مهالك الإطراء وكوارث التبجيل
د.موج يوسف| ناقدة وأكاديمية – العراق
هناك علاقةٌ حميمة بين الناقد والأديب، وهي قديمة جداً تعود إلى أوّلِ قضية في تاريخ النقد العربي هي احتكام أم جندب زوج امرئ القيس التي وازنت بين شعر زوجها وشعر علقمة الفحل، فمالت بغنجٍ نقدي بأن علقمة أشعر من امرئ القيس، فطلقها الأخير، للإطراء على شعر خصمه.
في عصرنا الحديث نرى أن النّص الأدبي وقع ضحية نشوة الانطباع الأول الذي يقذفه الناقد في هيئة أحكام خالية من المعايير النقدية،والموضوعية، وكأن كلَّ النصوص الأدبية ترانيم أو آيات لا يمكن التوغل في عمقها، ولا يجرأ على تعريتها، وبيان ما وراء النص. في حين لو عدنا إلى أحد الشعراء العالمين وهو الشاعر الروسي مايكوفسكي نرى أن أحد الأسباب التي دفعته إلى الانتحار هو النقد اللاذع الذي شن عليه من قبل الصحافة الأدبية وهو صاحب ديوان “غيمة في بنطلون” والذي قال عنه النّقاد فيما بعد بأن الديوان تعبيرٌ حقيقي عن تيار الحداثة. وايضاً تولستوي الذي لم يسلم من النّقاد. وحتى في عالمنا العربي نذكر قصة المبدع عميد الفن (محمد عبدالوهاب) في بداية نشأته في الغناء هُوجم من الصحافة الفنية بمصر، فذهب شاكياً إلى أحمد شوقي الذي تحمَّس له وتبنَّى موهبته، فقال لشوقي: إنَّ النقاد يهاجمونني في الصحف بقسوة ويقولون لا أصلح للغناء، فسأله شوقي إن كان يحفظ تلك الصحف التي هاجمته ويطلب أن يحضرها له، وحين احضرها قال له شوقي: ضعها على الأرض واصعد فوقها، فصعد فوقها عبدالوهاب واقفاً متعجباً من طلب أستاذه أحمد شوقي، فسأله شوقي: هل رفعتك هذه الصحف حين صعدت عليها، فأجاب: نعم، فقال (دا الكلام الي هيرفعك يا محمد).
والقارئ لهذه السطور يعلم من هو محمد الوهاب، ونغمه الحاضر إلى يومنا. وعودة إلى الإطراء الذي كوّن ظاهرة ثقافية في فضائنا الحالي، فعلى المنصة الثقافية يتمّ تقديم الأديب أو الأدبية لاسيما من له أوّل تجربة أو مازال قيد الإنجاز بكلماتٍ حرارية وتمجيد كبير، لو سمعه المتنبي أو أبو نواس أو المعرّي، لاعتزلوا الشعر. وفي المقالات النقدية والثقافية نلحظ الإطراء الإنشائي الذي خرج من الموضوعية، فأغلب المقالات عند قراءتنا لها نصاب بالدهشة لما فيها من عبارات تصف المنجز البسيط بأنه أسطوري وملحمي من دون أن يخبرنا كاتب المقال عن المعيار أو يعلل لماذا وصفه بالملحمي أو الإبداعي، وما يلفت نظرنا أيضاً مسألة الاستشهاد ببعض النماذج الأدبية (الرواية أو القصة أو النص الشعري) في سياق الحديث عن ظاهرة أدبية إبداعية تستوجب النقد، فيذكر الشواهد وهي ضعيفة جداً أو احياناً لا ترتقي بأن نطلق عليها بأنها جنس أدبي. وحتى نكون موضوعين أكثر سنقف عند بعض القضايا الغائبة عن العين النقدية، وأوّلها اللغة فهي هويّة الأديب، وثوبه الأسلوبي، فكلما كانت فنية تراعي الحديث تقدم اللفظ على قدر المعنى، واستعاراتها تتلاءم مع السياق فهي تستحق الإطراء، في حين اننا لا نجد أحدا يرصد لغة النص إن كانت جيدة أم لا، ونلحظ أن الشاعر يشغله الاسترسال بالوصف وتكثيف الصور وإظهار لغة فخمة وينسى الفكرة، لذلك صرنا نرى المعنى إلّا عناء ومحنة -تعريفه اللغوي- وهذا يجرنا أن نطرح مسألة (الأفكار) وغيابها عن النص الأدبي أو تطرح بشكل ساذج واحيانا تكون مسروقة من غيره لو ذكرنا شواهد عن هذه الظاهرة فلا تكفينا هذه السطور، فنجد ألفاظاً كثيرة بفكرة مسروقة، وأحيانا العكس.
وما نود الإشارة إليه هو أنه لا يتمّ تحديد الفرق بين شاعر وآخر بشكل التعبير، وإنما يكمن بالموقف من المعاني السائدة في سياقها، ويحتاج ايضاً إلى توليد معاني جديدة تنبجس منها صورة أخرى للإنسان تتطلب رؤية عميقة، وخروج من تاريخ المعنى الموروث المستقر، وهذا لا نجده في النصوص الحالية التي أغلبها حاز على إطراء وعبارات التبجيل التي فتكت بالأدب.
وهكذا تمّ الحفاظ على حميمة العلاقة بين الناقد والأديب.