مسرح الفضاء الإلكتروني: هل هو وليد أزمة أم ضرورة؟

شيخة الفجرية | سلطنة عمان

حين نَصَّب دنيسيوس نفسه إلها، كان الفضاء المسرحي هو الضرورة الأولى، لذلك أنشأ معابد مسرحية جماهيرية، وقَسَّم مجموعة من شعبه إلى عدة فرق، كل فريقٍ يأخذ دورًا فتتكوّن مجموعة من الأدوار، ولست أدري إن كان دينسيوس استعان بأحد آلهة المسرح المصري أم لا، أم أنه ترك المسألة عفوية عفوية ما أراد سماعه ممسرحًا أمامه، حين أخذ يمثل الجميع أمامه أدوارًا متكاملة في عرضٍ مسرحيٍّ تعبدي، ينقل من خلاله آلام وآمال الشعوب التي يحكمها. كانت الآمال والآلام حقيقية يناجى بها من نصب نفسه إلهًا ليحققها فيما بعد، وهكذا كان الحاكم يعرف هموم شعبه وأحلامهم. وكأن مسرح دينيسيوس “يعرض مأساوية العالم، ويطلب من المشاهد أن يعي هذه المأساوية، ولذلك فهو يقصد الموضوع في هذا الجانب بل يحاول أن يثقل على المتفرج بتراكم حالات الإحباط واليأس والقهر، لكي ينهض نظيفا من أدرانه من خلال وعيه المستفز بالمأساة” كما يقول ياسين النصير. ثم تراجعت الأفكار في شأن طريقة العرض وماهيتها بعد دينيسيوس كليًا، فلم يعد المسرح معبدًا، بل أصبح مسرحًا فقط، وأضيفت إليه المدرجَّات، وليصبح ما يقوله الشعب(الممثلين) على المسرح من بعده مجرد أفكار ملوية بالطموحات والأحلام، وأمَّا أن تتحقق أو لا تتحقق فذلك لم يعد شأن المسرح. 

لكل أزمة ابتكار، مدخل إلى العصر الراهن، إلى زمن فضاء الصورة التي يقول عنها صلاح القصب: بأنها ” شبكة من التكوينات والأنسجة المركبة والغامضة المصممة بقصديه أو عفوية وفق إيقاع صوري لعلاقات شكلية متغيرة لا يهدف إيصال معنى محدد كما في المسرح التقليدي وإنما يقوم بإرسال مجموعة من الإشارات والعلاقات والدلالات إلى المتلقي عبر سياق وشفرة لتولد في ذهن المتلقي مجموعة مدلولات”، ولكن الفضاء الإلكتروني لم يكن ابتكارًا لأزمة كورونا “كوفيد 19” الراهنة، فقد سبق ظهور مصطلح الفضاء الإلكتروني ظهور علم المعلومات أو علوم علم المعلومات (INFORMATION SCIENCE) في الولايات المتحدة الأمريكية، كان ذلك الظهور في خمسينيات القرن المنصرم. وهذا العلم مرتبط بمجموعة من العلوم والمجالات، مثل تكنولوجيا الحاسب الآلي، وتكنولوجيا الاتصالات، وعلم المكتبات والتوثيق والأرشيف، والعلوم الأخرى المساعدة، مثل: علم الديبلوماتيك: وهو فن دراسة الوثائق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية ونقدها، وعلم فك رموز الكتابة ومعرفة التوقيعات، والأختام والشعارات القديمة للدول والنبلاء.

وذلك يضعنا أمام حقيقة، أن الفضاء الإلكتروني كان فاعلًا جدًا وبنجاح كبير قبل هذه الجائحة، وهناك مسودة اتفاقية باسم: الاتفاقية العربية لحماية الفضاء السيبراني (الإلكتروني)، تتبع المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية لمجلس وزراء العدل العرب في جامعة الدول العربية أقرّت في بيروت 23-25 يوليو – تموز 2018، وتتكون هذه المسودة من 68 مادة تتبع الأحكام العامة للاتفاقية.

مما يعني أن الفضاء الإلكتروني قائم بذاته، وفق قوانين وقواعد واتفاقيات تحكمه ولا تستطيع أن تحكمه في أحيانٍ كثيرة. وكل ذلك في الأصل، يندرج في إطار الثورة التكنولوجية في وسائل الاتصالات، يتصدرها مفهوم “قوة الفضاء الالكتروني” Cyber Power، والذي يُعرفه جوزيف ناي بأنه: ” القدرة على تحقيق الأهداف المرجوة من خلال استخدام مصادر المعلومات المرتبطة بالفضاء الالكتروني”، كما عرَفته الوكالة الفرنسية لأمن أنظمة الإعلام (ANSSI)، وهي وكالة حكومية مُكلفة بالدفاع السيبراني الفرنسي على أنَه: “فضاء التواصل المشكَل من خلال الربط البيني العالمي لمعدات المعالجة الآلية للمعطيات الرقمية”، أي أن: “الفضاء السيبراني هو مجال مركَب مادي وغير مادي يشمل مجموعة من العناصر هي: أجهزة الكمبيوتر، أنظمة الشبكات والبرمجيات، حوسبة المعلومات، نقل وتخزين البيانات، ومستخدمو كل هذه العناصر”. وكل ذلك يشكل مفهومًا يسمى: “الفضاء السيبراني”، وهذا المفهوم يُمثل “الذارع الرابعة للجيوش الحديثة”، وبعيدًا التفاصيل في هذا الشأن، قريبًا من مسرح الفضاء الإلكتروني وتتبعًا للمس شيء من هذه القوة أقام النادي الثقافي جلسة حوارية، بمشاركة نخبة من المسرحيين العرب، بدأ الشاعر عبدالرزاق الربيعي الجلسة الحوارية؛ قائلًا:” بعد تفشي الجائحة كورونا كوفيد19_ لم يقف المسرحيون مكتوفي الأيدي، فظهر مسرح الفضاء الإلكتروني، وبظهوره ثار جدلٌ بين المسرحيون، انقسموا إلى فريقين، الأول وجد في عروضه قبولًا باعتبار أن الغرض من هذه العروض تجاوز ظروف الحجر المنزلي لما هو نافع ومفيد، أما الثاني فقد رفضها رفضًا قاطعًا، بل أنَّ الدكتور محمد حسين حبيب عدَّه تخريبًا للمسرح، وكتب تعليقًا: “هذه بدعة مؤقتة”، من حيث أن ” مسرح الفضاء الإلكتروني يفتقد لذة الحميمية واللقاء الحي بين الجمهور والعرض المسرحي الدخول والخروج ظلام القاعة، اختيار الزاوية المناسبة ما يعقب العرض من صعود على الخشبة لتهنئة فريق العمل”، ثم أضاف الربيعي: “ماذا لو استمرت الجائحة فترة طويلة؟ أليس من المنطق أن نفكر ببدائل؟ هل مسرح الفضاء الإلكتروني هو البديل المناسب؟ ما أبرز التجارب الإيجابية التي قدمها المسرح الإلكتروني؟ كيف تعاطى المسرحيون مع هذه الأزمة؟ أجاب الدكتور علاء عبد العزيز: بأنَّ ” كل أزمة تخلق ضرورة لكن ضرورات لا تكون مرتبطة بالأزمة… وتقديم العرض المسرحي خارج العرض الحي، فهناك ضرورة، بصرف النظر عن وجود أية أزمة، فأماكن دراسة المسرح في العالم ومنهم المعهد العالي للفنون المسرحية نضطر ونستفيد من مشاهدة بعض العروض التي تم تقديمها في أزمنة وأمكنة كوسيلة تعليمية… وذلك ليس قضاء على المسرح، فقد تعرض المسرح للكثير من الأزمات أبرزها ظهور السينما مع نهايات القرن 19… لأن السينما أكثر ربحية للمنتجين”.

وعلى سؤال الشاعر عبد الرزاق الربيعي: لما نعتبر مسرح الفضاء الإلكتروني شكلًا تجريبيًا؟ بدأ الدكتور سعيد السيابي بالاتفاق مع الدكتور علاء عبد العزيز ثم أجاب: “أننا نربط المسرح بما قدمه طوال عمره الكبير.. وهي تجارب مختلفة التجارب التاريخية مثلًا، معنى ذلك أن المسرح سيبقى وسيمتد، وكذلك أزمة كورونا والعزلة ليست وليدة هذا الفيروس فقط، فقد مرَّ المسرح بأمراض كثيرة وحروب وتوقف المسرح، أنا أتفق مع الدكتور علاء؛ ما قبل كورونا ليس ما بعده… والحضور في وسائل التواصل أكبر من حضور 100 شخص أو 50 شخص أو 300 شخص داخل المسرح”، أما الرد الشاعري فقد تَغلَّف به قول الفنانة أسماء مصطفى حين تم سؤالها: “لو اعتبرنا أن هذا شكل من أشكال التجريب في المسرح، لماذا هذه الحدّية بالتعاطي مع مسرح الفضاء الإلكتروني في طروحاتك وفي تعليقاتك وأنتِ امرأة مجربة ومنفتحة على مختلف التجارب؟ لماذا لا نعطي فرصة للمسرحيين أن يجربوا؟” فأجابت الفنانة أسماء ضاحكة:” أنا قلت، إذا استمرت كورونا فسوف أعلن اعتزالي”، ثم ذكرت الدقَّات الثلاث ” ثلاث دقَّات قبل وأثناء وبعد العرض، لا يمكن لها أن تعوض أو أشعر بها أو يشعر بها المتلقي في فضاء افتراضي فضاء جامد لا حياة فيه ولا أكسجين، الخشبة حية وتتنفس” وبثت مخاوفها قائلة: “ستتحكم فينا سلطة قادمة” وتقصد بذلك ما سيلحق العروض الرقمية من قص ولزق وتعديل وغيرها من التدخلات القادمة من خارج خشبة المسرح.

كان الاستثمار الرقمي حاضرًا في عالمنا، عبَّر عنه الدكتور جبار خماط وأسهب في شرح الفكرة وأبعاد تنفيذها بعد السؤال الآتي: “الأزمة دفعتك للتفكير في حياة مسرحية بديلة تكون حلًا لمواجهة العزلة، فأطلقت مشروع “مسرح ديليفري” بعد شهرين من انتشار “كورونا”، بمعنى “يأتيك المسرح إلى بيتك عبر منصة خاصة”؟

وعليه، كان واضحًا أن لكورونا بصمة عولمية عميقة، وكأن العالم كله في إطار حاكمية واحدة بسببها، ولكن هل ستنتهي هذه الحاكمية الكورونية وسيكون مسرح الفضاء الإلكتروني مجرد ” بدعة مؤقتة” كما حرص الدكتور محمد حسين حبيب على تأكيدها في الجلسة الحوارية؟! 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى