ماذا لو نزفنا الغربة شعراً؟

حسن قنطار | سوريا

عجوزٌ من بين آلاف المهجّرين المقذوفين في هوامش منسية، تزور أحد المراكز الصحية المجاورة للمخيم، تأخذ علاجها ثم تسند ظهرها المقوس إلى جداره، وتطيل استراحتها دقائق تكنزها من زمن العابرين.
يستوقف رأسُها المسنود أيضاً أحدَ الممرضين العاملين في المركز ليسألها على عجالة:
ماذا تفعلين هنا يا جدة؟ لو أفسحت المكان للمراجعين؟
تجيبه الجدة بأنين متأرجح:
“آه يا وليدي .. اشتقت أن أسند ظهري إلى جدار، وأنا مرمية في بطن خيمة من تسع سنوات”.

هي لقطة عابرة بعض الشيء، تكاد لا تشعل قشة من بين آلاف الصور التي أضرمت قهراً لا يفتر أواره.
وأنا وربما أنت شاعر لا يقف هنا إلا ليحرق كلماته، أو ليطبطب بقصيدة على رأس وطن يتيم، ولعله يسكن لواعجه ببيت شعر من مرثياته وأحزانه المثلجة.
نعم .. هي مثلجة حقاً، فماذا لو نزفنا الغربة شعراً؟
وماذا لو قال فينا آخر:
ثمّ ماذا؟
ألم يُشبعْ ذئابَكَ صوتُ جوعي؟
وعزفي لا تنادمُه الذئابُ
///
ألم تركعْ بناتُ الحِلمِ منّي
وسبّحكَ التأوّهُ والغيابُ؟
///
وعرّيتُ القصائدَ فيك حجّاً
ليسعى بين خديكَ الرّضابُ
///
وأسكرتُ اللياليَ من دموعي
فيرقصَ فوق جفنيك الضبابُ
///
أيا وطناً عصرتَ اليوم قلبي
فهل أحيا وقد جفّ الخضابُ
///
ويا أمّاً حليبُك حال سمّاً
قتلتِني قبل أن يلدَ السحابُ
///
تُراني أرصفُ الأفلاكَ جسراً؟
وأرويني إذا ضحك السرابُ؟
///
وحقّكَ ما سئمتُكَ رغمَ موتي
ولن أقصيكَ لو عزّ الخطابُ
///
فقل لي إذ فديتُك ثمّ ماذا؟
أترضى أن تساومني الذئابُ؟

في المنفى:
لا يقتات الناس على لذيذ كلماتك، ولا يرتوون من دلاء قوافيك، ولا يستشفون من عقاقير انزياحاتك او أعشاب منثوراتك …
إنهم يا سيدي .. بحاجة إلى: لقمة ودفء وزاوية.
سألني أحد الإعلاميين في لقاء أدبي: ما هو أكثر ما يحفزك على الكتابة؟
عندها لا أدري كيف استرسل لساني على غير سجية: ما يحفزني يا صديقي كسرة خبز لا تكاد تطالها يد جائع حتى تسرقها أفواه الذئاب، أو أن تدوسها أقدام الحاقدين، ما يحفزني ليس الفقر؛ ولكن أن ترى الأغنياء يتسكعون في أزقة الفقراء ناهبين، ما يحفزني ذلك التشرد المدروس، ذلك الوطن الذي إذا أردت أن تقبله فاجأتك شفاهك بالجفاف؛ فلا أنت تذوقت لذيذ تربته، ولا هو أحس بك.
بالعودة إلى ما تصبو إليه آمال النازحين، أقف على ثلاث:
–        لقمة:
تشبع النازح كرامةً من غير أن تسكره منة في غربة كنا نخالها ضيافة كريمة في رحاب الأصدقاء:

” فكنا نظن غداة التجينا
لأرض الإخاء وفيها التقينا
بأن الجميع بشائر سعدٍ
وأن الجميع مشاعل مجد
وأن الجميع يقوي الضعيف
وأن الجميع شتاؤه صيف
وأن الجميع يواسي الجميع
وأن الجميع كحصن منيع
وأن وأن وأن وأنْ
وإذ بعد أن تزيد المحنْ”

–        دفء:
تتنفسه عروقهم المسكون دهشة، دونما أن يلسعهم بأغطية العار؛ فتمزق أنياب البرد دفء خيمة عرّت العالم قبل أن تعري الشاردين.

فهل يكفي أن يقال هنا:

لي خيمـــــة ترأف بي

أحنى عليّ من أبي

///
وشاعر القصر روى

قصتــــه في نصب

///
عن جـــــــدة ترنو إلى

سعادتي في الملعب

///
فــــــــذكرتني خيمتي

تحنو كمـــــا أمّ أبي

أجل … هكذا تلفّني بأذرعها، وتفرحني بأمانها، وتحضنني بحنانها حتى غدوت
أقول: هي جدة لي في لهفتها لكنها ليست أماً لأبي.
لا تدرأ عني لهيب الشمس لكنني أخاله تحتها دفئاً ناعماً حيث أحاكي آلاماً تأن
ودماءً تسيل.
ولا تقيني برد الشتاء، لكنني أحسّ به أغنية تطربني عندما تملأ أذناي صرخات المظلومين .
تعصف بها الريح الغاضبة في شتاء عابس قارس فأحسبها أرجوحة تلاعبني بأناملها، تحاول أن تلهيني حتى أنام .
حبالها تغني ، وسقفها يملأ ساحتها تصفيقاً ، وأطرافها تراقصني ، وأوتادها تعزف لي ألحاناً مؤنسة …… نعم هي جدتي الحانية، هي وسادتي الناعمة هي سريري الوثير ، هي مرقدي حيث لا مجال للرقاد إلا في أحضانها ، ولا ملاذ إلا بين أذرعها ، ولا سلام إلا في أروقتها …..
فأخرس أيها العالم الدعيّ في أنساب السلام …..
فأنا نسبي الأصيل لخيمتي.
واخسئي أيتها الأمم التي تحاضر في قيمة الإنسان …..
فأنا الذي أختصر الإنسانية في خيمتي.

–        زاوية:
قد تجدونها كلمة هجينة بعض الشيء، فأين محلها من المقال؟
أستطيع أن أعربها: ضمير مدفون أبداً لا محل له من القلب.
نعم ..
فليس ثمة في قلوبنا زاوية تحتمل أو تحمل كل تلك الفواجع الشرهة، وليس للجسد زاوية لا في وطنه يأوي إليها، ولا في مهجره يأمن جانبها.

فهل ينفع أن يقال:
يستبيحُ بكارةَ سكينتي
ويتسوّرُ جدارَ أمني
ويئدُ الحياةَ غيلةً
تحت جذوع أمجاده
وأمام عيني
///

لم يعدْ هنالك سيارةٌ تمرّ
ترسلُ دلوَها
تنشلني
لقد دفنَ البئرَ
وعلّق جماجم العابرين
دلاءً عطشى
///

وإذا فار تنّورٌ هناك
في خاصرة الزمن
شقّ الأخاديد
وأطعم النار حقده
وسقاها سمّه
ونادى الفيلةَ
لتهدم قداستي
///

بالتْ عليك اللعناتُ
أيها الكون الذي
ماعرف إلا العهر
من زمن التنهيدة الأولى
ألا ليته كان إجهاضاً
أو ريحَ مغصٍ
خرجت وانتهى كلّ شيء
حقاً إنها زفرة.

من هاتيك الخيام المأسور الآسرة، والمستلقية عبثاً على أرصفة الهوامش، والمتخومة بالآهات ستجد من يهمس على استحياء: لعلي أستنشق عبائر الأمل الذي تلوح بوارقه في ذلك الأفق الساخر، لكنّ ذئاباً عوت فقتلت ضميري:

أنا القَاضِي بـلا قلمٍ

أنا الجــــــــلاد أُعدمني

////
عقدت اليوم إعدامي

بسيف المــــوت أَقْتُلُني

///
فلا عجبٌ يساوِرُنِي

ضميري سيق يُسعفني

///
ويدْنو نحـو مصرعه

ونـار الحِــقــدِ تحـرِقُنِي

///
عــلـى دنيــا تُغالبُني

سهـــــام اللؤمِ ترصدني

///
لمن أشكو تباريحي ؟

  ومن ذا عـــــاد يمنعني ؟

أحمد  …. ابن أم أحمد، الطفل الذي نسب إلى أمه في أعراف
مخيمنا، لأنه واحد بين المئات الذين فقدوا آباءهم
وغادروا بلادهم لاجئين إلى بلاد أفقدتهم كثيرا ً من حنان الحياة، وألفة العشرة
ابن أم أحمد يبكي أباه الذي فرح معه في عيدٍ منصرم، أمّا الآن تصارع
وجدانه أسئلة حائرة تارة وموجعة تارة أخرى من غير أن تظهر على شفتيه البريئتين، فترتسم على وجنتيه دمعات دافئة تحكي قصة طفل فقد حياته مع فقد أبيه ….
وليس بعيداً عن هذه الأوجاع حال كل لاجئ يعيش في جنبات المخيم الحرقة واللوعة والحنين وشيء من اليأس القانط مع هجرة عابسة سوداء .
في العيد كل الأشياء تحكي قصصاً شتى …. الخيمة وحبالها والأراجيح وأطفالها والألعاب وهواتها والمساجد وعمّارها والحلويات وصنّاعها والزيارات والمباركات والمعايدات وأصحابها ، حتى أقلامنا ما عادت تروي لنا إلا أنواعاً من الألم، وألوناً من الشقاء .
في العيد :
كل المدامع تروي زرع غربتنا

وتعزف الروح ألحاناً من الألم
///
هل تنتهي حكايانا إذا قال قائلنا:
///
هنا في أرض غربتــنا

هنا في ببيتنا الثــــاني
هنـــــا أعمارنا اعتكفت

///

هنا التاريخ أقصـــاني
هنا الدنيا بأجمعــــها

///

تقدّ قميص إحساني
هـــنا لي خيمةٌ رقصت

///

علـــى أوتار أحـــزاني
هنا التشريد معتقــدي

///

وتيه البين أطـراني
هــــنا همٌّ يؤرّقــني

///

وحِملُ البعد أقـواني
هــنا بــــوحٌ سأفرغه

وإن ضيّعت عنـواني

تسع سنوات عجاف، وليس في الأفق ظلال لبقرة سمينة تأكلهن وفرةً و أملاً، وليس في مرمى نواظرنا ومضة تهمس بالفرج.
تسعٌ جائعات، والعودة ترسمها ريشة الأفاكين، تُرى هل بعد هذا الزمن المشنوق نجاة واعدة؟ يتساءل لاجئ ابن خيمة المكلوم.
هل ثمة مكائد أخرى تحاك تحت عباءة ليالٍ قادمات؟ يقول آخر من بني غربة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى