عن المسمارية أول ترجمة عراقية لملحمة الخليقة البابلية  

ناجح المعموري | رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقي

أصدر الدكتور نائل حنون كتاباً خاصاً بملحمة الخليقة البابلية ” حينما في العلى ” وهي أول ترجمة عراقية وعربية مباشرة عن المسمارية وكان الأستاذ طه باقر وبشير فرنسيس قد ترجما هذه الملحمة ” الخليقة وأصل الوجود ” ونشراها في مجلة سومر / م 5   1949.
وتعتبر ملحمة الخليقة و جلجامش من أهم النصوص الأدبية التي أنتجتها الحضارة العراقية القديمة وظل تأثيرها واضحاً وطاغياً في حياة الشعوب الشرقية ولعبت دوراً مهماً في صياغة نماذج رفيعة من آداب تلك الشعوب , ممثلاً له في الملاحم والنصوص الأسطورية .
ويعتبر النصان من المراكز الأدبية / الإبداعية في تاريخ الآداب وكان تأثيرهما مهيمناً ـ أيضا ـ في رسم حدود بعض الديانات التي لم تستطع الانغلاق أمام تأثيراتهما معاً . حيث كان لملحمة جلجامش تأثير معروف وواضح وظل يومئ لمصادرها مع كل تحفظات الآخر , ومساعيه لطمر التأثير وتغييبه تماماً وهذا ما حصل على سبيل المثال مع الملاحم الهندية والإغريقية ويعتبر العراق منتجاً للملاحم والنصوص الأدبية الكونية مثل أساطير الخلق والتكوين ورسم حدود الحياة وتوزيع الأعمال والمهام بين الآلهة . كما كان لملحمة جلجامش وحينما في العلى دور واضح في العقائد / والطقوس التي ترشحت عنهما وأخذها الآخر وتعامل معها باعتبارها من نتاجه وأعني بذلك القبائل الرعوية التي استثمرت الأدب العراقي القديم وتلاعبت في صياغته وتدوينه وإخضاعه لأهداف سياسية ودينية معروفة . وان كانت الملحمة قد تميزت بمستوى الانجاز الأدبي والتحقق الفني المعروف فإنها قد تمركزت حول الصراع الذي كان دائراً في المجال الثقافي / الديني , صراع تستدعيه متطلبات الحضارة وتطور العناصر الدينية والثقافية / السياسية / الاجتماعية أيضا , لذا اعتقد بان ملحمة جلجامش كتبت بعد ملحمة الخليقة البابلية وكلاهما يمثلان مرحلة تاريخية , تم التعبير عن صراعاتها واحتمالات انهيار النظام الامومي معاً. لذا كان الصراع بين نظامين أساسيين هما النظام الامومي / والنظام الذكوري الذي كان يتشكل ويتبلور قبل كتابة الملحمتين بعشرات أو مئات السنوات . كما اعتقد بان قراءة النصين بعيداً عن الصراع الذي أشرنا إليه يعطل تماماً حركة المجالات الثقافية / الدينية ويكرس وظائف أخرى ليست خاصة بالعراق القديم وإنما اهتمت بها كل شعوب العالم مثل ثنائية الخلود والموت التي كرسها الدرس الغربي بسبب القراءة الهامشية والسريعة وأيضا الموقف من ملحمة الخليقة بوصفها إعادة ترسيم للعلاقات المشتركة بين الآلهة والبشر .

لكننا نعتقد بأن الموضوعة الأساسية التي اهتمت بها الخليقة البابلية / وملحمة جلجامش هي لحظة التشكل الثقافي / والديني الجديد , كي يعبر عن مرحلة جديدة اهتماماتها وتوجهاتها .

وهذا ما أكدته توصلاتنا في قراءة نص ملحمة جلجامش وبالإمكان التعامل مع الملحمة باعتبارها نصاً كاشفاً عن تحقق التحول المعبر عنه بانتهاء الصراع بين النسقين الثقافيين , وهما الالوهة المؤنثة / والألوهة المذكرة , ويمثل تحقق صعود النسق الذكوري حسماً نهائياً لطبيعة الصراع الثقافي / وكما قال د . نائل حنون .
وفضلاً عن الأهمية الأدبية والتاريخية لهذا النص اكتسب أهمية خاصة في تاريخ الديانات لكونه يتضمن أقدم قصة كاملة عن التكوين والخليقة سبقت الديانات السماوية ولكنها تضمنت ما يشير إلى توجه للاقتراب من عقيدة التوحيد التي لم تظهر كاملة وراسخة إلا في تلك الديانات الكبرى .
وهذا موقف فكري واضح ومثير للانتباه، ويعني بأن الديانة العراقية معنية بتكريس سلطة اله واحد وحيازة مكونات الكثير من الآلهة ومنحها لذلك الإله، وهذا ما حصل فعلاً مع الإله الشاب مردوخ الذي حاز على عناصر 50 ألها من الآلهة الفاعلة والمؤثرة في الديانة العراقية القديمة، وينطوي هذا الأمر أيضا على ابتداء لحظات تعطيل الآلهة عن وظائفها وممارستها لأدوارها الدينية والتخلي عنها قسراً وليس قبولاً طوعياً.

كما يعني هذا والذي حصل في ملحمة الخليقة موتاً معنوياً , وتعطيلاً مؤقتاً لوظائف الإله الثقافية / والدينية , لذا انتقلت عناصر 50 إلها إلى الإله مردوخ الذي دخل مجال التفريد والمقترب تماما من التوحيد , ولذا اعتقد بان الديانة العراقية اسبق من المصرية في تفريدها , لكن الأخيرة اختزلت الكثير والكثير بالمرحلة الأتونية , وعلى أية حال لا يمكن إغفال الدور التحضيري الذي لعبته الديانة العراقية في التوحيد وكما قال د . نائل حنون : (في قصة الخليقة البابلية ميل إلى تجميع القوى الإلهية في اله واحد مع عدم الخروج عن التعددية القديمة .
واتسع الدور الوظائفي / الفكري لملحمة الخليقة في الحضارة الآشورية ــ وهذا ما كشفت عنه نسخة الملحمة الآشورية والتي تمثل رواية أخرى , لكن الاختلافات التي فيها تكاد تكون نادرة , باستثناء استبدال الإله مردوخ بالإله آشور. على الرغم من أهمية ذلك , لكنه وكما اعتقد ينطوي على دلالة كبيرة جداًَ وهي نمطية المرحلة الحضارية / الدينية  والسعي لتكريسها وإعلان الاصطفاء لها كلياً , ويتم هذا عبر الإله القومي , فالمرحلة الآشورية الجديدة والمتميزة بالتوسع والاستيطان والقوة العسكرية بحاجة إلى بطل قومي يتناسب تماما مع وظائف هذه المرحلة السياسية / الثقافية / الدينية ,لذا أنجز الكهنة الآشوريون نسخة للملحمة كان فيها الإله آشور بديلاً للإله مردوخ , ويسجل د . نائل حنون رأياً لعدد من المختصين أشار إلى إن ” لا يكون أيا من مردوخ وآشور بطلاً لهذه الأسطورة في أصلها الذي لم يكتشف حتى الآن , والدليل الذي يوردونه على ذلك , هو إن القوى والصفات المنسوبة لبطل قصة الخليقة البابلية تناسب انليل، الإله ـ الهواء والذي لا يوجد أي دليل، حتى الآن , على وجود أصل أقدم لهذه الأسطورة .
لقد تعامل د . نائل حنون مع ” حينما في العلى ” باعتباره نصاً أسطورياً واعتقد بأنه أكثر من ذلك , وهذا لا يقلل من أهمية الأسطورة في الديانات العراقية / أو الشرقية ولكن وظائف النص وعناصره تساهم بإنتاج صنفه وتحديد صفته الأجناسية وللأستاذ نائل حنون حق في تصنيف “حينما في العلى” باعتبارها أسطورة لأن الآلهة هم عناصرها الأساسية التي تكرس حولها الصراع وكرست الوظيفة الدينية في النص ولم يشترك معهم ــ الآلهة ــ ملوك وأبطال مثلما هو حاصل في الملاحم , كما إن غياب أو ضعف ظهور المكان الذي تجري فيه وقائع الملحمة وتحديداتها الوقائعية / التاريخية، أي وجود تجريد كامل، كل هذا يبعد النص عن الملحمة ويدخله إلى جنس الأسطورة , و كثيراً ما تثار ملاحظة حول ملحمة الخليقة البابلية من قبل بعض القراء والمهتمين وأسبابها سيادة الآلهة فقط في النص وغياب كلي للبطل الذي هو دائماً ما يكون ملكاً أو مقدساً. ويأتي د . نائل ليكرس ذلك ويتعامل مع ” حينما في العلى ” باعتباره أسطورة . وأنا اعتقد بأنه ملحمة ولي مبرراتي في ذلك :
أولاً :الموضوع الديني الذي هيمن على النص , وهو موضوع كوني، له علاقة بوظيفة جديدة تماماً ومختلفة عن الذي كان سائداً في الثقافة والدين، بمعنى وجود ضرورات حضارية لحصول تغيرات جوهرية في الكيان الثقافي / الديني , أي حصول تطورات لا بد من استيعابها وفسح المجال لخصائصها , ولذا تميزت “حينما في العلى” بصراع لم يكن نمطياً وإنما جوهرياً , انه صراع النموذج الإلهي الشاب / مردوخ مع الأم الكبرى / تعامت وهذا التباين بين النظامين يمثل شيئاً عظيماً لأنه لم يكرس الالوهة الشابة المذكرة فقط وإنما رسم حدوداً جديدةً للالوهة المؤنثة / الأم ويمثل هذا اختراقاً كبيراً وجديداً لثوابتها المكرسة عبر آلاف السنين.

ولم يكتف النص بكشوفات الصراع الإطاري بل تعمق بوظائف جديدة لم تكن من قبل خاصة بالألوهة الشابة / المذكرة واعني بها وظائف الخلق والتكوين التي تميز بها عدد من الإلهة الذكورة ــ بالإضافة إلى الأمومة المؤنثة ــ مثل آنو / انليل / انكي / شمش.

وهذا وحده كاف للكشف عن تكونات البنية الذهنية العراقية قديماً , حيث فتحت المجال متسعاً أمام مشاركة الآلهة الكبار في عملية الخلق والتكوين واعتقد بأن سبب ذلك هو المخاوف حول مصير الأم الكبرى والتي ربما تموت في لحظة صراع مع الآلهة وإذا ماتت فأن وظائفية التخليق والتكوين تتعطل تماما وهذا مخالف لما تكونت عليه خصائص الديانة العراقية.

لذا اشترك الآلهة الذكور الكبار مع الأمومة الكبرى في الخلق والتكوين وهذا ما ظل خاصاً بالنظام الثقافي / الديني الذكوري حتى في ” حينما في العلى ” وهذا النص , مغاير / مختلف تماماً عن غيره من النصوص , كما انه يعتبر رائداً في موضوع الخليقة والتكوين يمثل خاصية للعديد من الديانات التي تكشف عن مكونات البنى الذهنية لكل شعب وخاصة في مجال أصل الأكوان والنشوء وخلق الإنسان وهذه العناصر تمثل مراكز أية ديانة في العالم وبسبب من أهمية هذه الانشغالات والخاصة بالآلهة وليس البشر أو حتى مشاركتهم في هذه الوظائف , ولم تشهد الديانات العراقية والشرقية اشتراك البشري بالخلق أو التكوين لأن هذه الخاصية إلهية حصراً ولذا تم استبعاد البشري من ” حينما في العلى ” وتكرس دور الإلهي الجديد / مردوخ في النص , هذا الإله الزراعي الوافد مع الآموريين أسس مكانة له , وهي لائقة وكبيرة وحصل على تفويض ومبايعة كبار الآلهة له وحاز على خصائص سحرية عالية , فوض بها إليه الإله آيا.

وأعتقد بأن أهم ما ميز هذا النص هو اقترابات مردوخ من النماذج الإلهية الكبرى : آنو / انليل / آيا / شمش , وحصل على مكوناتهم وصارت له وعمل اعتماداً عليها , وأهم تلك المكونات الحكمة / العقل / السحر , التي أفضت إليه من الإله آيا الذي صار أباً لمردوخ . ونص مثل ” حينما في العلى ” لا يسمح بوجود البشري / النموذج البطولي , لأنه يفسد حركة الآلهي وتتسع مساحة البشري . وما اهتم به النص من قضايا كونية ليست من وظائف البشري على الإطلاق , لذا ظل الآلهة وحدهم عناصر النص كما أن طبيعة الصراع ودمويته وشموليته لا تتيح فرصة لغير الآلهة بالمشاركة حتى ولو تميز البشري ببطولات خارقة كالتي عرفتها الملاحم الهندية والإغريقية ولهذه الأسباب كلها , دخل الإله الشاب مردوخ صراعا من الإلهة الأم  / تعامت، مسلحا بتفويضات الآلهة الكبار وطاقتهم السحرية ولأنه واجه صراعاً قاسياً اشترط على الآلهة في الأسطر : 149 ـ 162 الاعتراف له بالزعامة عليهم والعظمة , على أن يتم ذلك في أثناء انعقاد مجمع الآلهة وتخويله وحده صلاحيات الآلهة  كلهم وبقدراتهم وأن يكون كلامه مسموعاً .
وبانتهاء النص مؤشراً آخر اللحظات الدالة على انتهاء ديانة الأم الكبرى وصعود الديانة الذكورية ممثلاً لها بأنموذج الالوهة الشابة / مردوخ الذي ردد الإله ” أنشار ” أسماؤه الخمسين وكانت هذه الأسماء مصاغة باللغة السومرية , كما هو بالنسبة لأسماء المعابد والأبنية الدينية في بلاد الرافدين القديمة كما قال د . نائل حنون والذي أضاف قائلاً : ومع الاسم الأخير [ أينكور كور ] يكون آلهة اجيجي قد نطقوا جميعهم الأسماء الخمسين وحين سمع آيا ذكر الأسماء , انتشى بالسعادة , وردد كلاماً أضيف فيه أسمه إلى أسماء مردوخ أيضاً ومنح مردوخ فروض عبادته وأصولها ومع الأسماء الخمسين يردد الآلهة جميعهم سيرة مردوخ وقرروا نشرها بين الناس .
حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن العرض التقليدي المعرف للنص لأنه معلوم جيداً وموجود في التداول الثقافي ومنذ سنوات طويلة , لذا ناقشت بعض المجالات المهمة وتحاورت مع أسئلة وجدتها مركزية في النص.

وسأحاول الاكتفاء بالإشارة لما هو جديد في تجربة العالم الآثاري المعروف د . نائل حنون والتي لم تكن معروفة من قبل , ولم تتضمنها أية ترجمة , لسبب بسيط وهو اعتماد الترجمات على لغات وسيطة وحتى المحاولات الغربية لم تقترب أبدا لما قام به حنون وعلى سبيل المثال :
قدم د . نائل النص المسماري وهو أمر مهم بالنسبة للطلبة الذين يرغبون تعلم اللغات القديمة ووسيلتها التدوينية المسمارية , كما قدم تعريفاً بأنواع الخط المسماري , وبعد ذلك قدم قراءة مقطعية خاضعة للتسلسل ذاته وبعدها القراءة اللفظية و الترجمة العربية . ولم يكتف د . نائل بذلك , بل قدم قائمة بالعلامات المسمارية وألفاظها وعددها 261 علامة مسمارية , كما أضاف جدولاً  للأفعال تضمنت ـ كما قال د . حنون كل فعل بالحروف العربية والمعنى أو المعاني الرئيسية التي يدل عليها في النص , وكتب مصدر الفعل الأكدي بالحروف اللاتينية وتحت جذر كل فعل ذكر الصيغ التي ورد فيها الفعل نفسه وموضع وروده بحسب اللوح والسطر . ويتضح من هذا التوصيف الذي قدمناه , بأن د . نائل حنون لم يكن معنياً بترجمة ” حينما في العلى ” عن المسمارية مباشرةًً, بل أهتم كذلك بتقديم النص المسماري والمقطعي / اللفظي وأضاف لكل ذلك هوامش تساعد الطلبة والدارسين على الاقتراب من اللغة الأكدية والتعرف على جوانب أساسية في نحوها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى