فكر

مَاهِيَّةُ الإِنْبَاءِ الكَوْنِيِّ: وذَاكَ إِحْرَاقُ المُقَدَّسِ وذَاكَ إِهْرَاقُ المُدَنَّسِ؟ (2)

د. آصال أبسال|كوبنهاغن (الدنمارك)

لقد أشرتُ في القسم الأول من هذا المقال إلى ما تتشدَّق بهِ عادةً ألسنةُ الدول الغربية المعنية من حَشْوٍ إفكيٍّ ونفاقيٍّ عن الحريات المتاحة كُلًّا لمواطناتها ومواطنيها فيما تُطلق عليها حَمِيَّةً وحماسًا بعبارة هزلية أولى باسم «حرية الكلام» Freedom Of Speech، أو حتى بعبارة هزلية أخرى باسم «حرية الرأي» Freedom Of Opinion، أو حتى بعبارة هزلية أخيرةٍ، وليس آخرةٍ هنا، باسم «حرية التعبير» Freedom Of Expression، وسواء كان هذا الكلام وهذا الرأي وهذا التعبير شفاهيًّا أم كتابيَّا أم غير ذلك من الوسائل الورقية القديمة والرقمية الحديثة.. وقد نوَّهتُ بالذكرِ، في هذا السياقِ، على أقلِّ تقديرٍ إلى تلك الدول الغربية التي خبرتُها بنفسي حياتيًّا و/أو دراسيًّا لفتراتٍ من الزمانِ كفيلاتٍ بأن أطلقَ أحكاما يقينيَّةً، أو حتى شبهَ يقينيَّةٍ، وابتداءً من الدول الإسكندنافية مثل الدنمارك والسويد والنرويج، وليس انتهاءً بالدول الاستعمارية التقليدية مثل إنكلترا وفرنسا وكذلك أمريكا (وريثةِ جلِّ الاستعمار الأوروبي هذا بعد الحربين العالميتين)، ولا حتى انتهاءً نهائيا بالدول النازية أو النازية الجديدة مثل ألمانيا (ربيبةِ الانحيازِ الخفيِّ لإسرائيل وإلى حدِّ تغافلِ فرعِ «العَفْوِ الدُّوَلِيِّ» Amnesty International فيها خاصَّةً عن انتهاك هذه الـ«إسرائيل» لحقوق الشعب الفلسطيني).. أقول ها هنا بكل صراحة وجلاء إن أسوأ أشكال العنصرية والكراهية بإزاء العرب والمسلمين في «المنفى» تحديدا إنما تتجلى في هذه الدول الغربية كلِّها دونما الاستثناءِ بالذوات، وعلى تفاوتٍ نسبيٍّ من درجاتها «المثلى» في المأتاةِ والمدعاةِ، إذ ترى حتى المواطن العادي البسيط في أي من هكذا دولٍ غربيةٍ (ولكنْ، يُستثنى نزرٌ نزيرٌ من الواعين من مواطني ومواطناتِ كلٍّ منها، بطبيعة الحال)، إذ تراهُ لا يأتيك إلا بالنَّفَس العنصري والكراهي المعني إتيانًا عامدًا متعمِّدًا، بلا أيِّما سابقِ إشعارٍ ولا حتى أيِّما آنفِ إيماءٍ بتاتًا – فها هو مذَّاك يُعَبِّرُ عن نَفَسٍ كهذا بالكلام الحرفي أو المجازي حين يَنِطُّ نَطِيطًا تصريحيًّا سافرًا، من طرفٍ أول، وها هو يُعْرِبُ عنه كذاك بـ«اللاكلام» على النقيضِ حين يَنِزُّ من مَسَامِّ جلدِهِ سُمًّا سُمًّا نَزِيزًا تضمينيًّا مُسْتَتِرًا، من طرفٍ آخرَ.. أعيدُ القولَ هذا مرَّةً أخرى تذكيرًا أشدَّ إلْحَاحًا بما يفعلُهُ أولئك البحثاءُ الجامعيون المنافقون بمدى انتقائِيَّتِهِمْ والمُسْتَرِقُّونَ لميداءِ ماهيَّتِهِمْ سَعْيًا وراءَ التَّبَوُّءِ والتَّمَلُّكِ العُصَابِيَّيْنِ لنوع «المَرْهَصَةِ» الأكاديميةِ في ظَنِّهِمْ، كمثل ذلك الباحث الجامعي جلبير الأشقر الذي يدَّعي مرارًا وتكرارًا بأنه ناشط تقدُّمي «ماركسي» أو حتى «أممي»، والذي لا يني يتشدَّق بما يبدو «نضالًا» مضادًّا لأشتات الإمبريالية بـ«كلِّيَّتِها» وبـ«كافَّتِها» تشدُّقًا مسطَّحًا تحت الاصطلاح الشِّعَارِيِّ المصطنَع «اللاإمبريالية» Anti-Imperialism، ولكنه لا ينتقي من هكذا «نضالٍ» بَتًّا، في واقع الحال، إلا كلاما أو رأيا أو حتى تعبيرا لا يهدِّد قطُّ بقائيَّةَ ذينك التَّبَوُّءِ والتَّمَلُّكِ العُصَابِيَّيْنِ لنوع «المَرْهَصَةِ» الأكاديميةِ في ظَنِّهِ تحديدًا.. وهكذا، فإن اجتماعَ نفاقيَّةٍ وانتقائِيَّةٍ «أكاديميَّتين» كهٰتين إنما ينطوي، من حيث المبدأ، على اجتماعِ وُصُوليَّةٍ وانتهازيَّةٍ مترسِّخَتَيْنِ في ذهنيَّةِ هكذا باحثٍ جامعيٍّ «ماركسي» مُتَبَرْجِزٍ، وإنما يحتوي، من حيث المَنْهَى، على تفرُّدِ لامبدئيةٍ «مُوَازِيَةٍ» في كلٍّ من المَنْحَيَيْنِ الإنساني والأخلاقي إزاءَ فعلِ الانتقادِ الافتعالي لهذه الإمبريالية الغربية دون سواها (كـ«اجترائهِ» على الانتقاد التمثيلي لكل من الإمبرياليتَيْنِ الأمريكية والروسية من بعيدٍ، و«ارتدادهِ» عن الانتقاد التأثيلي لأي من الإمبرياليتَيْنِ الإنكليزية والفرنسية من قريب)..

كلُّ هذا النفاقِ وهذا الانتقاءِ لَسَائِرَانِ حثيثًا رغمَ اتخاذِ الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ كُلًّا من مواقفَ عنصريَّةٍ وكراهيَّةٍ فاقعةٍ تجاه العرب والمسلمين جُلًّا، ورغمَ نكرانِهِ الإقرارَ، ولو كان إقرارًا «تطهُّريًّا»، بأن العالمَ في هذا الزمان «ما بعد الكوروني» إنما يتغيَّر تغيُّرًا حتميًّا (تاريخيًّا أو لاتاريخيًّا) مرتبطًا بتعدُّدِ أقطابٍ زاحفٍ أيَّمَا زَحْفٍ من أقاصي الشرق الأوروبي إلى أقاصي الشرق الآسيوي إلى حتى أقاصي الجنوب الغربي الإفريقي.. كلُّ هذا النفاقِ وهذا الانتقاءِ، والأهمُّ هنا، إن هما إلا صفتان لاإنسانيَّتانِ ولاأخلاقيَّتانِ متأصِّلتان يتَّصفُ بهما هذا الغربُ الإمبرياليُّ كلًّا في الأصلِ، وبالذاتِ في قرينةِ ما يحدث الآنَ من اضطرابٍ حكوميٍّ مسلَّح تلاهُ إذَّاك تظاهرٌ شعبيٌّ عارمٌ في أقاصي الجنوب الغربي الإفريقي، وفي أرجاء دولة النيجر حتى هذه اللحظةِ.. فمن الغبن الشديدِ أن يُظَنَّ أن هذا الغربَ الإمبرياليَّ ينافحُ صادقا عن استتبابِ «الديمقراطية» مَنْظِمًا و«الدستورية» نظامًا في هذه الدولة الإفريقيةِ خاصَّةً، أو حتى عن استرجاع رئيسها «المنتَخَبِ» المعزولِ محمد بازوم (وسواءً كانَ مرتقَبًا أم لم يكنْ هذا «النِّفَاحُ» مؤخَّرًا جَرَّاءَ اهتمامٍ أمريكيٍّ وجزائريٍّ لتجديدِ وِفَاقِ التصالحِ في مالي، مُبْرَمًا ومُوَقَّعًا عليهِ في الجزائرِ ذاتها عامَ 2015).. ومن الغبن الأشدِّ حتى أن يُظَنَّ أن هذا الغربَ الإمبرياليَّ لا ينافحُ مُخْلِصًا عن مطامعهِ على أيِّمَا صَعِيدٍ اقتصاديٍّ أو عسكريٍّ في هذه القارَّةِ الإفريقيةِ عامَّةً، وقد قِيمَ فيها بالعدِيدِ من الانقلاباتِ حين كان هذا الغربُ الإمبرياليُّ (كمثالِ أمريكا وإنكلترا وفرنسا، في الأغلبِ) يلوذُ بالصَّمْتِ المُطْبِقِ عن أيِّمَا انقلابٍ قائمٍ حسبَما كانتْ تقتضيهِ الرَّغائبُ في تلك المطامعِ، من جانبٍ أوَّلَ، وحين كان، على الخلافِ، يشنُّ شتى الحروبِ الشَّعْوَاءِ على الانقلابِ «النقيضِ» إن لم تكنْ تقتضيهِ تيك الرَّغائبُ، من جانبٍ آخرَ.. ومن الطبيعيِّ أن خطوطَ النار في أيٍّ من هكذا حروبٍ لا تُفْتَحُ رسميًّا إلَّا تحتَ ذريعةِ مَا يُسَمَّى اعتيادًا بـ«مكافحة الإرهاب»، وذلك إيهامًا مُتَعَمَّدًا عن حقيقةِ أن هذا الغربَ الإمبرياليَّ إنَّمَا هو الصَّانِعُ الفعليُّ لهذا «الإرهاب» أصلًا، منذ تدخُّلِهِ الكارثيِّ في ليبيا «الربيعِ العربيِّ» عامَ 2011، ومنذ جَعْلِ هذه الـ«ليبيا» منفذًا حيويًّا مَاثلًا على حَدِّهَا الجنوبي الغربي مع النيجر، وبالأخصِّ إبَّانَ تحوُّلِ «الصحراء الكبرى» إلى مركزٍ أو مَلاذٍ عالميٍّ أو كونيٍّ لِمَنْ يُسَمَّوْنَ اعتيادًا كذلك بـ«الجهاديين» أو بـ«المتشدِّدين الإسلاميين» – وفي هذا مَا يفسِّر داعيًا من دواعي وجودِ قواعدَ عسكريَّةٍ فرنسيَّةٍ وأمريكيَّةٍ مرئيَّةٍ هنا، وكذاك وجودِ قواعدَ عسكريَّةٍ إنكليزيَّةٍ لامرئيَّةٍ هناك.. ومن الطبيعيِّ أيضًا أن نِسَبًا لافتةً من هؤلاءِ الجهاديين أو المتشدِّدين الإسلاميين يتحدَّرون من أصولٍ عربيَّةٍ تحديدًا، إذ بلغوا أَشُدَّهُمْ شيئًا فشيئًا بـ«الاعتياشِ» البنيويِّ-التنظيميِّ على المالِ والسلاحِ «المهرَّبَيْن» من لَدُنْ جهاتٍ «عربيَّةٍ» أو «لاعربيَّةٍ» كانتْ، ولمَّا تزلْ، تعملُ بالولاءِ لصالحِ دولةٍ من دُوَلِ هذا الغربِ الإمبرياليِّ كيما يُعِيدَ الخَلْقَ واضحًا أمامَ الخَلْقِ كَافَّتِهِمْ (سواءً كانوا أسيادًا أحرارًا أعزَّاءَ، أم كانوا عبيدًا عَتُوفِينَ دُرْقُعِيِّينَ أذلَّاءَ) لثنائيَّةٍ مُشَيْطَنَةٍ استباقيًّا إزاءَ اتخاذهِ كلَّ المواقفِ العنصريَّةِ والكراهيَّةِ كلما سنحتْ سَانِحَاتٌ، ألا وهي: ثنائيةُ «العرب والإسلام» مُجْتَرَّةً بالمرارِ آنًا بعدَ آنٍ.. وهل في ذلك ما يقدِّمُ تعليلًا بدئيًّا لميداء الترسيخِ التدريجيِّ لهكذا مواقفَ عنصريَّةٍ وكراهيَّةٍ في أذهانِ هذا الغربِ الإمبرياليِّ، وقد تجسَّدتْ، أكثر مَا تجسَّدتْ هذا الآنَ، في كلٍّ من السويد والدنمارك، وإلى حدِّ الإحراقِ والتدنيسِ للهويةِ الجليلةِ والقرآنِ الكريمِ؟؟..

أقولُ ها هنا «في كلٍّ من السويد والدنمارك» على الأخصِّ، لأنه من خلالِ التمادي في الاستيمانِ المفرطِ بأيٍّ من شعاراتِ «حرية الكلام أو الرأي أو التعبير» تلك، تتمادى في هكذا إحراقٍ وفي هكذا تدنيسٍ بكلِّ صفاقةٍ وبكلِّ وقاحةٍ حتى بضعةٌ من «المواطناتِ» السويدياتِ أو الدنماركيات اللواتي يتحدَّرن من أصولٍ تنتمي إلى دولةٍ أو أكثرَ من دُوَلِ مَا يُسَمِّيهِ هذا الغربُ الإمبرياليُّ بـ«العالم الثالث».. وعلى سبيل مثالٍ حديثِ العهدِ نسبيًّا في هذا المساقِ، ففي اليومِ الثالثِ من شهر آبَ (أغسطس) الفارطِ من هذا العام (أي عام 2023)، أقدمت «مواطنةٌ» سويديةٌ متحدِّرةٌ من أصلٍ إيرانيٍّ، تُدعى مرجان بيرامي وهي في أواخر عقدها الرابع فيما يبدو، أقدمتْ بكلِّ صلافةٍ وبكلِّ سلاقةٍ على إحراقِ نسخةٍ من القرآنِ الكريمِ على شاطئٍ من شواطئِ العاصمةِ السويديةِ ستوكهولم، وذلك تحت حراسةٍ أمنيَّةٍ «مُثْلَى» من طرف بضعٍ من عناصر الشرطةِ السويديةِ بالذوات.. وفي الآونةِ الأخيرةِ، فضلًا عن ذلك كلِّهِ، لقد تكرَّرتْ حوادثُ إحراقٍ وتدنيسٍ مماثلةٌ في السويد (وكذلك في الدنمارك بالذات)، حوادثُ مماثلةٌ قامَ بتنفيذها رهطٌ بخيسٌ خسيسٌ من أولئك الذين يُشَارُ إليهم بـ«اليمينيِّين المتطرِّفين» وحتى من أمَامِ مباني سفاراتٍ تمثِّل دولًا إسلاميةً معيَّنةً، كمثلِ إيران وتركيا على وجهِ الحصرِ (لكيما تكتملَ المهازلُ هنا)، ممَّا أثارَ حَفَائِظَ عددٍ من الدولِ العربيةِ والإسلاميةِ المعنيَّةِ على كلٍّ من المستويَيْنِ الرَّسْمِيِّ والشعبيِّ، وممَّا أمَارَ كذاك استدعاءاتٍ تحقيقيَّةً لسفراءِ وممثِّلي كلٍّ من الدولتَينِ الغربيَّتَيْنِ المعنيَّتَيْنِ في أكثرَ من دولةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ، وذلك صَوْنًا فيما يتبدَّى لماءاتِ الوجوهِ على أدنى تخمين.. كلُّ هذه الإثارةِ مُقْتَرِنَةً بكلِّ هذه الإمارةِ لا تعدو، بطبيعةِ الحالِ، أن تكونَ عملًا شكليًّا على نحوٍ أو آخَرَ بموجبِ ذلك القرارِ الاِرْتِئَائِيِّ الإجماعيِّ الذي قد تَبَنَّتْهُ «الجمعية العامة للأمم المتحدة» UNGA في اليوم السادس والعشرين من شهر تموز (يوليو) الماضي من هذا العام (أي عام 2023 كذلك)، والذي قد صَاغَهُ المغربُ المهرولُ بكلِّ استخذاءٍ وراءَ التطبيعِ «الإبراهيميِّ» مع أزلامِ الكيانِ الصهيونيِّ (وهنا كذاك مهزلةُ المهازلِ بالعَيْنِ)، قد صَاغَهُ صَوْغًا لكي «يُدينَ» سَائرَ أعمالِ الاِنتهاكِ ضدَّ الكتبِ المقدَّسةِ وضدَّ الإسلامِ دينًا وأُمَّةً!!..

[ولهذا الكلام، فيما بعدُ، تَتِمَّة]

***

تعريف بالكاتبة

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى