مسلسل الكابتن ماجد.. تسويق النموذج الياباني المتفوق ثقافياً
د. محمد مطلك بدر الحاج لازم | أكاديمي عراقي
من منا لم يتغن باليابان، وانجازاتها؟
إنَّها الدولة الوحيدة حتى اليوم التي تلقت قنبلتين ذريتين، لكنَّها نهضت، و تفاعلت مع الحياة كما يجب أن تكون بعد تدميرٍ ماديٍّ و معنويٍّ حقيقيٍّ، و أصبحت ما هي عليه اليوم، دولةً غنيةً تمثل واحدةً من أكبر اقتصاديات العالم و بلداً صناعيّاً من الطراز الأول، و بلداً يصدر تقريبا كل شيء، و بلداً سمعته مرادفة للاحترام ومجتمعه يجسد القيم الأصيلة .
اليابان لم تكن دائماً هكذا، الدولة المسالمة و اللطيفة، لا بل إنَّ كل ما نعرفه عن اليابان هو ما ارادتنا اليابان نفسها أن نعرفه، اليابان في الحقيقة لحد نهاية الحرب العلمية الثانية كان الانطباع عنها أنها دولة مجرمة و شريرة جداً .
تقسم العصور اليابانية وفق آلية معينة مرتبطة بالإمبراطور الحاكم، وهي باختصار عبارة عن تدوين تأريخي لكل فترةٍ زمنيةٍ، فمن ( 1929-1945) في فترة حكم الإمبراطور هيروهيتو كانت هذه الدولة اسوأ بكثير من نازية هتلر حيث أن مساحة الدول التي احتلتها اليابان في تلك الفترة تعادل ضعف المساحة التي احتلتها المانيا النازية، فكانت تبسط نفوذها على الصين و سنغافورة وتايلند وماليزيا والكوريتين، و هونك كونك، وفيتنام، وبشكلٍ مباشرٍ، و غير مباشر فأن اليابان مسؤولة عن مقتل حوالي 15 مليون إنسان !
فما بين مذابح مدنيين، أو التسبب بمجاعات واسعة النطاق وصولاً الى التجارب العلمية التي كانت يجريها الجيش الياباني على البشر، فقد تمت تجربة الأسلحة الكيمياوية، و البايلوجية على آلاف من سجناء الحرب، وكانت مختبرات (الوحدة 731) أبشع الدوائر العلمية التابعة للجيش، وتسببت هذه الوحدة بمقتل آلاف الصينيين بالأسلحة البيولوجية عندما قاموا باطلاق حشرات محملة بالطاعون عام 1940 على مدينة (نينج بو).
إنَّ ثقافة العنف و القسوة كانت جزءاً أصيلاً من تكوين المجتمع الياباني، فعلى سبيل المثال في عام 1937 وعندما دخل الجيش الياباني الى عاصمة الصين في حينها مدينة (نان جينغ) قام بقتل حوالي 200 ألف مدني صيني في مجزرةٍ بشعةٍرغم عدم وجود مقاومة ،وعلى مدار ستة أسابيع ترافقها عمليات نهب واسعة للممتلكات فضلاً عن اغتصاب نحو 20 الف امرأة و تعرف هذه الحادثة تاريخياً بـ (مذبحة نان جينغ).
إنَّ الشعوب الاسيوية لحد يومنا هذا لازالت تحمل هذا التأريخ الاجرامي في وجدناها، فهذه الشعوب لا تعرف وحشاً في ذاكرتها كالياباني و صورته مرادفة للقاتل بارد الدم، و هذا ما تجسده الكثير من ثقافتهم في الفن المسرحي أو الدراما و القصة اليوم.
السؤال الآن: من أين اتت هذه الصورة اللطيفة لليابان اليوم؟ وكيف حصل هذا التحول المدهش في الشخصية اليابانية؟
كان من الضروري أولاً ولادة جيلٍ جديدٍ من اليابانيين الذين لم يعاصروا هذه الأحداث، ثمَّ ضرورة العمل على تطوير قوةٍ من نوع آخر، قوة ناعمة تخاطب الشعوب، وليس الحكومات.
و أفضل أدوات هذه القوة هي العناصر الثقافية، فعملت اليابان على تحليل ما يمكن أن تبدأ به أو بعبارة أصح ما تمتلكه فكان من أبرز أدواتها الفنون، و الثقافة و انتقاء ما هو مقبول منها لتقديمه للعالم.
كل هذه الأهداف احتاجت لجهد و إرادة حكومية و تضافر عمل مؤسساتها في أكثر من صعيد سواء كان سياسياً أو أكاديمياً لكن الوقع الأكبر كان ثقافياً بامتياز فاستثمرت اليابان فن (المانغا) الرائج في مجتمعها، و هو فن رسم القصص الكاريكاتيرية المصورة واستخدمته كواجهة ممتازة لترويج صورة الياباني اللطيف والمؤدب والمضحك أحيانا، و بالتدريج تكونت نظرة دولية مختلفة تجاه هذا البلد، فمثلا في عقد السبعينيات تشكلت (مؤسسة اليابان Japan foundation)، و بياناتها كانت أحد مصادر هذا المقال،التي أخذت على عاتقها هذا الواجب وأهدافاً أخرى مماثلة، وفي هذه الفترة بدأنا مثلاً في بلداننا نشاهد أفلام الكارتون اليابانية التي عاشت معنا، و عشنا معها على مدى أجيال و الى يومنا هذا نحنُّ إليها، ثمَّ انبثقت منها في مطلع الألفية مؤسسة ( COOL JAPAN) التي أخذت على عاتقها دعم و تمويل كل الأفراد و المؤسسات التي من شأنها العمل على أهداف تسويق الثقافة اليابانية.
من جملة أفلام الكارتون كانت شخصية (الكابتن ماجد) أو (الكابتن تسوباسا) بالياباني، فلقد كانت استراتيجية اليابان هذه تعمل باتجاهين: ثانيهما هدف داخلي سأعود اليه لاحقاً ، و الأول كان مخاطبة العالم بما يحب، و منها الرياضة بشكل مؤكد، فكانت هذه الشخصيات الكارتونية تخاطب الكبار و الصغار على حد سواء وبواسطة حبكات درامية محببة تجعل المشاهد يرتبط عاطفياً بهذه الشخصيات، شخصية كابتن ماجد أنشئت على يد رسام المانغا (يوويتشي تاكاهاشي )، ولم يكن يحب كرة القدم حتى العام 1978 عندما شاهد و لأول مرة بطولة كأس العالم في الارجنتين، التي فازت بها الأرجنتين، و تأثر كثيراً بما شاهده، فتعلق بهذه اللعبة عموماً و أحب منتخب الأرجنتين خصوصاً ، ففي الوقت التي كانت كرة القدم في تلك الفترة رياضة غير شعبية داخل اليابان بدأ تاكاهاشي عام 1981برسم أول كتاب مصور لشخصية الكابتن تسوباسا مستفيداً من الحملة التي كانت قد بدأتها الحكومة التي أشرنا اليها، و تبنت نشرها واحدة من أشهر المجلات الاسبوعية في اليابان و هي (شينون الاسبوعية) و بدأت تنال إقبال القراء العاشقين اصلاً لفنون المانغا فأصبحت هذه المجلة توزع نحو مليونين وخمس مئة ألف نسخة في الأسبوع.
في العام 1983 ظهر و بدعم حكومي كارتون الكابتن تسوباسا على التلفزيون و انتشر داخل اليابان بنفس السرعة، و في العام 1985 دعمت الحكومة اليابانية مشروع دبلجة المسلسل لنحو 35 لغة من ضمنها العربية فوصلنا الكابتن ماجد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كواحدٍ من منتجات اليابان التي تسوق شخصية الياباني الجديد.
أشرنا فيما سبق ان أهداف اليابان كانت تعمل باتجاهين: خارجي يستهدف تغيير الصورة النمطية عن الياباني، وآخر لا يقل أهمية يستهدف المواطن الياباني نفسه.
لو عدنا إلى التأريخ الياباني بشكلٍ مختصر سنجد أنَّ اليابان اتبعت لقرون طويلة سياسة الانعزال عن العالم الخارجي، و لم تكن تحتك بأيٍّ؛ ةمن منتجات الغرب و لا أي شيء من الثقافة الغربية حتى مطلع القرن العشرين تقريباً فبدأت تتبع أسلوباً قد يعده بعضهم غير مهني لكنَّه على ما يبدو نجح الى حدٍ كبيرٍ في تشكيل اليابان الحديثة، وهذا الاسلوب هو النسخ لكل ما يدخل لليابان من الخارج، و من ثم توظيفه وفقاً لخصوصية اليابان، فبدأت بتقليد التكنولوجيا بحذافيرها، وتعيد تقديمها بأسماء جديدة ثمَّ قامت باقتباس حتى الثقافة، فبالعودة الى الكابتن ماجد ظهر واضحاً اعجاب المؤلف بالأرجنتين في حبكة القصة ككل و حتى في أحلام أبطالها، لا بل ظهر واضحاً الاعجاب بتجارب الغير في الوقت الذي كان الياباني ينظر الى عرقه بأنه المتفوق الوحيد.
في أواخر الثمانينيات بدأت اليابان برنامجاً حكومياً يدعم الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً انطلاقاً من المدارس و المراكز الاجتماعية ففي العام 1991 كان الدوري الياباني عبارة عن دوري خجول من ثماني فرق بلاعبين هواة و هنا بدأت خطة حكومية ترسم هدف الكرة اليابانية لـ100 سنة القادمة، نعم 100 سنة، و التي كانت تهدف انه في العام 2092 تفوز اليابان بكأس العالم، وهذا في الحقيقة كان حلم الكابتن ماجد في أول حلقة عندما شاهد في المجلة صورة منتخب ايطاليا أبطال العالم عام 1982، فكانت الخطوة الأولى بتأسيس دوري المحترفين الياباني عام 1992 و في نفس العام فازت اليابان بأول كأس آسيا بتأريخها و عند الإنطلاقة الحقيقية للدوري الياباني عام 1993 توالت الانجازات، و في خلال أربع سنوات فقط.
و في العام 1998 تمكن المنتخب الياباني من تحقيق أول خطوة من الحلم عند وصوله لكأس العالم، ومنذ ذلك التأريخ، وحتى اليوم فإن المنتخب الياباني ضيف دائم في كل نسخ كأس العالم في العشرين سنة الماضية.
و من متابعة الإحصائيات فإنَّ اليابان استطاعت أن تخطو خطوات ممتازة لهدف 2092 يعني من 6 مشاركات في كأس العالم استطاعوا في ثلاث مرات الوصول للدور الثاني، و في العام 2010 و 2018 كانوا قريبين جداً من الوصول لدور الثمانية، ويخرجوا من دور 16 بصعوبة بالغة. وطبيعي جداً أنَّه في كأسي العالم المقبلة سنرى اليابان في دور الثمانية، لا بل حتى في المربع الذهبي.
إنَّ التقدم الذي تجسده اليابان حالياً في مختلف الأصعدة ليس صدفةً مطلقاً، بل هي خطوات مدروسة تستند الى تجارب دولية ناجحة لم تطبق كما هي بل استوحاها رجل الساموراي ووظفها لصالحه، وبالعودة لكرة القدم نذكر أن الدوري الياباني كان وما زال يمثل وجهة الاحتراف الثانية بعد أوربا فضلاً عن تمكن اليابان من تضييف بطولة كاس العالم عام 2002م.
ونتيجة لذلك أصبحنا اليوم نرى إنتاجاً للنجوم في مختلف الدوريات الأوربية لنجوم كانوا منذ مدة بسيطة أطفالاً معجبين بكابتن ماجد ومنهم هيديتوشي ناكاتا لاعب روما و كيزوكي هوندا لاعب ايسي ميلان و شينجي كاكاوا لاعب بروسيا دورتموند و مانشستر يونايتد و مايا يوشيدا مدافع سمبدوريا وتاكومي مينامينو مهاجم ليفربول.. كل هؤلاء اليوم سفراء لبلدٍ كان حتى الماضي القريب عبارة عن آلة حرب دموية، و كل هذا منتج ثقافي وصل لنا برسالة مفادها أن الشعب الياباني شعب منضبط و ذكي و متقدم تكنولوجيا و يمتلك تراثاً يعتز به، و هذه هي الحقيقة.