“فانتازيا الواقع وأسلوب السرد” في قصة “ضجيج الصمت” للقاص الليبي خالد السحاتي
قراءة نقدية بقلم: د. حسن محمد العمراني | مصر
– أولاً: النص
استشاط الصمت غضباً،أمسك بتلابيب حارسِ الزمن الكسول، أوقعه على الأرض، نظر يمنة ويسرة، حاول إيهامَ نفسه انه بخير ، لكن هذا الهراءَ لم يرق له!، فذهب ناحية السراب ليفرغ في وجهه تلك الشحنة من الصراخِ والصخب اللذين ينوء بحملهما لسنوات طويلة ،تناهى إلى سمع السراب ضجيحٌ مرعب، لم يعرف مصدره، وحين أبصر الصمتَ لأول وهلة أفزعه ما رأى! هدَّأ من روعه قائلا له:
إنك من ذهب.
أجاب الصمتُ بهدوء مصطنع : وهل يتجاهل الناسُ الذهبَ ويُقْصونه في زاوية مهملة؟
عندها فقط تبادل الصديقان الأدوار ، فصمت السرابُ، ودخل الصمتُ في حالة من الصراخ
المتصل حتى تحوَّل إلى سراب!!.
- ثانياً: القراءة النقدية
الأديب الحقيقي هو من يعيد خلق المحسوسات بصورة تتجلى فيها الرموز المجردة صوراً من لحم ودم، فتستميل ذائقة القارئ العادي والمثقف في آن واحد. والنص الذي بين أيدينا يمثل كاتباً من هذا الطراز.
في قصته” ضجيج الصمت” يقدم لنا خالد السحاتي نصاً يختزل بين طياته الكثير من المضامين والرؤى والأحداث التي عمل علي إعادة صياغتها و تقديمها لنا من منظور فلسفي يعكس لنا أبعاداً فكرية وإجتماعية، تستند لدوافع نفسية مبررة، وذلك حتى يسلط الضوء على مشاكل وهموم يعيشها معظم الناس: ألا وهي محاولة التنفيس عن الذات، وكسر حاجز الصمت، وخلق مساحة من الجو النفسي الصحي للتعبير عما يعتمل بالنفس والعقل معاً. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى يتعرض الكاتب لقضية الخلق ومفهوم عبثية الوجود، فالسديم هنا هو رمز لأصل الكون، ومنه تشكلت الحياة، وانفطرت الكائنات لتتعايش معاً في سلام ووئام كما عبر عن ذلك أفلاطون في جمهوريته المثالية، وتوماس مور في اليوتوبيا، إلا أن الإنسان الذي جُبِلَ على التطلع للمُثل العليا يميل دائماً للتجريب والمحاكاة واستكناه ماهية الأشياء، وذلك يدفعه للفضول فيتفاعل مع الواقع: يجاريه مرة ويتمرد عليه مرات. ومن هذه الزاوية ندلف لقراءة النص، فنجد الكاتب واقعاً بين سندان العالم الذي ينشده ومطرقة التفاعل مع الآخرين في طاحونة الحياة. ومن هنا يتشكل الصراع، فيقع البطل المنكسر بين شقيّ الرحى، ويدور في حلقة مفرغة، وبذلك يصبح ممزقاً بين الحفاظ علي التوازن في دائرة الظل، رهن الصمت المصطنع، أو التنحي جانباً في زاوية مهملة، شأنه شأن الآخرين من المهرجين والمصفقين والمتملقين الذين يسمعون جعجعة ولا يرون طحناً، فلا يكون أمامهم خيار آخر سوى الدوران في فلك السراب . وبذلك يصبح الصمت والسراب وجهين لعملة واحدة مفادها الإحباط وفقدان الهوية وضبابية الرؤية.
هذا السعي الحثيث لإثبات الذات الإنسانية والإبداعية وتحقيق التفرد دفع الكاتب للعمل علي خلق نص يحاكي لسان الحال، لكن في قالب قصصي وسردي يتجاوز فنياً وأسلوبياً النموذج التقليدي للقصة القصيرة من حيث الفكرة والشكل والمضمون ووحدة البناء. وذلك منح النص خصوصية جمالية جعلتة ينفتح على التأويل ويفضي إلي مدلولات سهلة الإدراك.
وأما من حيث الأسلوب، فالعنوان وحده يحملنا بدهشة لمضمون النص. فالضجيج هو صوت ينتج عن المشقة أو بمحض الفزع الذي ينتاب المرء، وهو منافٍ للصمت، لكن مكابدة الظروف القاسية وكراهية جلد الذات جعلت من الصخب والضجيج بديلاً موازياً لمواجهة اللامعقول في تقلبات الدهر. ومن هنا جاء العنوان مشعاً لرسم دينامية الصراع المرتقب داخل النص. فالبشر في سعيهم للحفاظ علي التوازن والتصالح مع النفس يمرون في مرحلة ما بالتخبط، فتختل القيم والمبادئ فيصبحون- كما ذكر صمويل بيكيت، عن عبثية الحياة، في مسرحية ” الكراسي” – كالخراتيت، يتناطحون بالظهر خوفاً من المواجهة، وهم يحملون روح القطيع. ولتجسيد هذه الحالة الضبابية في التفكير والرؤية لجأ الكاتب لعقد مواجهة هزلية بين الصمت والسراب وضَمَّنَ حواراً صورياً قصيراً بين نقيضين لتفريغ شحنة الكبت الذي ينوء بحمله عبر السنوات الطوال. وقد جاء هذا الحوار متضافراً مع لغة السرد وقصيراً ليواكب بنْية النص، فلا نكاد نلمح نشازاّ في وتيرة الحكي. ولكي يوطأ الكاتب للتغير والتشكل والتدرج في طبيعة الأحداث، نراه يتبنى ألفاظاً متراتبة مثل ” نظر يمنة ويسرة…” ليرسم لنا عناصر المكون الشييئ للحدث، وهي (الصمت/الحارس/السراب) ثم يرتسم البعد المكاني للفضاء السردي الكثيف فنتعرض لعبارات مثل ” فذهب ناحية السراب/ تناهى إلى سمع../ وحين أبصر..” ومن هنا تتشكل نقطة التحول في مجرى الأحداث فنجد الكاتب يستعرضها لنا علي استحياء فيقول” هدأ من روعه قائلاً../ إنك من ذهب…” وكأنه يعبر عن حالة الخداع والمداهنة في آن واحد، ثم تنجلي لحظة التنوير وتتجلى الفكرة، فنجد الكاتب يعمد للمباشرة بأسلوب إنشائي قائلاً ” وهل يتجاهل الناس الذهب ويقْصُونه في زاويةٍ مُهمَلة؟” وكأنه يريد التحقق من أمر يكاد يكون معروفاً بالضرورة ليحمل القارئ على التعاطف معه من جهة، والمشاركة في إضفاء بُعد تأويلي للنص من جهة أخرى.
وهذا الحوار الثنائي بين الصمت والسراب ماهو إلا مانفيستو أو تجسيد حي واستجلاء للحوار النفسي أو المونولوج الداخلي في نفس الكاتب الذي ترك لخياله العنان علي حين غرة من ” حارس الزمن الكسول…” ونصَّب نفسه فاعلاً داخل النص ليتمرد علي ذاته المستسلمة لأحلام اليقظة، فلجأ للمواربة والمفارقة بين الوعي واللاوعي، والشعور واللاشعور، ليخلق فضاءً مغايراً يستعرض من خلاله رموزاً توحي بالمظاهر الوجدانية والفكرية للشخصية وتظهر مواقفها الإجتماعية والسياسية بأنماط واقعية الحدوث عميقة الدلالة.