتنكيك رصد وتحليل تعبيرات وصف الذات Self- descriptions Statements ” تتمة لمقاييس التقرير الذاتي.
ويجدر الإشارة إلى أن “مفهوم الذات” يبدو أكثر مرونة وأكثر قابلية للتغير والتعديل في المراحل العمرية المبكرة من حياة الإنسان، ويظل في حالة من الارتقاء والتطوير والتعديل عبر عملية “استكشاف الذات self-discovery “، و “تكوين الهوية identity formation“، فضلاً عن أن تأثير الآخرين في تكوين مفهوم ذات الشخص عادة يكون واضحًا في مراحل عمرية المبكرة، ويتناقص هذا التأثير كلما ارتقت العمليات المعرفية للشخص مع تقدمه في العمر بما يعكس ملمحًا أساسيًا من ملامح النضج النفسي دون أن يعني ذلك إسقاط تأثيرات الآخرين من الحُسبان.
ويجدر التوقف عند ثلاث نقاط أساسية فيما يتعلق بالتدبر في مفهوم الذات من المنظور الاصطلاحي أشار إليها كل من ريتشارد ريتشارد كريسب وريانون تورنر (2010)Richard Crisp and Rhiannon Turner في كتاب “علم النفس الاجتماعي الأساسي Essential Social Psychology “:
- الذات الفردية The individual self: وتتكون من خصائص وسمات الشخصية التي تميزنا عن الأفراد الآخرين، على سبيل المثال: انبساطي في مقابل انطوائي.
- الذات العلاقية The relational self: وعادة ما يتم تعريفها وتحديد ملامحها في إطار طبيعة ونوعية علاقاتنا مع الآخرين المهمين في حياتنا مثل: الأشقاء، الأصدقاء، الأزواج (الزوج/الزوجة).
- الذات الجمعية The collective self: وعادة ما يتم تعرفها وتبين ملامحها في إطار ما يعرف بعضوية الشخص في الجماعات الاجتماعية الكبرى مثل: بريطاني، جمهوري، ديمقراطي، أفريقي ـ أمريكاني …الخ.
وبصورة عامة يمكن القول أن مفهوم الذات “مجموعة الاعتقادات التي يتبناها الشخص عن ذاته واستجاباته للآخرين”، ويتضمن الإجابة عن سؤال “من أنا؟”.
وشأنه شأنه عديد من قضايا علم النفس قدم عدد من المنظرين تصورات أو أطر نظرية Theoretical Frameworks متنوعة لوصف وتفسير مفهوم الذات، ويتكون مفهوم الذات طبقًا لأحد هذه الأطر النظرية وهو “نظرية الهوية الاجتماعية social identity theory” من مكونين أساسيين هما:
- الهوية الشخصية personal identity: يعبر عن الهوية الشخصية بكل الخصائص والسمات والقدرات والإمكانيات الذاتية للفرد والتي تجعله منه شخصًا أو كيانًا نفسيًا فريدًا ومختلف عن الآخرين وعلى ذلك فإن المحك الأساسي للهوية الشخصية هو “محك التمايز والتفرد النوعي Uniqueness Criteria “.
- الهوية الاجتماعية social identity: يعبر عن “الهوية الاجتماعية” بالقواسم المشتركة التي بين زمرة من الناس أو جماعة من الناس وفقًا لمفهوم “الجماعة النفسية” كإطار مرجعي للشخص يحدد بها رؤيته لذاته كعضو في مجتمع أو دين، أو حركة سياسية معينة، وعلى ذلك فإن المحك الأساسي للهوية الاجتماعية هو محك “التماثل والامتثال symmetry – compliance Criteria “.
من جانب آخر حدد الاختصاصي النفسي د. بروس أيه براكين (1992) Dr. Bruce A. Bracken ستة مجالات لمفهوم الذات تتمثل فيما يلي:
- البعد الاجتماعي Social: ويعكس قدرة الشخص على التفاعل مع الآخرين.
- الكفاءة Competence: وتشير إلى قدرة الشخص على تلبية أو إشباع الحاجات الأساسية.
- الوجدان Affect: ويعكس وعي الشخص بحالاته الانفعالية.
- الجسمي Physical: ويتضمن مشاعر الشخص عن مظهره وصحته وبدنه والصورة الجسمية العامة لذاته.
- الأكاديمي Academic: ويتضمن النجاح أو الإخفاق في المدرسة.
- الأسري Family: ويتضمن مدى تصورات الشخص ورؤاه عن مدى نجاحه أو إخفاقه في الأداء النفسي الوظيفي في وحدة الأسرة.
ورغم ما سبقت الإشارة إليه تبقى لأطروحات كارل روجرز Carl Rogers قيمتها ووجهتها العلمية بالغة الإحكام فيما يتعلق بوصف وتفسير “مفهوم الذات” ودلالاته التطبيقية في مجال الإرشاد والعلاج النفسي؛ إذ بين بصورة مباشرة أن مفهوم الذات تكوين نفسي متعدد المكونات تنتظم في إطار بنيته الكلية ثلاثة أجزاء:
- صورة الذات Self-image: وتعكس كيف نرى أنفسنا. فلكل فرد منا “صورته أو تصوره لذاته” وهي سياق تنتظم في إطاره رؤية الشخص لخصائصه الجسمية، سماته الشخصية، وأدواره الاجتماعية. ويجدر الإشارة إلى أن “صورة الذات” قد لا تتماهي بالضرورة مع الواقع، بمعنى قد يبالغ البعض في رسم “صورة الذات” فيما يعرف بصورة الذات الملتهبة inflated self-image والمبالغ فيها في اتجاه التصوير المثالي للذات، أو قد ينحرف تصور الشخص لذات ناحية التهويل من شأن مظاهر ضعفه وجوانب قصوره بصورة لا يقرها ولا يراها الآخرون من حوله فيما يعرف ب “الانتقاص من قدر الذات Self-deprecation“.
- تقدير الذات Self-esteem: ويعكس ما يعرف بالجانب الوجداني من مفهوم الذات ويعبر عن إلى “أي مدى يحترم الإنسان ذاته؟” ويوجد عدد من العوامل التي تؤثر بصورة مباشرة في تقدير الشخص لذاته منها: كيف يقارن ذاته بالآخرين؟ وكيف يستجيب الآخرون له؟ فعندما يتعامل معنا الآخرون بإيجابية ويتجاوبون مع سلوكنا بصورة إيجابي تزداد احتمالات أن نكون تقديرًا إيجابيًا لذواتنا positive self-esteem. وعندما نقارن أنفسنا بالآخرين ونجد أننا أقل منهم سواء كان هذا حقيقيًا أو مدركًا متخيلاً يكون لهذه المقارنة تأثيرًا سلبيًا على تقديرنا لذواتنا.
- الذات المثالية Ideal self: أو الذات التي يرغب ويود الإنسان أن يكون عليها. وفي عديد من الحالات قد لا تتطابق الصورة التي نود أن نكون عليها مع الصورة التي نحن عليها بالفعل في الواقع فيما يؤشر إلى مفارقة “الأمنية ـ الواقع” كمصدر لعديد من صيغ ومظاهر الاعتلال النفسي حال تجذر هذه المفارقة في التكوين النفسي للإنسان.
وتأسيسًا على المفارقة المشار إليها غالبًا ما تناقش فكرة “التطابق عدم التطابق” بين مكونات مفهوم الذات فقد لا تعكس تصوراتنا ومفهوماتنا لذاتنا واقع وجودنا الحقيقية أو صورة ذاتنا الحقيقة الواقعية في الحياة، فعلي سبيل المثال قد يبالغ بعض الطلاب في تصوير إنجازهم الدراسي رغم أن سجلات نجاحاتهم الدراسية تعطي قصة أخرى.
ورأى كارل روجرز أن درجة الاتساق بين مفهوم الشخص لذاته وواقع وجوده الموضوعي يعبر عنها ب “التطابق / عدم التطابق”، ورغم أننا جميعًا في واقع الأمر نميل إلى تشويه الواقع بدرجة ما، فإن الطابق دالة لاقتراب مفهوم الذات كما يتصوره الشخص مع واقعه الفعلي في الحياة.
واعتقد كارل روجرز أن جذور عدم التطابق” تكمن في الطفولة المبكرة للشخص فعندما يضع الآباء شروطًا مسبقًة لحبهم وتوادهم مع أطفالهم بمعنى عدم تعبير الآباء للحب والتواد مع أطفالهم إلا عند قيام هؤلاء الأطفال بسلوكيات معينة أو عيشهم بصورة عامة وفقًا لتوقعات الآباء يبدأ الأطفال في تشويه ذكرياتهم بهذه الخبرات الأمر الذي يتركهم عرضة لمشاعر عدم استحقاق حب آبائهم لهم.
على الجانب الآخر فإن “الحب غير المشروط Unconditional love” يساعد في تكوين التطابق لدى الأطفال بين “مفهوم الذات”، و “الواقع”، إذ أن الأطفال الذي يخبرون مثل هذا الحب ويتعرضون له من قبل آبائهم والآخرين بصفة عامة ليسوا في حاجة إلى تشويه ذكرياتهم من أجل الاعتقاد بأن الآخرين سوف يحبونهم ويتقبلونهم.
للمزيد راجع:
- Bailey, J. Self-image, self-concept, and self-identity revisited.J Natl Med Assoc. 200;95(5):383-86.
- Bracken BA. Handbook of Self-Concept: Developmental, Social, and Clinical Considerations. New York: John Wiley & Sons; 1996.
3- Cherry, K. (2020). What Is Self-Concept?: The Psychological Exploration of “Who Am I?”.
- Crisp RJ and Turner RN. (2010) Essential Social Psychology.London: Sage Publications.
- Weiten W, Dunn DS, and Hammer EY. (2014)Psychology Applied to Modern Life: Adjustments in the 21st Century. Belmont, CA: Wadsworth.
- Rogers CA. (1959) Theory of Therapy, Personality and Interpersonal Relationships as Developed in the Client-centered Framework.In: S Koch, ed. Psychology: A Study of a Science. Vol. 3: Formulations of the Person and the Social Context. New York: McGraw-Hill.