أزمة اليسار.. أزمة حركة التحرر والتقدم

سعيد مضيه | مفكر سياسي – فلسطين

اليسار العالمي يمر بأزمة طالت وأفضت تداعياتها الى شعبوية اليمين الفاشي المقترن بفاشية الليبرالية الجديدة. واليسار الفلسطييني ، شأن اليسار العربي، انحسر نفوذه وتضاءلت شعبيته . ان انحسار شعبية اليسار وضعف مواقعه لا بد وأن يفضي الى قصور في المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي الموغل في الاستيطان بدعم من الامبريالية. يجمع المحللون السياسيون على هزال دور قوى اليسار في الساحة الفلسطينية، وأن جميع التنظيمات والقوى اليسارية تعيش أزمة بنيوية تنظيمية وفكرية ، منوهين إلى ان دورها يقتصر على إبداء المواقف والآراء والمقترحات تجاه القضايا المطروحة؛ قد تبادر بمقترحات؛ لكنها تؤجل التنفيذ لإشعار في انتظار صلحة فتح وحماس. عجز وهشاشة اليسار الفلسطيني عطلت قدرة المبادرة الى الممارسة العملية ، حيث في هذا الميدان يتم اختبار البرامج السياسية، ويتم تطوير التظرية.
أزمة اليسار ثقافية من حيث الجوهر، تتجلى أولا في تعذر إقامة صلة مستدامة مع الجماهير الشعبية، ومن ثم العجز عن التاثير في المسار الوطني والاجتماعي . حين تنشأ العزلة بين الجماهير الشعبية واليسار يستولي الإرباك والحيرة حيال المشاكل الاجتماعبة والقومية المتراكمة ، الأمر الذي يستغله اليمين، سواء السلفي أو العلماني. رسالة اليسار ثقافية في المقام الأول ينقل الى الجماهير الشعبيىة من خلال الاشتباك اليومي والاتصال الدائم تربية سياسية وفكرية بتحليل واقعها وتفسير المشاكل التي تعترض مسيرتها ، باعتبارها من ضنع البشر، وليست قدرا مصلتا. الوعي العلمي الطارد للخرافات والشعوذة لا يتم بصورة تلقائية ، إنما تزود به الأحزاب الثورية؛ وهذا يتوجب على الفصائل المنتسبة لليسار التسلح بالمعرفة وتطويرها وتثقيف الكوادر باستمرار وتعويدها على المطالعة المتواصلة ومتابعة المستجدات في الساحة الثقافية، والتعود على إجراء الحوارات والنقاش العام في اللقاءات مع الجماهير ؛ وفي ذلك تمكين للجبهة الداخلية وتعزيزعزيمتها الكفاحية.

قبل الدخول في الأزمة اكتسب اليسار شعبية عارمة وقاد الجماهير الشعبية لتحقيق إنجازات هامة، مع إغفال الديمقراطية وقضية التفيير الاجتماعي. انتعش اليسار حيث تعاظم النهوض الشعبي، وأدى اليسار دورا تنويريا وجدت الجماهير الصدق السياسي في طروحاته. شارك اليسار على نطاق واسع على امتداد التاريخ الفلسطيني الحديث، وقدم إسهامات في بث الوعي ونشر الفكر التنويري، وحمل شعلة النضال والكفاح الوطني التقدمي الفلسطيني. كان من المبادرين في النضالات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، تثبيت الجماهير ثم طرح المبادرات والبرامج لبعث الحراك الشعبي وتشكيل المنظمات الجماهيرية. نزلت هزيمة حزيران ضربة أليمة على اليسار والقوى القومية العلمانية استغلته فصائل التيار الديني. انحسر نفوذ اليسار مع كسر موجة النهوض الوطني والقومي بوسائل عدة منها القمع البوليسي ومنها إلهاء الجماهير بالوعي الزائف وتوريطها في متاهات عزلتها عن اليسار وأقكاره التقدمية الخلاصية.أزمة اليسار عواملها موضوعية وذاتية.

المجتمعات العربية ملغومة بإشكالات محلية، أبرزها نظم الحكم الأبوية عمرت قرونا متتالية ركائز تخلف ووهن، دخلت في علاقة تبعية مع قوى الهيمنة ، فغدت مراتع للكولنيالية الامبريالية وشكلها الأحدث، الليبرالية الجديدة المتحالفة مع إسرائيل. النظم الأبوية تقف على راس الإشكالات المحلية؛ اجهضت النهضة التنويرية وعملت ركيزة للاستهلاكية اقتصادا وثقافة، أدت الى اختناقات في سوق العمل؛إذ نمت البطالة بصورة مضطردة، أسفرت عن هجرات جماعية للشباب .غدت النظم الأبوية طاردة للكقاءات ووكيلة لليبرالية الجديدة وحصنا للثورة المضادة؛ احتضنت العصبيات الطائفية وغذت نزوعها الماضوي. النظام الأبوي احتكر الإشراف على التربية والإعلام وسخرهما لتعزيز إشكالات التحديث في الحياة الاجتماعية: إشكالية الهدر الاجتماعي وإشكالية التدين الشعبوي المرادف للأمية الدينية، وكذلك إشكالية التعليم، وبتفاعل الاشكاليات وبتأثير التباسات السياسات الأبوية أسفرت عن جمود الثقافة وتكلسها. تداعت على الواقع الاجتماعي حالة إحباط وحيرة دعمت الركود الاجتماعي . الوعي الاجتماعي المأزوم خنع للفساد والإفساد واستعصى على الأفكار المخصبة للعقل المحفزة على التغيير.

تزامنت أزمة اليسار العالمي في عقد السبعينات مع بروز الليبرالية الجديدة لمواجهة الأزمة البنيوية للرأسمالية وإشاعة الخصخصة واقتصاد السوق إيديولوجيا جديدة ، في حين كانت دعاية البرجوازية تبشر بانتهاء الإيديولوجيات. تزامن هجوم الليبرالية الجديدة مع شروع السادات في مصر سياسة الانفتاح لتطيح بكل ما أنجزه النظام السابق من تنمية اقتصادية ونهوض بعملية التعليم وإنجاز تحولات اجتماعية لصالح الكادحين. أزمة اليسار بدأت بهجوم رجعي – امبريالي – صهيوني على حركة التحرر والتقدم في العالم خاصة بلدان القارات الثلاث – آسيا وإفريقيا واميركا اللاتينية – ومنه بالطبع الأقطار العربية.

الليبرالية الجديدة أيديولوجيا المحافظين الجدد سخروا ثورة التقاني والمعلومات لترويج ثقافة العنف والقسوة وتوجهات تدمير إنسانية البشر والتخلص من مجموعات بشرية ضخمة باعتبارها زائدة عن الحاجة ( حاجة الاستغلال الرأسمالي). صاغ الأكاديمي الأميركي،هنري غيروكس مفهوم رأسمالية الكازينو يعري تنكر الليبرالية الجديدة لمنظومة القيم الإنسانية ، وأهمها التعاطف والتضامن والتكافل. بموجب نظرية الكازينو بات العاطلون عن العمل زائدون عن الحاجة او نفايات بشرية ، وكانوا في السابق مظهر ازمة اجتماعية ملازمة للرأسمالية.

ثقافة المحافظين الجدد، حلفاء إسرائيل “ضد الشر”، تزامنت مع حرب حزيران الكارثية اخمدت جذوة الثقافة التقدمية وأنعشت سلفية جرّفت الوعي الاجتماعي وجمدت القوة الاجتماعية للتغيير؛ فأورثت الثقافة العربية انيميا حادة، سهلت تمرير مؤامرة الصمت بصد فضيحة تهافت الفكر الصهيوني.
في بياتها الشتوي لم تستوعب الثقافة العربية معطيات الاكتشافات الجديدة ولا استرشد بها السياسيون العرب. بل إن مثقفين عرب موصوفين بسعة الاطلاع ومتابعة المستجدات الفكرية واصلوا اعتماد خرافات التوراة حقائق، واستمر إدراجها في مناهج التدريس العربية.

أسفرت أنيميا الثقافة في العالم العربي عن عزلة المقاومة الفلسطينية عن بعدها الاستراتيجي. صمتت الأنظمة عن هجوم إسرائيل الاستيطاني بفلسطين وتجاهلت دعوات التهجير والتطهير العرقي.

عادت السلفية تتحدي اليسار والقومية العلمانية حين خلدت للراحة. باتت تشكل الخطر الداهم على الأنظمة الأبوية فتراخت المطاردات البوليسسية ضد اليسار اغتنم اليساريون فرصة ارتخاء قبضة السلطوية وتوقف الملاحقات البوليسية ليغطوا في سبات عزلهم عن تطورات عديدة أبرزها طفرة الليبرالية الجديدة اقتصاديا وثقافيا.
تعمقت الأزمة الوطنبة وأزمة اليسار في الأراضي المحتلة، تظرا لإغفال فصائل اليسار مهمة التثقيف السياسي والفكري. درجت على تقليد تضمين التقارير الدورية تحليلات سياسية واقتصادية بدون التطرق الى واقع أن الهيمنة الثقافية باتت في الزمن الراهن أشد خطورة من الهيمنة الاقتصادية للامبريالية.
إن مفهوم ” الإسلام السياسي” مغالطة فكرية ؛ فالإسلام حين يسخر لأغراض السياسة يغير طبيعته ، إذ يفقد جوهره الإنساني وتسلب منه طاقته الروحية ولا يعود رسالة شاملة للناس كافة. السياسة بطبيعتها طبقية والرجعية هي التي تلوذ بالدين تقنّع به سياساتها المعادية للجماهير . وفي الآونة الأخيرة سخرت الاحتكارات الامبريالية المحافظين الجدد بمرجعيتهم الدينية للخروج على القانون الدولي وتقليص الديمقراطية وتشديد مراقبة الجمهور بدل مراقبة الجمهور لسياسات الحكومة. بجهود المحافظين الجدد وإيديولوجيتهم الدينية صعدت الفاشية سدة الحكم في الولايات المتحدة واشتطت الامبريالية في العدوان والتسلح.
بعض قوى اليسار بدأ نشاطه يلبكفاح المسلح باعتباره أرقى أشكال النضال. فاته الإدراك أن توعية الجماهير واجب وطني تؤدية أحزاب التغيير الاجتماعي، حتى لو كان الكفاح المسلح أسلوب تغيير. الكفاح المسلح يغذي الحرك الشعبي المندفع بالوعي ويتغذى من الحراك الشعبي الواعي؛ والكثير من الانتفاضات المسلحة لم تسفر غن تغيير اجتماعي لأنها قامت وتواصلت معزولة عن الحراك الشعبي الواعي. تضطلع الثقافة الوطنية بشرف تحويل الناس إلى فاعلين إيجابيين في مجتمعهم وصناع التحرر والديمقراطية والتغيير الاجتماعي ضمن اطر ديمقراطية التنظيم الجماهيري. إن بناء البشر وإنضاج قدراتهم المتنوعة هما معياران أساسيان لثورية التنظيم السياسي؛ تنمية قدرات البشر وتحريك الجماهير يفوقان من حيث الأهمية الثروات المطمورة وقوة السلاح. واليسار، مع المثقفين التقدميين،هم من ينجزون المهمة، باعتبارهم قوة التغيير الاجتماعي. وهم يعون رسالتهم متحدّين عراقيل ومصدات محلية وخارجية. الأبوية نظام سياسي معاد للديمقراطية وللعلم وللوحدة الٌقومية.

يعزو البعض تراجع اليسار الى انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. والحقيقة ان ازمة اليسار العالمي بدات معالمها قبل الانهيار، الذي جاء بعض مظاهر الأزمة. كان الاتحاد السوفييتي قائما وفشل في تشكيل سوق منافسة للسوق الرأسمالية التي أفقرت البلدان النامية وورطتها في مديونية عرضتها لوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وكانت كارثية في مآلاتها .

وأثناء وجود الاتحاد السوفييتي هيمن الاقتصاد الاستهلاكي للراسمالية وثقافته التي كانت شركا ورط في أحابيله البلدان النامية واستهوى حتى الشبيبة السوفييتية . أفضت الاستهلاكية الى تداعيات دمرت مشاريع التنمية في البلدان حديثة الاستقلال ونشر الفساد الإداري. بالرشوات التي اتخذت طابع عمولات بادرت الاحتكالاات الرأسمالية بنشر الفساد الإداري. وفضيحة شركة لوكهيد مشهورة في هذا الصدد ، إذ تكشفت ممارساتها عن تقديم الرشوات للمتنفذين في بلدان عدة أبرزها اليابان وإيطاليا. في ظل الاستهلاكية تشكلت في البلدان العربية برجوازية بيروقراطية أثيتت انها الأشد تفريطا بالاستقلال الوطني وبالتنمية والأشرس في ممارسة القمع واضطهاد المعارضة. مهدت الاستهلاكية لنمط الليبرالية الجديدة، التي نشطت طوال عقدين من الزمن قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.

غير أن غياب الاتحاد السوفييتي عن الساحة أضرم سعار العدوانية الامبريالية ، خاصة نزعة الهيمنة الكونية لدى الامبريالية الأميركية، القطب الأوحد، وأفقد اليسار ورقة رابحة لوح بها انه يناضل من أجل مجتمع العدالة والتطور البديل للراسمالية الماثل أمام الأنظار. إزدادت بالتنيجة جاذبية الاشتراكية واليسار ضعفا على ضعف.

بانهيار التجربة الاشتراكية لم يعد اليسار يشكل خطراً على الأنظمة ، وانتهت مؤقتا ضرورة مكافحة الشيوعيىة ؛ باتت الحركات السلفية تجتذب الجمهوروتشكل الخطر الداهم على الأنظمة الأبوية؛ ورفعت الامبريالية يافطة الصراع الحضاري ضد الحركات الإسلامية ؛ في نفس الوقت دعمت حركات السلفية الجهادية .

وحين اندلعت الانتفاضات المناهضة لليبرالية الجديدة اوائل العقد الثاني من القرن كان التيار الديني موضع اضطهاد الأنظمة،وهو التيار المنظم والمهيأ الماثل بالساحة ، فالتفت الجماهير حوله.

أثناء بيات اليسار صدرت أبحا ث علمية حول التخلف الاجتماعي بقيت مجهولة من قبل اليسار، أبحاث في التربية وعلم اجنماع التخلف وسيكولوجيا التخلف والهدر الاجتماعي الناجم عن السلطوية الأبوية؛ والماركسية لم تبحث في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، الأمرالذي أوجب على الماركسيين ـ حسب نصيحة لينين- البحث والتجريب والتفكير في سبل انتشال شعوبهم من التخلف. والنصيحة اللينينية غطت عليها مبادئ الأممية كشرط للانتساب. الماركسية تغتني وتتطور من الاكتشافات العلمية في ميادين الطبيعة والمجتمع. ظهرت يضا نتائج التنقيب الأثري بفلسطين أكدت بصورة علمية لا تُدحض أكاذيب الرواية الصهيونية – الاستشراقية بصدد دولة يهودية في فلسطين القديمة. بين العلم زيف مقولات وطن الآباء وأرض الميعاد وأرض إسرائيل. لم تسترشد المقاومة الفلسطينية بنتائج التنقيبات العلمية، ولم تدخلها عنصرا في الثقافة الوطنية.

عفوية النشاط السياسي الفلسطيني خلال حقبة البيات غفلت عن مفاهيم وأفكار متخلفة ترعاها أيديولوجيا الامبريالية وخلقت مناعة ضد أفكار التقدم، نظرا لقدمها في الوعي الاجتماعي وتملك وتتحكم في وسائل أكبر وأقوى بكثير للهيمنة والسيطرة على أفكار الجماهير، وتعزيز نفوذ المحافظة في الوعي الاجتماعي وحالت دون تجذر الفكر اليساري في المجتمع. تملي الضرورة إبراز تلك المفاهيم والظاهرات: اختلاط الدين الإسلامي بالتدين السلفي ومكافحة الأخير باعتباره تشويها لحقيقة الدين وطمسا لجوهره الإنساني ينبغي الثورة عليها كما يتردد الآن كثيرا في الكتابات النقدية.ا لتدين الذي غرس جذوره في المجتمعات في ظل الخلافة الأموية وتواصل عبر العصر الوسيط تميز بنظرة رضوخية لمن يملك السلطة السياسية، وتؤمن بالقدرية تشل المبادرة الشعبية وتختصر التدين بالعبادات دون المعاملات .

وظاهرة أخرى تتمثل في نظم التربية القائمة على التلقين وواد التفكير النقدي في سن مبكرة وتغييب منهج البحث في الواقع الملموس. المدرسة والجامعة تخرجان أجيالا توكلية تعوزها المبادرة والاعتماد على الذات والتفكير النقدي. وحسب الدكتور هشام شرابي فإن ” النظام التربوي والاجتماعي يثني الطفل عن الثقة في آرائه الخاصة ويشجعه على قبول آراء الآخرين دون تردد او تساؤل، وهذا ما ينمي في نفسه الإذعان للسلطة”. التعليم السلطوي يؤهل الأجيال للولاء للسلطة. وهذا ما تؤكده الأبحاث الحديثة في العلوم الإنسانية.

نظرا لكون اليسار تيارا حداثيا هدفه في هذه المرحلة إنصاف المحرومين وإنجاز تحول وطني ديمقراطي وتقدمي كان من الأنسب منذ البداية ان تنحت له تسمية تحظى بالموافقة الإجماعية من قبل قوى التغيير التقدمي العرب. ونظرا لطبيعته الحداثية فإن اليسار لا يتعايش مع النماذج الاجتماعية والفكرية المرتبطة بالعصر الوسيط. وانتعاش اليسار مقرون بتصفية مخلفات العصر الوسيط في الحياة الاجتماعية، واجتثاث علاقاتها الاجتماعية القائمة على القهر، ومن ثم إدخال إصلاحات حداثية على الاقتصاد والسياسة والثقافة والتراكيب الاجتماعية.

كيف تراخت قبضة اليسار عن التطورات المحلية؟

ورثت المجتمعات العربية من العصر الوسيط تاريخ العنف والدم وقطع رؤوس الخصوم منذ أن تحولت الى وراثية عام 61 هجرية، واعتمدت السيف والنطع لإسكات المعارضة واجبار من يخالفها على الطاعة والخضوع. وعلى مدى أكثر من ألف وثلاثمائة عام، باستثناء فترة قصيرة نشطت المناظرات وساد التساامح مع آراء الأخرين ، خاصة بين الأئمة الأربع ولدى فقه الكلام والمعتزلة في القرن الثالث الهجري، لم تعرف الثقافة العربية التسامح وحوار الاراء والتنازلات المتبادلة للتصور الى تفاهم مشترك. لم تتطور في مناطق العرب في العصر الوسيط مدن حواضر للبيئة المحيطة وابقى الإقطاع العربي على رابطة قرابة الدم بخلاف الإقطاع الأوروبي الذي أوجد رابطة اقتصادية.

أسفر الاصطدام مع الغرب عن تحول النظام إلى أبوي محدّث او مستحدث ، نظام فقد كل ما احتفظ به من عوامل ترابط واستقرار وتكاقل اجتماعي دون أن يستوعب الحداثة وعلاقاتها، فغدا مجتمعا هجينا ، عاجزا وقاصرا محكوما باللاعقلانية والعجز تتصارع في المجتمعات العربية هويات متناحرة : سلفية تحنّ الى العصر الوسيط، ووطنية ترتبط بعلاقات ضمن أطر سايكس بيكو وقومية تتطلع الى وحدة قومية تمليها وحدة المصير لشعوب المنطقة. لم تستحدث آلية لتطوير الإنتاج وفق أحدث منجزات التقاني والدفاع عن المصير العربي المستقل والمتحرر. فقد انكشف عجز النظم القطرية لسايكس بيكو حيال التطاولات الصهيونية والسيطرة الامبريالية ،وغلب عليها اتجاه التفتت، واغرت قوى والهيمنة الأجنبية بتصدير الفتن وعوامل التشرذم داخل كل مجتمع قطري.

تناول الباحث والأكاديمي هشام شرابي النظام السيااسي العربي انطلاقاً من تصور محدد لبنية سيكولوجية —اجتماعية من الوعي المنطوي على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي إلى اقتصاد وثقافة واضحة المعالم، شكلت القاسم المشترك لجميع المجتمعات العربية رغم اختلافها من حيث المظهر. هدف شرابي من دراساته هذه إلى الكشف عن أسباب التخلف العربي وكيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه. التخلف هنا ليس تخلفاً اقتصادياً أو إدارياً أو إنمائياً فحسب، بل إنه كامن في أعماق المجتمع العربي لا يغيب لحظة واحدة ، بل إنه يقبله ويتعايش معه ، ويتخذ هذا التخلف صفتين متلازمتين هما : اللاعقلانية والعجز ، الأولى تتجلى في عدم القدرة على التدبير أو الممارسة ، والثانية في عجزه عن التوصل إلى الأهداف التي يرنو إليها. وإلى ذلك يعزو الانكسارات والهزائم وفشل مشاريع التنمية. ومن ثم فمصير المجتمع العربي متوقف على مقدرته في التغلب على نظامه الأبوي واستبداله بمجتمع حديث.

سجل الباحث في مقدمة الطبعة الرابعة 1990 من كتابه “مقدمات لدراسة المجتمع العربي” انه انتقل بعد أيام حزيران الحزينة، من رؤية ليبرالية للماركسية، فكرا أوروبيا “آخر”، و”في صيف 1967، شعرت كانني اقرأه(ماركس) للمرة الأولى . أعرف تجربة هزتني بهذا الشكل منذ القراءة الأولى- وانا في السابعة عشرة-لنيتشه. لكن وقْع نيتشه في تلك السن كان عاطفيا أكثر منه فكريا؛ بينما نفذ ماركس إلى أسس تفكيري”. هكذا يمكن اعتبار مؤلف شرابي “البنية الأبوية إشكالية التخلف فيالمجتمع العربي” تطويرا للماركسية في موضوع لم تطرقه من قبل ،البحث في مجتمع ما قبل الرأسمالية.

اخذت ابحاث شرابي تلتزم بمنهجية المادية الديالكتيكية. من منظور معاصر. تعتبر هذه التشكيلة الاجتماعية لأبوية المستحدثة تابعة قبل رأسمالية ، لا تكنمل قيها نمو وتطورالرأسمالية والطبثقة العاملة ، فتتكاثر فيها البرجوازية الصغيرة ، وهي الشكل الوحيد للرأسمالية الممكن نشوؤها تاريخيا إثر تنامي رأسمالية أوروبية وفي سوق عالمية يهيمن عليها الغرب. التبعية لم تبُقِ على الأصالة بتماسك روابطها ومتانتها، “الحداثة البطريركية وعي منمط، يعتمد على مثقفين يحافظون على قيم النظام منعكس عن الخارج، تعوزه الاستقلالية والإبداع والنقد. والذي جعل من قيام الدولة امرا طبيعيا بالنسبة الى المجتمع الأبوي المستحدث هو أن تلك الدولة لم تكن غير السلطنة القديمة في ثوب حديث. فالخاصية المميزة للدولة ، مثل الاستثمار الشخصي (شرعا وجورا)بالسلطة الذي يتمثل في أداة الدولة القمعية القسرية، والذي يستمد شرعيته ليس من مصدر قانوني (دستوري أو حتى تقليدي) ولكن من موقع القوة والتفرد بها. في هذا الواقع يصبح الفرد العادي فاقدا لفعاليته ـ يتحول الى ذات بلا مواطنة، ويتجرد حتى من حقوقه الإنسانية والمدنية. ويفقد القدرة على التأثير في القرارات ذات العلاقة بمجتمعه الأوسع(37).المجتمع الأبوي المحدث يشيع علاقات القهر والهدر في الحية الاجتماعية.

في الفصل الأول من الكتاب بشرح مفهوم “النظام الأبوي المستحدث(او المحدّث)” ويشير في هذا السياق الى بنى كبرى(الدولة المجتمع الاقتصاد) وبنى صغرى (العائلة او الشخصية الفردية).

“وتاريخيا تستمد ظاهرة المجتمع الأبوي المستحدث معناها من تعبيرين او واقعين يؤلفان بنيتها المادية:الحداثة والنظام الأبوي. الثاني يدل على شكل عام للمجتمع التقليدي؛ بينما الأول يشير الى تطور تاريخي مميز اتخذ شكله الأصلي في أوروبا الغربية- فكان بذلك اول انفصال عن المجتمع التقليدي. وهذا التحول الفريد في تخطيه النظام الأبوي قد عمل على صياغته؛ فأدى التحول نفسه الى إرساء التمايز بين النظام التقليدي والنظام الأبوي الحديث. وهذا التمايز في صلب نقاشنا ويتوجب الأخذ بالنظام الأبوي المحدّث باعتباره نتيجة سيطرة أوروبا الحديثة”.(20-21).

يتكئ الباحث كثيرا على منجزات علم النفس وعلم النفس الاجتماعي لرصد تلك الظواهر اللا شعورية التي تحكم تصرفات الأفراد والجماعات. وكما سبقت الإشارة اعتمد على كتابات مفكرين آخرين ألقت أبحاثهم الضوء على دخائل وخفايا المجتمعات في العصر الحديث. دارت ابحاثهم حول محور الرأسمالية التابعة التي انطلق منها ، والتي لم يتنبأ ماركس بتشكلها، مع أنه قيّم ثورية التحول الرأسمالي، اجتماعيا وثقافيا، للمجتمع التقليدي.

الأبوية حسب توصيف شرابي،” قوة محافظة تهادن التخلف وتتعايش معه وتبقيه كامنا في أعماق المجتمع، متخذا صفتين متلازمتين، هما اللاعقلانية والعجز”. مُلِئ فراغ العقلانية المخذولة على تعاقب العصور بالخرافة والشعوذة والحلول الارتجالية والانفعالية النزقة، وكل ما يفضي الى فشل التدبير؛ والعجز هو النتيجة الطبيعية للاعقلانية تعطل الإنجاز. هكذا كان مآل التضحيات الجمة للمقاومة الفلسطينية!

اللاعقلانيةمتمثلة بالخرافة والشعوذة والجبرية الخ المتجذرة كالأشواك في الحقل تنازع المنهجية العلمية والتفكير النقدي وحتى الإعلام والثقافة النقديين.عناية الخطاب الأبوي فرض الهيمنة وليس التنوير. ومن أحادية الخطاب الأبوي تناسلت السلفية.

طرأت على الأقطار العربية كافة، خاصة مصر، تداعيات بتأثير نهج الليبرالية الجديدة وثقت تبعيتها للامبريالية وعطلت مشاريع التنمية وأحدثت تدهورا في العملية التعليمية انعكس تأثيرها السلبي على الثقافة والأخلاق العامة . انجزت الليبرالية الجديدة جميع أهداف عدوان حزيران الرامية الى إخضاع المنطقة للهيمنة الأميركية وتحويل إسرائيل الكبرى الى دولة إقليمية وكيلة للهيمنة الأميركية . كما اطلقت العنان لتداعيات سلبية في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية . تعاظم التعصب الطائفي والعرقي وبرزت منظمات وتشكيلات عصبوية في كنف الأنظمة السياسية المستبدة، التي قدمت الولاء على خبرة الأداء، استثمرتها إسرائيل والامبريالية لتسريب عملائها داخل مختلف اجهزة الحكم ووجّهتها لتفجير الفتن وتعميق مشاعر الكراهية المتبادلة بين فئات الوطن الواحد، وأغلقت طريق التطور الديموقراطي.

تداعت هذه التوجهات السلبية لتوهن نسيج الترابط القومي والاجتماعي داخل كل بلد ، وتعززت القطريات العربية ، ما ضاعف المخاطر على القضية الوطنية الفلسطينية. في ظل الليبرالية الجديدة تعرض لبنان لغزو عسكري مارس حرب الأرض المحروقة ودمر لبنان وضرب عاصمته بالصواريخ مدة 88 يوما متتالية وسط صمت الرضى من جانب الأنظمة العربية. ومنذ ذلك التاريخ عزلت القضية الفلسطينية عن بعدها الاستراتيجي، وأحيط الشعب الفلسطيني بعزلة قاسية جراء ضعف الحركات الوطنية وعزلتها عن الجماهير الشعبية الملتفة حول السلفية؛ بينما تسارعت عمليات الاستيطان الإسرائيلي بالضفة. تمادى الاحتلال في سياساته وممارساته الاستعمارية الاستيطانية. تشكلت مهن فوق الأراضي المحتلة ومن خبرات الحرب الوقائية ضد المقاومة الفلسطينية ، وذلك تحت مسمى الصناعات والخبرات الأمنية. تعقد في إسرائيل سنويا مؤتمرات أمنية تناقش فيها خبرات مكافحة الحركات الشعبية تحرص هيئات الأمن في انظمة الحكم اليمينية، وعلى رأسها مكتب التحقيقات الفيدرالي على حضورها. من خلال الخبرات والصناعات الإليكترونية الخاصة بالتجسس تعززت علاقات إسرائيل الكونية.

أنعش انتصار إسرائيل في حزيران تيار المسيحية الصهيونية الذي شكل نواة المحافظين الجدد؛ اتخذته علامة على صدق لاهوت ما قبل الألفية الذي تتبناه، وخلاصته ان مسار التاريخ البشري يمضي من اجل إسرائيل كي تكتمل شروط عودة المسيح لحكم العالم ألف عام قبل انتهاء الحياة على الأرض. والشروط هي عودة اليهود الى فلسطين وإقامة الدولة وبناء الهيكل ؛ وكل من يعيق هذه العملية المتكاملة تنزل عليه لعنة الرب. دمج المشروع الاستيطاني للصهيونية ومشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم كله، ضمن مشروع وضعه المحافظون الجدد يدعو لقرن أميركي من الهيمنة الكونية.

أبرزت الليبرالية الجديدة في المجتمعات العربية، شريحة اجتماعية أثرت من فتات النهب الامبريالي للاقتصاد الوطني، خاصة تأميم القطاع العام ؛ اعتبرت هذه الشريحة ارتباطها القومي مجرد صدفة ، وتماهت مع النموذج الثقافي الأميركي تحت يافطة النموذج الثقافي العولمي ، لدرجة شاركت في تقويض الكيان القومي وتماهت سياسيا وثقافيا مع الامبريالية ، وشرعت تطبع مع إسرائيل، علامة ارتقاء لمستوى النموذج الثقافي المعولم. نجد هذه الظاهرة في دول الخليج التي تتنكر للقومية العربية والتزاماتها، مفضلة الارتباط بإسرائيل ودول الامبريالية.

من ناحية ثانية انتعش التيار السلفي الإسلامي، وهيمن على العملية التعليمية فتدهورت وضعف الجانب المعرفي والإبداعي في مخرجاتها وتدنى المستوى العلمي للشهادات الجامعية. لم تدرج جامعة عربية ضمن الخمسمائة الأولى من حيث التحصيل العلمي، علما أن إسرائيل تدرج اكثر من جامعة ضمن أفضل الجامعات. في ظل نهج الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق ، ونتيجة لعقم المشروعات البديلة التي طبقتها تيارات الاسلام السياسي وما احدثته من ارتباك وتفتيت للمجتمعات والدول تعمقت مظاهر التخلف الفكري والمجتمعي، وضعفت لحد مريع طاقة المقاومة الشعبية للطوارئ الجديدة وتراخت قبضتها عن توجيه مسار الأحداث. ومن يفقد السيطرة على حاضره يضيع مستقبله. عزز التيار السلفي نزعة الحكم المطلق والبيئة الاجتماعية للنظم الاستبدادية ،

كما ان النهج الاقتصادي للتيار السلفي تساوق مع الليبرالية الجديدة- تعطيل مشاريع التنمية الإنتاجية وفتح المؤسسات الاستهلاكية الكبرى. وفي المجال الاجتماعي عوضت قصور الحكومات اللليبرالية الجديدة في مجال الخدمات الاجتماعية، تكاثر المؤسسات الخيرية والمؤسسات التعليمية والطبية التي أقيمت بالأموال النفطية تحت إشراف التيار السلفي، تجاوبا مع تعليمات مؤسسات الليبرالية الجديدة –البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية. اكتسب التيار السلفي شعبية كاسحة بفضل مشاريعه في قطاعي التعليم والطبابة. ويعني هذا من الناحية العملية حجز نسبة عالية من المجتمع داخل محاجر التخلف الفكري والاجتماعي، وحرمان قوى التغيير الاجتماعي من أداتها الاجتماعية.

هكذا تولد الإصرار على تكريس الاحتلال ورفض اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ، وتكريس الفصل بين الضفة والقطاع. تواصلت عمليات اغتصاب الأرض وتوسيع الاستيطان ومصادرة الحقوق الوطنية الفلسطينية وتفتيت وحدة الشعب الفلسطيني وانكار حقوقه المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير. ضمّن نتنياهو مشروعه الانتخابي عام 1996 بندا ينص على عدم الانسحاب من الضفة الغربية. كان هذا بناء على دراسة أجرتها مجموعة من المحافظين الجدد ترأّسها ريتشارد بيرل ، احد كواسر المحافظين الجدد. ومنذ ذلك الحين أخد ينحرف المجتمع اليهودي في إسرائيل باتجاه التطرف العنصري والفاشية الدينية، وراجت ثقافة الكراهية العنصرية ونشطت الأعمال التخريبية للمستوطنين الجدد، وجرى إشهار تهديدات التطهير العرقي لسكان فلسطين الأصليين.

اغتصاب الأرض الفلسطينية هو المعادل الموضوعي لعمليات اللهف والهبش من جانب الاحتكارات لاقتصادات البلدان ضحايا الليبرالية الجديدة. الليبرالية الجديدة الاقتصادية والثقافية والسياسية في فلسطين أضعفت مؤشرات التنمية الاقتصادية. تدخلت ملابسات الاحتلال والنهج التقليدي في التعليم فعطلت قيام المدرسة والجامعة بتقديم التعليم المقاوم والثقافة المقاومة، وتعذر ربط التعليم بالاقتصاد فخرّجت الجامعات والمعاهد العليا حملة شهادات جامعية لا يجدون عملا. لم يزودهم التعليم بروح المبادرة والاعتماد على الذات، والخريج قد ينحرف ويحترف الإجرام إن تعطل عن العمل، وقدرته على مداراة الجريمة أكثر من المنحرف العادي. التباسات عديدة أقعدت السلطة عن التخطيط لاقتصاد الصمود وثقافة الصمود وسياسات الصمود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى