يوم مشؤوم.. قصة قصيرة
د.سامي الكيلاني | فلسطين
مشى في الساحة مزهواً بالكنزة الجديدة التي حصل عليها مؤخراً، ارتداها هذا الصباح رغم أن الجو لم يعد بارداً كما كان في الأسبوع الماضي، بوده لو يحدّث أصحابه عن جمال ألوانها والرسوم التي تحملها. كان الوقت المتبقي لقرع الجرس كافياً ليمشي مع مجموعتين من تلاميذ صفه والصف الأعلى. تحدثوا عن صعوبة دروس الحساب وجدول الضرب، وعن ظلم معلم اللغة العربية الذي يطلب منهم حفظ قصائد وأناشيد ويحاسبهم على أية غلطة في الإلقاء بالضرب أو شد الأذن. كانت الألوان الزاهية للكنزة موضع إعجاب من غالب الذي سأله عنها ومن أين اشتراها، أجاب بأن والده قد أحضرها أمس بعد الظهر من المدينة. قطع الجرس عليه حديثه. اصطف تلاميذ المدرسة الابتدائية في صفوف مستقيمة منتظمة، متباعدين يفصل كل منهم عن الذي أمامه مقدار ذراع بناء على تعليمات المدير. بدأ مربو الصفوف بالتفتيش كلٌّ على صفه، مد يديه للتفتيش على الأظافر وهو يحمل منديل القماش ظاهراً. شكر في سره والدته التي ذكرته بالمنديل بعد أن كان قد خرج مستعجلاً فرحاً بحلته الجديدة. بعد انتهاء التفتيش بدأت الصفوف بالتحرك إلى غرفها، أولاً صفوف الغرف الموجودة في الجهة الجنوبية من المدرسة المستأجرة، المدرسة التي كانت بيتاً لأسرة إقطاعية ثم غادره أصحابه إلى بيوت حديثة، ثم جاء دور الصفوف الموجودة في الجهة الشرقية. كان صفهم آخر الصفوف في انتظار إشارة الدخول من المعلم المناوب. انزعج الأستاذ حسين من سماعه أصواتاً، فصاح “أنا عمّال بقول….”، فضحك التلاميذ ضحكاً خافتاً ثم انفلتت ضحكات قوية من آخر الطابور، ف”عمّال” في لغة القرية تعني “ثور” والأستاذ حسين لا يعرف ذلك. هاج الأستاذ وصاح بأعلى صوته فدب الخوف في قلوبهم، تقدّم الأستاذ حسين بكرشه ووجهه الذي تعلوه صلعة تزحف نحو منتصف رأسه يتقدم نحوهم ويصرخ، أخذ عدداً من التلاميذ للعقاب، كان حظه تعساً حيث أخذ موقعاً متأخراً في الطابور هذا اليوم على غير عادته. أمر البقية بالتوجه إلى غرفة الصف، وأبقى من اختارهم في الساحة، ذهب وعاد بعصا الخيزران وأعطى كلاً منهم نصيبه، نال ضربتين موجعتين على كل كف.
دخل الصف يفرك كفّيه من الألم وجلس في المقعد. كان غالب جاره في المقعد صديقاً خفيف الظل، علّق ساخراً على العقاب الذي ناله وأعرب عن فرحه بأنه اليوم لم يكن من الذين طالتهم خيزرانة الأستاذ حسين. صديقه غالب يحيّره، لا يهتم بالدراسة ولا يحفظ الدرس ولا يقبل المساعدة التي يعرضها عليه عادة، وينال العقاب على ذلك فيحزن عليه، ولكنه يستفزه حين يراه غير مبالٍ بالعقاب. ما أن بدأت الحصة الأولى، حتى طرح الأستاذ نظمي سؤالاً سهلاً على التلاميذ لمراجعة الدرس السابق، كل من سألهم أجابوا إجابة صحيحة باستثناء غالب وتيسير. اخترع الأستاذ نظمي عقوبة جديدة ل”التيوس”، حشر غالب في خزانة صغيرة في الحائط وحشر تيسير في خزانة أخرى، وعلى الرغم من ذلك كان يسمع ضحكات مكبوتة تصل مسامعه من خزانة غالب.
مضت الحصتان التاليتان على خير، وقرع جرس الاستراحة الصباحية التي يسمونها “التنفس”. سرت إشاعة بأن هناك تطعيماً هذا اليوم، سيأتي الممرض ويطعّم التلاميذ ضد مرض ما، وقالت الإشاعة إن التطعيم سيكون بواسطة “الإبر”. أقنعه غالب أن الهرب أفضل، هرب ومجموعة من التلاميذ وقد تركوا أغراضهم في الصف. ظلوا قريبين من المدرسة، انتهت الاستراحة ولم يظهر أي ممرض. حاول إقناع غالب بالعودة، لكنه لم يفلح، عاد إلى المدرسة وتسلل دون أن يراه المناوب، وطرق باب صفه، كان الأستاذ محمود لطيفاً ولم يسأله عن سبب تأخره.
رن الجرس معلناً نهاية الحصة الأخيرة، خرج مسرعاً. تذكر في منتصف الطريق كنزته الجديدة التي خلعها حين ذهب البرد الصباحي، قفل عائداً إلى الصف، ما زالت الغرفة مفتوحة، مد يده في صندوق المقعد، لم تكن الكنزة حيث وضعها، سأل الآذن فقال إنه لم يرها.
سار نحو البيت متباطئاً تحت وطأة الحزن، تمنى لو أنه لم يلبسها هذا الصباح، كان الحزن على الكنزة التي اختفت يسيطر على تفكيره ممزوجاً بالخوف من العقوبة التي تنتظره من والديه. لعن هذا اليوم الذي بدأ سيئاً من أوله، ولكنه تبسم فجأة وهو يتذكر كلمات الأستاذ حسين “أنا عمّال…”، متخيلاً إياه ثوراً هائجاً يهجم نحوه. خطرت بباله فكرة “لماذا لا يخفف من لعنة هذا اليوم ويقول لوالديه بأنه نسيها في المدرسة، وفي الغد يعلن عن فقدانها”، لكن خوفه تضاعف من أن يتحمل ذنباً إضافياً بسبب الكذب. استمر متباطئاً في مشيته بوده أن لا يصل البيت، والأفكار المتضاربة تثقل على رأسه الذي يكاد ينفجر.