منظور الزمن المستقبلي Future Time Perspective

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية – جامعة دمنهور – مصر 

 

لا ريب في أن القدرة على التنبؤ، التوقع والتخطيط للمستقبل والاستبصار به عاملاً حاسمًا في واقع الأمر بالنسبة لطيب الحياة، والدافعية، والسلوك.  ورغم ذلك لا يتم تضمين نظرية “منظور الزمن المستقبلي Future Time Perspective (FTP) في دراسات الصحة النفسية وعلم النفس التنظيمي، كما أن دراسات “منظور الزمن المستقبلي” تبقى غير مترابطة ومبعثرة في عديد من المجالات ويتم تناول مفاهيمه الأساسية من رؤى وتصورات شديدة التنوع الأمر الذي قد يتعذر معه تحديد ماهية مفهوم منظور الزمن المستقبلي وأبعاد ومؤشرات قياسه وعلاقاته ومتعلقاته بالمتغيرات المعرفية وغير المعرفية وجدانية ودافعية واجتماعية وسلوكية.

ويعد مفهوم “منظور الزمن المستقبلي” تكوينًا نفسيًا معرفيًا ـ دافعيًا، وينظر إلى “منظور الزمن المستقبلي” كأحد حلقات أو أبعاد الزمن وفقًا لوصف أنصار نظرية منظور الزمن Psychological time perspective والتي تقدم وصفًا وتفسيرًا للموقف النفسي للإنسان من دوائر الزمن الثلاث: الماضي الشخصي، الحاضر الشخصي، والمستقبل الشخصي، فيما يعالج في عديد من الأطر المرجعية المعاصرة تحت مسمى مفهوم “الذات الزمنية” Time based Self-Concept .

صحيح يعيش الإنسان في سياق زمني آني حاضر هو ماثل فيه بوجوده جسمانيًا ونفسيًا إلا أنه وبكل تأكيدًا يعيش أيضًا بدرجة أو بأخرى في ماضيه نفسيًا تدبرًا وتأملاً اجترارًا اعتزازًا أو حسرًة وقد تكون هذه الدرجة مبالغ فيها بصورة يقيم بها نفسيًا وبصورة تامة في هذا الماضي الممتع أو البائس، ويعيش من جانب آخر نفسيًا أيضًا في مستقبل مُدْرك متخيل متمنى قائم على التنبؤ والتوقع بصورته ذاته فيه وبمآلات وجوده وصيرورة حاله في هذا المستقبل.

وجاءت أول إشارة لمنظور الزمن المستقبلي في كتابات أحد أعلام المدخل الجشطالتي في علم النفس وصاحب نظرية المجال الحيوي كورت ليفين (1942) إذ عرف منظور الزمن المستقبلي بأنه طريقة ومحتوى توقعات الفرد للمستقبل وصورته في ضوء علاقاته بالزمن النفسي الآني أو الحاضر الذي يعيشه (Lewin, 1942).

وينظر إلى بعد “منظور الزمن المستقبلي” في إطار حلقات الزمن الثلاث على أنه خاصية شخصية معرفية ـ دافعية تنتج من مصدر أساسيين:

  • الأول- وضع الهدف goal setting. (Lens, 1986;Nuttin & Lens, 1985)
  • الثاني- لواحق أو تداعيات الدافعية motivational consequences (de Bilde, Vansteenkiste, & Lens, 2011).

ويتأسس موقف ورؤية وتصور الإنسان للمستقبل من خبرات السابقة والحالية؛ إذ يبنى عليها رغباته الغامضة والعامة والتي تتعين في أهدافٍ دافعية تحفيزية محددة وتضمينها في تصور وسائل تحقيقها بخطط سلوكية ومشاريع ذاتية شخصية في إطار التوجه المستقبلي لتحقيق الذات كأن يرغب في أن يصبح عالمًا نفسيًا مدربًا أكاديميًا أو أبًا ورب منزل أو حتى سباك أو ميكانيكي، بإلحاح على مفهوم الحاجة الكفاءة وتصوير الذات تصويرًا مثاليًا في المستقبل هذا في حالة سواء وسلامة الموقف من الماضي والحاضر.

وعادة يتم تحليل هذه الأهداف وفقًا لبعدين على النحو التالي:

  • البعد الأول- المحتوى content: ويرتبط بأهداف داخلية مثل: الجوع، العطش، التواد، الشغف والفضول، الإنجاز، القوة، في محتويات هدف خارجي مثل السمعة، المال، …الخ.
  • البعد الثاني- التموضع الزمني temporal localization: والأهداف الدافعية أو التحفيزية بصفة عامة تتموضع في الزمن المستقبلي حتى وإن كان الشخص موجه بتحقيق شأنًا آنيًا على المدى القصير جدًا، فالإنسان بصفة عامة موجه نحو المستقبل إما بأهداف قصيرة الأجل مثل رغبته مثلاً في أن يذهب للتريض أو التنزه بعد الظهر أو أهداف بعيدة الأجل مثل الاستعداد للامتحانات الالتحاق بكلية الطب من أجل أن يصبح جراحًا، بل قد يجتهد الشخص في تحقيق أهداف تتجاوز ما تبقى له من العمر كأن يدخر مالاً من أجل جنازته أو من أجل أن يتركها لأولاده أو لتنفق في أوجه الخير بعد موته، وأطلق فيليب جورج زيمباردو وجون بويد (2009) على نوعية الأهداف الأخيرة هذه منظور الزمن التجاوزي أو المتسامي transcendental time perspective ذلك أن الإبحار في الحياة وفقًا لمنظور الزمني التجاوزي أو المسامي يتطلب صياغة وتكوين أهدافًا دافعية تحفيزية بعيدة الأجل ومشاريع سلوكية لتحقيقها ربما تتجاوز منظور الزمن المستقبلي القريب أو المرئي (Zimbardo & Boyd, 2009).

وعلى ذلك يمكن تعريف منظور الزمن المستقبلي وفقًا لبعد وضع الهدف goal‐setting perspective التوقع الحالي للأهداف القريبة و/أو البعيد في المستقبل (Lens, Paixão, Herrera & Grobler, 2012).

ويوجد فروقًا فردية في تصورات الناس لمنظور الزمن المستقبلي بدلالة وضع الهدف وعادة يتم توزيع الناس بناء على هذه الفروق على ثلاث فئات (Lens, 1986Nuttin & Lens, 1985Seginer, 2009Shirai, 1996):

  • الفئة الأولى- يندرج تحتها الذي يبحرون في الحياة موجهون بأهداف قصيرة الأجل في المستقبل القريب Future short – term goal.
  • الفئة الثانية- يندرج تحتها من يبحرون في الحياة موجهون بأهداف أكثر عمقًا وأبعد أجل فيما يعرف بالأهداف المستقبلية طويلة الأجل Future Long- term goals.
  • الفئة الثالثة- يندرج تحتها من يبحرون في الحياة موجهون بما يعرف أهداف التسامي والارتقاء والبقاء وتجويد نوعية الحياة بإثمار إيجابي يبقيهم أحياءً بعد موتهم وهم من تسطر أسماؤهم بحروف من نور في تاريخ البشرية فيما يعرف بأهداف دافعية تجاز الذات والتسامي بها Self Transcendence based Motivational goals.
  • للمزيد راجع:

–         Lens, W., Paixão, M., Herrera, D. & Grobler, A. (2012). Future time perspective as a motivational variable: Content and extension of future goals affect the quantity and quality of motivation.  Japanese Psychological Research, 54(3):

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى