المكانة الاجتماعية وانتهاء التشابه.. نموذج المعلم
سري سمور | فلسطين
يحتاج رصد وتحليل التحولات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد أوسلو إلى بحث دسم يشترك فيه خبراء وأصحاب دُربة في هذا المجال، ويصلح أن يكون برنامجًا وثائقيًّا من سلسلة حلقات، وأترك هذه المهمة لأصحابها، إن وجدوا، أو وجد من لديه الاهتمام أصلاً.
لا شكّ أن التغيرات في أي مجتمع تنعكس على التصورات السياسية، والتعاطي مع الشأن العام، صعودًا أو هبوطًا، سلبًا أو إيجابًا، فكيف الحال ونحن نتحدث عن شعب أو مجتمع يواجه احتلالاً استيطانيًّا اقتلاعيًّا إحلاليًّا؟ ومن وجهة نظري فإن فصائل المقاومة، ومجموع المعنيين بالعمل المقاوم عمومًا، إمّا أهملوا هذه المسألة الهامة بناء على مراهنات الأيديولوجيا، أو الانتظار، وبقي الأمر مرهونًا بدردشات عابرة، وحتى لو كان ثمة اهتمام بالموضوع فإنه ظل محصورًا في نطاق أكاديمي ضيق.
وهذا وضع محزن فعلاً؛ فالعدوّ بكل أدواته الاستخباراتية والإعلامية والأكاديمية البحثية يسبر غور مجتمعنا ويقدم التوصيات لأصحاب القرار، ولا أبالغ إذا قلت إنهم يفهمون مجتمعنا عمومًا أكثر منا، في الوقت الذي نظنّ أنّ فهمهم هو ما يتلفظ به جندي أو ضابط أو تاجر إسرائيلي من عبارات بلهاء تدل على سطحية وعدم فهم تام لمجتمعنا، فهذه العينات ليست من تدرس وتحلل وتقرر.
هذا بالإضافة إلى جهات غربية تدرس سرًّا وعلانية ما يجري في مجتمعنا، وما تستنبطه يجد طريقه بسهولة إلى أروقة العدو السياسية والأمنية، فيما نحن أبناء المجتمع المستهدف لا نكلف خاطرنا بعملية رصد لهذا المجتمع، باعتبار أننا نفهمه، ونكتفي بأحاديث هنا وهناك دون استشعار أهمية الرصد والتحليل للمتغيرات الاجتماعية.
سأكتفي هنا كما فعلت في معظم النصوص السابقة بالتركيز على التغيرات في الضفة الغربية، مع أنه يمكن القول إن تشابهًا يكاد يلامس التطابق مع الوضع في قطاع غزة في بعض الأمور، وحين أتكلم عن مرحلة أوسلو فهي عبارة قد تحتاج إلى توضيح؛ ذلك أن كل شخص أو باحث أو مهتم يقسمها وفق رؤيته، وبالنسبة لي فإن المراحل كالتالي:
من أيلول/سبتمبر 1993 لحظة توقيع الاتفاق حتى البدء بتطبيقه في أيار/مايو 1994 ومع أن هذه الفترة قصيرة نسبيًّا ولكنها شهدت أحداثًا كبيرة ومهمة تحدثت عنها سابقًا، أهمها تصاعد المقاومة المسلحة نوعيًّا بقيادة حماس والجهاد الإسلامي، ووقوع مجزرة المسجد الإبراهيمي.
من تشرين ثاني/نوفمبر 1995 حيث انسحبت قوات الاحتلال من مراكز المدن الفلسطينية في الضفة الغربية (عدا الخليل التي احتاجت اتفاقًا خاصًّا) بعد سنة ونيف من الانسحاب من منطقة أريحا وقطاع غزة حتى انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/سبتمبر 2000.
من أيلول/سبتمبر 2000 حتى 2006/2007 من 2007 حتى الآن.
ما سأتكلم عنه هو بعض التغيرات الاجتماعية التي عشتها ولاحظتها وناقشتها وقرأت ما تيسر حولها في الضفة الغربية في سبع سنين أي منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ (1993) حتى اندلاع انتفاضة الأقصى.
في هذه السنوات شهدت الضفة الغربية تغيرات في الحالة الاجتماعية، انعكست على التعاطي مع الواقع السياسي، وبطبيعة الحال على المقاومة ممارسة وفكرًا، وكما قلت يظل هذا جهد المقل حتى يقوم بالمهمة كاملة أهل الخبرة.
وجدير بالذكر أن التغيرات لم تكن جميعها مرتبطة بأوسلو وتطبيقاته ومخرجاته، فبعضها تزامن معه، فالمجتمع يتأثر بالتغيرات الإقليمية والدولية وبالتجديدات والاختراعات التي شهدتها هذه المرحلة.
النظرة والمكانة.. تراجع التشابه
عشنا زمنًا كان فيه المرء يفاخر بأن صلة ما تربطه بشهيد من شهداء انتفاضة الحجارة، سواء قرابة -ولو بعيدة جدًّا- أو مصاهرة، أو علاقة شخصية ولو كانت عابرة مثل تناول كوب شاي معه، وهذا ينسحب على بقية الذين حملوا جمر المقاومة والنضال كالمعتقلين والمطاردين، ولو بدرجة أقل بوضوح من حالة الشهيد.
ولكن جاء وقت صار لأيقونات النضال من يزاحمها في النظرة والمكانة؛ وكي لا يفهم الأمر خطأ، كان الشهداء والأسرى والمقاومون، وما زالوا، وسيبقون، أيقونات مميزة، وأصحاب احترام وتقدير مجتمعي كبير ومميز، ولكن ما جرى أن نظرة الناس صارت موجهة إلى أمور أخرى، فمن نتائج انتفاضة الحجارة، تراجع بل تلاشي المكانة التي حظي بها بعض الناس، بحكم ثروتهم، أو علاقاتهم مع بعض الدول العربية أو الغربية، أو حملة الشهادات والدرجات العلمية، ليحل محلهم (الجنرالات الجدد) كما في تعبير الرئيس عرفات المعروف في وصفه لأطفال الحجارة، فقد لمسنا أن أي شهادة علمية أو انتماء موروث لأي عائلة أو امتلاك المال والعقارات، لم تكن تساوي في أعين السواد الأعظم من الجمهور شيئًا أمام الحالات النضالية من شتى الفصائل.
الآن وبفعل عدم وجود احتكاك مباشر ووجود فيزيائي للاحتلال كما كان في انتفاضة الحجارة، صار الناس أو ربما عادوا إلى إعطاء مكانة ليست بسيطة لأهل الجاه والثراء، وصولاً إلى أصحاب الدرجات العلمية والأكاديمية، وبطبيعة الحال، إلى ذوي المناصب الرفيعة في السلطة الناشئة من مدنيين وعسكريين.
تميز المجتمع الفلسطيني باحترام وتوقير المعلم/المدرس في مختلف المراحل، وقد تكون هذه سمة عربية أو حتى عالمية لأصحاب هذه المهنة، ولكن كان الفلسطيني مميزًا، بحكم أن المعلم ليس مجرد صاحب مهنة يأخذ عليها أجرًا ، بل هو حامل وصاحب رسالة تربوية بعيدة المدى للأجيال، في ظل شعور بسياسة التجهيل الإسرائيلية (انتهج الاحتلال هذه السياسة فعلاً فترة من الزمن)، والمعلم يقوم مقام الآباء والأمهات، بل كان هؤلاء يعطون المعلم صلاحيات كبيرة في التعامل مع أبنائهم.
طبعًا في انتفاضة الحجارة تراجعت صلاحيات المعلم كثيرًا بحكم فترات الإغلاق الطويلة للمدارس، وفي فترات استئناف الدراسة القصيرة المقلصة كان الملثمون، أو من أفرزتهم الفصائل للتنسيق، هم أصحاب الكلمة الأخيرة في المدرسة وليس المعلم أو مدير المدرسة.
وبتقديري أن مكانة المعلمين المميزة في المجتمع الفلسطيني، لها سبب آخر، لا يقل أهمية عما ذكرت من حمله رسالة عظيمة، وهي تشابه الأحوال في المجتمع؛ فقد كان كثير من الناس يعملون في الداخل، وعملهم غالبًا في قطاع البناء والزراعة أو التنظيفات، فليس بينهم عمومًا من هو صاحب ميزة رفيعة، حتى من كان متعهدًا يشرف على عدد منهم، وأنت هنا تتحدث عن آلاف أرباب الأسر، وكان هناك تجار وأصحاب مصانع صغيرة نسبيًّا يشغّلون عندهم عددًا من الأجراء، ومجموعة تعمل في فلاحة الأرض وزراعتها والعيش من محاصيلها (تراجع العدد بتسارع كبير حتى لا يكاد يذكر) ومجموعة من الأطباء، وهؤلاء أيضًا كانت لهم مكانة اجتماعية مميزة، ولكنهم عمومًا قلة، وكانت دراسة الطب في خارج فلسطين، والقادر عليها هم أبناء الميسورين، الذين فوق مكانتهم السابقة، كأبناء عائلات ثرية أو من (الملاّكين)، حظوا بحكم احتراف الطبابة على مكانة جديدة، وعدد من المحامين (دراسة القانون أيضًا كانت في الخارج) والذين عمومًا كانوا يقاطعون المحاكم العسكرية الإسرائيلية، فيظل مجالهم المهني محدودًا، وحتى هذه العينات، ربما امتلك الواحد منهم سيارة (غالبًا مستعملة) وبيتًا ربما لا يتميز كثيرًا عن بقية بيوت الناس…باختصار كان أغلب الناس كما يقال (حالهم من بعضه).
وبحكم أن المعلمين كانوا أكثر عددًا من الأطباء والمحامين والمهندسين، ومهنتهم ومجالهم هو التعليم، في مجتمع انكب قطاع واسع منه في الوطن والشتات على التعليم، باعتباره (المنقذ والمخلص) من تبعات النكبة، والضامن لحياة كريمة، وظلت الأسر تتوارث هذه النظرة، إلا من تنبهوا إلى التغيرات الاقتصادية، بحكم هذه العوامل وغيرها حظي المعلمون بمكانتهم التي سبقت تلك المرحلة.
ولكن في مرحلة ما بعد أسلو، صار هناك وزراء ومسؤولون ونواب وضباط وأصحاب مناصب ونفوذ، فمن الطبيعي أن تتراجع مكانة المعلم، أو على الأقل أن يوجد من يزاحمه وينافسه مكانته بحكم الواقع، وزاد من تراجعها تغير في نظرة المعلم نفسه -مع التوظيفات الجديدة في قطاع التعليم- لمهنته وحدودها، كما أن انتفاضة الحجارة ولّدت حالة تمرد تلقائية عند التلاميذ، فالتلميذ كان يهاب المعلم، ظنًّا منه أنه يمتلك كل المعلومات مع قوة وسيطرة، ولكن هذا التلميذ الذي عايش بطش الاحتلال المباشر، خاصة إذا دخل سجون ومعتقلات الاحتلال نظرته ستتغير، حتى ولو ظل يحترم المعلم، فهذا من جانب أخلاقي، لا من تصور (أسطوري) كالذي كان.
ومن نعم الله تعالى أن اللهجة الفلسطينية لا تحمل مفردات تمييز طبقي مثل اللهجة المصرية مثلاً، ومفردات التوقير والاحترام في اللهجة المحكية قليلة تشير إلى المهنة (أستاذ: وتقال للمعلم والمحامي والصحفي وما شابه وتنسحب أحيانًا على المهندس فلا يقال عند أغلب الناس تعبير (باشمهندس) الذي يستخدم في مصر مثلا) أو (دكتور: للطبيب أو أحيانا للصيدلاني أو العامل في الأشعة والمختبرات، وللمحاضر في الجامعة) ومن أكثر ما يوقر الناس به شخصًا ما؛ إطلاق كلمة (حج/ حاج) عليه حتى لو لم يكن قد أدى فريضة الحج، خاصة مع تقدمه في السن، كذلك الاستخدام الواسع للكنى (أبو فلان) على غالبية الرجال، استحياء من ذكر اسمه صريحًا مجردًا إذا لم يكن طبيبًا أو معلمًا أو ما شابه، ويحظى به التجار والعمال وغيرهم، بل حتى يقال (الدكتور أبو فلان) فالكنية من باب الاحترام بارزة في مخاطبات الناس اليومية، وهذه الميزة (عدم وجود مفردات طبقية) في الدارجة الفلسطينية ساهمت، مع الأمور التي ذكرت، في تشابه وتجانس المجتمع.
وقد أصدر الرئيس عرفات تعميمًا بإطلاق مفردة (الأخ) على أي صاحب منصب بمن فيهم الرئيس، فيما يخص المخاطبات المتعلقة بأجهزة السلطة المدنية والعسكرية، ولكن أضيف إليها في تعاملات الناس الصفة الوظيفية مثل (الأخ الوزير، أو معالي الأخ الوزير، الأخ العقيد.. إلخ).