قراءة في نتائج انتخابات الكنيست وأقل من تلخيص لها
أمير مخول | حيفا – فلسطين
لا يملك أحد العصا السحرية لإعطاء الجواب حول ما حصل سوى بعض المثقفين والسياسيين السابقين الذي لديهم الجواب الجاهز “قلنالكم”. ولا أظن أن هنالك تيارا أو تنظيما سياسيا يقع خارج أزمة السياسة أو أزمة استعصاء الحلول والمخارج, من الأسهل على الإنسان أن يرى القشة في عين من يقابله ولا يراها في عينه هو، لكن أي من الأحزاب والحركات السياسية لا يستطيع أن يجاهر بأنه غير مأزوم، سواء تلك التي تشارك في الانتخابات للكنيست أم التي لا تشارك أم التي تقاطعها. لا يوجد إطار سياسي لم يتأثر بالحالة العامة ومن تسرّب نفوذ الدولة ومن أثر التحولات الاجتماعية والسياسية.
إن ما نشهده بالإمكان أن نطلق عليه أزمة الثقافة السياسية الوطنية السائدة والتي شكلت أساس تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل وحققت وراكمت إنجازات يشهد لها وبالذات في سؤال البقاء والصمود والتطور، وفي السياسة والثقافة والمجتمع. لكن سؤال الدولة يعود بقوة الى صميم تنظيمنا. هيمنة الدولة اليوم هي مسألة غاية في التأثير وفي احداث التحولات. إن ما نعزوه إلى ألمعيات نتنياهو وفذلكاته والتحولات في خطابه تجاه هذه الجماهير، ليس مسألة الليكود أو دهاء رئيسه بل قوة ونفوذ الدولة. واعتقد لو افترضنا أن حزب العمل التاريخي كان في السلطة اليوم لكان وعنا أصعب، لأنه في عقيدته تكمن روح الوصائية والاستعلاء والضبط والهندسة السياسية للولاء.
عن الجبهة والتجمع
نتائج الاقتراع هي ليست نتائج الانتخابات، بل إن نتائج الانتخابات وما تعكسه فيها مؤشرات لانقلاب في النخب وصدارة المشهد. سواء أكان هذا ثابتا ام حدثا عابرا، فإننا بصدد حدث متدحرج لم تتوقف تداعياته ولا ينحصر في نتائج التصويت وعدد النواب فحسب. كما لا بد أن ترتد النتائج الحاصلة على الوضع داخل الأحزاب وتدخلها في أزمة استيعاب الأزمة والإخفاق، وبالذات الجبهة، والتجمع. قد تكون هذه العملية منقذة وأساسا لانطلاقة متجددة، وقد تكون العكس.
سيقوم التنظيمان – الجبهة والتجمع – بتقييم الوضع ودراسة الإخفاق، وأتمنى أن تتوفر لدى كلّ منهما القدرة والادوات والجرأة لاستخلاص العبر واعادة التوازن نحو الانطلاق. ويأتي التشكيك هنا ليس من باب القدرة السياسية أو التحليلية، بل لأن الاطارين يتأثران بدرجات متفاوتة بتحديات داخلية تبلورت باتجاه قوى متصارعة لها محرّكات خارجية تمثل مصالح متضاربة، وليس بالضرورة على صراعات شخصية التي تبقى الأسهل للعلاج، والكثير منها يعود إلى تأثرهما بالمتغيرات العميقة في البنية الاجتماعية الاقتصادية والتي تسارعت مع تصاعد التوقعات من الدولة في مسألتين جوهريتين وهما مواجهة جائحة الكورونا ومحاربة الجريمة المنظمة، يضاف كذلك تسلل الأثر الزاحف للمال السياسي، الذي تجلّى أكثر ما تجلّى في الحملات الانتخابية، والتي تستر منذ أواخر التسعينيات وحتى اليوم في “رفع نسبة التصويت” ومن “خلي الصوت يقرر” حتى “شركاء في المصير شركاء في الحكم”.
سأتطرق هنا إلى بعد واحد من إغداق المال السياسي لصنع النجومية على حساب الحزب السياسي، وبالذات من الجناح الدمقراطي بين التنظيمات اليهودية الامريكية ومصالحها السياسية والاقتصادية ورؤيتها لإسرائيل كدولة “يهودية ديموقراطية”، وذلك بصفته ليس مسألة مالية فحسب بل استثمار قائم على فكرة أنّ التأثير على نخب محددة مجدٍ وهو الطريق للتأثير على الثقافة السياسية والأطر الحزبية. لقد نجح هذا المال بشكل كبير، لكن باعتقادي ولحسن الحظ غير حاسم، في صناعة نخب تسير في المسار المعني به وأحيانا دون أن تشعر بذلك او لا تعترف، بما في ذلك اهدافه في زيادة نفوذ الدولة وسعيها للهيمنة على نمط سلوك الفلسطينيين المواطنين فيها. ان ما يحصده المال السياسي هو مشروع سياسي للمموِّل وهو إفساد سياسي للذين يقبلون به وبالذات النخب المنصاعة. ليس مطلوب من هذه الاوساط ان تغير خطابها الوطني المجاهر به، بل تغيير سلوكها السياسي. فمثلا تستطيع نخب التمويل ان تجاهر بفلسطينيتها ووطنيتها وعدائها للمشروع الصهيوني الاستعماري الاقتلاعي، لكنها في الوقت نفسه تنظّر لزيادة مراقبة الدولة واجهزتها الامنية والاستخباراتية في بلداتنا تحت مسمى محاربة الجريمة. وباتت هناك نخب من طراز آخر، تعارض المال السياسي وتنظّر ضده وضد الحركة الوطنية باسم عبثية استراتيجية العمل البرلماني بينما تربطها مصلحيا علاقات عمل واستفادة مع نخب التمويل، تحت مسميات العمل المهني من علاقات عامة وترجمات وتحرير وإعلام. كل ذلك لم يكن ليؤثر على تيار الاسلامية الجنوبية والموحدة خاصة بالنهج الذي قاده د. منصور عباس وأصبح لاعبا سياسيا قوي الحضور، لأنه متناغم معه ولا يشكل تهديدا لأولويات الدولة بل تيسير اولوياتها الداخلية والاقليمية. وسوف يجري التطرق في نص اخر للمال السياسي بمفهومه الاوسع بما فيه من السلطة الفلسطينية وكذلك الاقليمي الخليجي العربي والتركي حديث العهد نسبيا.
نهاية نمط القائمة المشتركة؟ فماذا بعد؟
من المستبعد جدا ان يعود نموذج القائمة المشتركة الى تكرار ذاته في المدى المنظور فالانقسام عميق والشرخ الذي احدثه لا يمكن تجاوزه بخطاب الوحدة. حتى ولو اجتمعت مركباتها في قائمة في انتخابات قادمة فإنها تكون قد فقدت مصداقيتها قبل أن تلتئم. وتشير قراءة نتائج الانتخابات الى عزوف الناس عن نمط العمل هذا. إن فقدان الثقة من قبل الجمهور الواسع لا يعني بالضرورة تغير في المواقف السياسية والوطنية للناس بل قد يكون فقدان مصداقية من يطرح نفسه كممثل للناس. حين تغيب كل هذه المقومات فإن اللاصق الاجتماعي السياسي للقائمة حتى بتركيبتها الحالية قد تآكل.
لقد قامت القائمة المشتركة على اساس وحدة المصلحة بين القوى السياسية وبالذات لتجاوز رفع نسبة الحسم والذي حصل بدوافع عنصرية لمنع التمثيل العربي، وشكّل تحالف المصلحة أمرا شرعيا بحد ذاته وفرض نفسه على مجمل السياسة الاسرائيلية. لكن سوء الأجواء وعدم تحويلها الى مشروع وحدوي كما تمنت الناس، جعلها تخسر هي ايضا مصداقيتها. لا يكفي الحديث عن شعار الوحدة بل ان الوحدة ينبغي ان تكون واعدة وقبل ذلك ان تكون فيها حدّ معقول من الصدق، وأن تكون سياسية وان تكون وطنية. كما ان الوحدة ينبغي ان يكون لها هيبة حضور قيادي، لا تنافس على النجومية الفردية. وما فرضته القائمة الموحدة بخروجها من المشتركة بات أمرا واقعا وانشقاقا استراتيجياً.
عليه، يبدو اننا سنعتاد في المستقبل الى منظومة الكتلتين، ويعني هذا ايضا ان الساحة تتسع لاحزاب وحركات جديدة سواء ما يعتمد الاستراتيجية برلمانية أم غير برلمانية. وحسب النتائج ايضا سيكون تحدي نفوذ الاحزاب الصهيونية قويا على جدول الاعمال السياسي. لكن المسألة ليست مجرد نفوذ الاحزاب الصهيونية في الانتخابات، بل تعاظم دور الدولة في حياة جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل، والذي تسارع بوتيرة غير مسبوقة في ظل وضع الطواريء الشامل بسبب الكورونا وفي ظل الجريمة المنظمة ودور الدولة فيها واعتمادها فرصة لاجهزة الضبط السياسي وهندسة الولاءات والامزجة العامة.
مع ذلك لا أظن انه سيكون كافيا ان تقوم الاحزاب المعنية بتقييم ما جرى واستخلاص العبر، بل هناك ضرورة لمشروع يجمع القوى الوطنية سواء من يشارك في انتخابات الكنيست ام يقاطعها فيه بلورة تصور لانطلاقة في بناء المرجعيات وإعادة الاعتبار الفعلي للجنة المتابعة وإحداث انطلاقة فيها وتعزيز كيانية دورها كي نحافظ على كياننا الجماعي. وأن يكون قادرا على بلورة تصور لبعدين ضروريين، أحدهما هو علاقتنا مع شعبنا الفلسطيني وموقعنا فيه، والآخر هو كيف نتعامل مع الدولة ودورها المتعاظم.
في الخلاصة ليست نتائج الانتخابات هي نهاية المطاف ولا الأزمة الحالية، بل ربّ أزمة ولّدت انطلاقة، لقد لخص توفيق زياد في حينه أحد اهم الدروس الفلسطينية بعد النكسات حين قال:
“يا بلادي أمس لم نطفُ على حفنة ماء
ولذا لن نغرق الساعةَ في حفنة ماء”