ارتداد سردي لتأهيل ” الميتا نص ” في رواية امرأة قيد السراب للكاتب الجزائري مصطفى بوغازي
محمد يونس | ناقد
الميتا نص والإحاطة
دارت مؤشرات الواقعية في أزمنة كثيرة، وتعاقبت مفاهيم الواقعية حتى بلغت في آخر أبعاد الحداثة, وهو آخر مراحلها، والذي أصبحت الواقعية فيه ليس شكلا بل مضمونا، وذلك التحول الحساس أثر على بنية الشكل الروائي، والذي مر بتغيرات كبرى خصوصا بعدما صارت الرواية مركبة من نص معاش ونص آخر يحيط به كميتا نص, والنص المحيط أو ما وراء النص, ليس إجراء إلا فنيا لاستثمار والاختلاف في الكتابة وتجديد الشكل الروائي, بحسب ما تتيحه ظروف ما بعد الحداثة فنيا، والرواية في ظروف مابعد الحداثة مسارها قد اختلف كثيرا، فهي لم تعد تتبع الحكاية بوحدات السرد في السرد التتابعي, ولا تهتم بالمعنى الواقعي المحض, وصراحة الدور الذي لعبته ما بعد الحداثة في تغيير شكل الكتابة ونسقها, قد اثمر عن فكرة مهمة اشرنا اليها كثيرا, فالواقع هو نفس الواقع وان تغير مظهره من حال الى حال, واللغة ذات اللغة وتعبيرات تتداول كل يوم, فما الذي فعل الروائي اذا لم يجد صياغة مناسبة وجديرة برفع مستوى المتعة, وتصعيد الفن الادبي اجدى واهم من تعبيرات منمقة بلا نشاط جمالي يواكبها فنيا، وقد واجهنا رواية فاعلة في بعد الميتا نص, حيث قدم لنا مصطفى بوغازي في روايته – امرأة قيد السراب – حيث استدرجنا بالتدريج الى ميتا نص بدى كما لو أنه فخ جدير، حيث تبدأ براوي عليم يروي تاريخ اسرته، وكانت تلك الامرأة بدأت تروي حياة امها، واحيانا تتيح لها بسرد افعالها، وتدرجت في الروي تلك الشخصية الانثوية في روي التفاصيل تنازليا, وبدأت من وضع الأم ومسار حياتها والظروف القروية واطباع الجد القاسي، ولامست ايضا بالروي مواضع ايروسية، وبعد أن اتمت مفصل الأم من جميع الوجوه، قد ابتدأت بصياغة حياتها وتدرجها حتى اتمت الدراسة، وبعد ذلك قادنا الى حادث عرضي يفسر كموقف لها شخصيا وللروائي ايضا ، وذلك الموقف يمثل احد اهم قضايا اللحظة المعاصرة, وقد فسر مقلوبا ومن عادت لتفسيره بصورة امثل وتأسفت لعدم رفضها ذلك الموقف الذي شاركته مع زملاء لها، وقد شكل الموقف ليس الا مناورة بينية فيها قصد خارجي من التبئير .
شكل المحور الاول للرواية ثلاث مستويات تنازلية من الأم الى البنت الى الحفيدة، وهذا المحور الثلاثي النسوي قد تشكل رويا اكثر مما هو سردا، وكان الروي على التوالي بدأت به الابنة تروي لنا حياة امها من جميع المستويات المعلنة وغير المعلنة، ومن ثم جاء دور الحفيدة لتروي بشكل مشترك تفاصيل حياة امها، ومن ثم تفاصيل حياتها ودون رتوش او تزويق لفظي، لكن لسانيات اللغة ابدت طاقة الخاطب الروائي بتمييز له لغويا، ومن ثم حدث انفراج ميتا نصين حيث ما ان انتهى سرد المحور حتى بدأ حوار جديد لم نلمس له دلالة في المحور الذي سبقه، حيث ادركنا ما كان من تفاصيل لثلاث نسوة ام وبنت وحفيدة كان ورقيا اي كان مادة مكتوبة، وبعد ذلك لمسنا انه ميتا نص يحيط بالنص الروائي، وإن قدم بصيغة واقعية صرفة، واما الاخر فهو كان عبارة عن واقع حي وله فضاء ملموس وطبيعته الواقعية ابدته مسرودا لنان وقد تشابك المكتوب والمعاش وتبادلا موقعهما في بنية الرواية، والتي قد بدأت بالمكتوب بطريقة مغايرة، فكان واقع سردي متعدد وحياة شخوص تتنفس بوضوح، وبعد هذا المحور كان هناك محور اخر قد تلاه، وقد فصل ما تلاه ان ما كان قد سرد هو ورقي وليس حقيقة ملموسة، وقد لمسنا ذلك في القسم الاول من الرواية، لكن في اخر فصول الروايةبقدوم دعاء الى دار النشر بدلا من امها المتوفاة قد لمسنا أن الحياة الورقية انطوت وقد تبعتها الحياة المشهودة .
تشابك ارتدادات السرد
قدمت لنا الرواية بطبيعتها المتعددة الوحدات السردية ثيمات مركبة بين ما هو مكتوب وما هو معاش، وكل من اورقي والحقيقي كانا بوحدات سرد لا تنتهي كليا جميعاها، بل هناك منها من استوجب ارتداد السرد ليضمن للثيمات ثيمات مضافة اخرى بما يستجد من فعل سردي حقق له ذلك رد الفعل السردي، والذي جعله ممكنا الارتداد السردي، حيث كان لوحدات السرد المرتدة ليست ببعد الي، بل هناك توظيف لها عبر ما يطرأ من تغيرات في الحياة الورقية والحياة الحقيقية، التي تؤلف شخصية المؤلفة وابنتها من جهة وجهة شخوص دار النشر من جهة اخرى، وقد تشابكت وحدات السرد في كل جهة، فالجهة الورقية من الطبيعي ان وحدات السرد تتشابك، حيث يوجد محيط عائلة تنازلي فيه السرد، ينزل من الفعل السردي الذي يمثله الجد، ومن ثم ينحدر الى محيط الأم وما ارتبط به من افعال سردية تنتهي الى نتيجة او تكون تحقق رد فعل قد رفع من مستوى السرد بطاقة مضافة له، ومساحة الم السردية واسعة كانت في محور المادة المكتوبة، حيث تناغمت مع وحدا بشرية اخرى بين سرد مضاد واخر ارتدادي، فكان واقع الأم هو الاوسع سردا ورويا، فهو قد شهد تنوعا من المواقف بين مسرود واخر مثل صفة الروي, وكانت التطورات التي شهدتها الرواية في صفتها الميتا نصية، ليست جميعها وحدات افقية بمنطق ارسطي، فمنها ما كان مختلفا يستوجب طرحه بصيغة مناسبة، وقد اشتملت تلك الوحدات المختلفة على ضمانات من السرد ان يقوم بارتدادها، كي تتوسع مضامينها وحبكتها تتسع اكثر لاستيعاب ما هو مختلف وليس سائدا.
قدمت الرواية في اكثر من موضع سردي ووصفي ايضا منها مما اشتمل عليها المحور الورقي المكتوب والمحور المعاش ايضا، وكانت تلكالمواضع قد صيغت بتفوق رسم فني ولغوي لإبعادها الايروسية، ومر مثلث النساء في القسم المكتوب بتصعيد النفس الايروسي الى حدود رفع مستوى المتعة لدى التلقي، حيث اكدت لنا فلسفة المؤلف بأن الحياة لا تخلو من البعد الايروسي، بل هو احد المواضع الحساسة والمثيرة والتي ترفع من مستوى التلقي لها، وقد لمسنا هناك مشاعر واحاسيس ايضا تختلف من موقف الى اخر، فوصف جسد الأم من جهة ابنتها هو مركبا بين شعورها هي المتعة وبين احاطة الراوية بأحد أبعاد الميتا، حيث لسانيا تشكل لغة سرد الايروسيا نسقا من السرد اسميناه بالسرد الهجين، فهو يشتمل على لغة مشتركة بيننا، ولغة اخرى لا نفصح بها، وهذا التراكب بين لغة عامة ولغة خاصة يجعله هجينا وليس بسرد عام، وقد قدم المؤلف مصطفى بوضياف بالشكل الذي مثل علو مؤشر الذائقة الواعية لديه، حيث تغيرت ايقاعات الفعل الايروسي بسرده الهجين من مستوى حسي ونفسي الى اخرن فمرة يكون هناك توازي مشاعر واخرى يكون فيها نوع من الاستغلال البشع للجسد، وصراحة هذا الموضع في المحور المكتوب كان بمساحة واسعة اكثر بكثير من الموضع المعاش، وكان بتوقيتات مختلفة الإيقاعات والابعاد النفسية والشعورية من حالة الى اخرى.
ضمن المؤلف مصطفى بوغازي في رواية – امرأة قيد السراب – على مستويات صوتية متقابلة بين ما هو مكتوب وبين ما مثل نسق الحقيقة الاساس في بنية الرواية ، ونشير الى الجهد النوعي المضاف في رسم تلك الاصوات المتقابلة بمقدرة فنان جدير، حيث إن المؤلف ينتمي للنوع الذكري لكن شخوص روايته الأساس الذي مثلوا المحور المكتوب والمحور الملموس الذي يقابله من نوع بشري معاكس، حيث جميع الشخوص الأساس كن من النسوة، ومن الإنصاف أن نقر بأن الرواية لم تخذل اي صوتن بل أعطته الحرية التامة.