فصل فيما لم يقله ابن خلدون
د. خضر محجز | فلسطين
في وصول النهابة والحمير إلى أبواب المدينة
والمناسبة: الهجوم الذي شنته الجماهير الفلسطينية على المستوطنات، في اليوم الأول لرحيل الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، وانتهى بنهب وخلع وتكسير كل المنشآت.
1ـ استهلال:
الليل في المدينة المغلقة الأبواب
كأنه السرداب
تجوب في دروبه الذئاب
مسنونة الأنياب
وغزة لا تهاب
شاعر من غزة
2ـ فصل في أصول ما وقع:
قال ابن خلدون:
“إن العرب إذا تغلبوا على أوطان، أسرع إليها الخراب. والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية، باستحكام عوائد التوحش وأسبابه، فيهم فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم ملذوذا، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران، ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب؛ وذلك مناقض للسكون الذي به العمران، ومنافٍ له: فالحجر ـ مثلا ـ إنما حاجتهم إليه، لنصبه أثافيَّ القدر؛ فينقلونه من المباني، ويخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب ـ أيضا ـ إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء، الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم. وأيضا: فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه؛ بل كلما امتدت أعينهم إلى مال، أو متاع، أو ماعونٍ، انتهبوه. فإذا تم اقتدارهم على ذلك، بالتغلب والملك، بطلت السياسة في حفظ أموال الناس، وخرب العمران”(1).
3ـ فصل في أن الأول يقلده الآخر، حتى ليقع الحافر على الحافر:
ولذلك فعندما حدث ما حدث في غزة ـ مما يعلمه الجميع ـ رأيت عربات الكارو، التي تجرها الحمير، تتزاحم لنهب مؤسسات المدينة، حتى وقعت الحاجة إلى قيام طائفة من الناس بتنظيم المرور، وحفظ دور عربات الحمير، لكي لا تتزاحم وتصطدم، ويتقاتل النهابة من أصحابها، كما تقاتل إخوانهم قبل ساعات. وغزة مثل تونس الخضراء، واقعة تحت حوافر الحمير ومكفري أهل القبلة، من الشطارين والعيارين، كما وقعت القيروان تحت سنابك خيول بني هلال بن عامر، في زمن العبيديين المنتسبين إلى آل محمد زوراً. يقول ابن خلدون:
“كانت بطون هلال وسليم ـ من مضر ـ لم يزالوا بادين [أي يسكنون البادية] منذ الدولة العباسية، وكانوا أحياء ناجعة، محلاتهم من بعد الحجاز بنجد. فبنو سليم مما يلي المدينة، وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف. وربما كانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي، ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق. وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز، والكتائب تكتب، من باب الخلافة ببغداد، للإيقاع بهم، وصون الحاج من مضرّات هجومهم.
ثم تحيّز [انحاز] بنو سليم، والكثير من ربيعة بن عامر، إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جنداً بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي (الفاطميون) على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز [الفاطمي] منهم وغلبهم عليها وردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد، في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم أضرار بالبلاد”(2).
إذن فقد سكنت جموع الهمج النهابة أخيراً بلاد الحضارة، وصاروا يوقعون الأضرار بالفلاحين، ويغلبونهم على رزقهم، ويعيثون في الأرض الفساد. إلى أن حل زمن فكر فيه الحكام في إلهائهم بلعبة الحرب من جديد ـ وتلك لعبة يتقنها الحكام خصوصاً من قارب عهدهم على الزوال ـ فماذا كان؟.
لقد كان أن تمرد الحاكم التونسي (المعز بن باديس) السني، على خلافة الفاطميين الشيعة، فأعلن ولاءه للخلافة العباسية ببغداد، ورفع صوته بالدعوة لأبي بكر وعم والترحم عليهما، الأمر الذي أحنق عليه الخليفة الفاطمي المستنصر. فاستشار وزيره الحسن بن على اليازوري، فأشار عليه بمنح إفريقيا إلى بني هلال، عقاباً لأهلها جميعاً. يقول ابن خلدون:
“وكان أحياء هلال… في محلاتهم بالصعيد، كما قدمناه. وقد عم ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم والتقدم لمشايخهم وتوليتهم أعمال أفريقية، وتقليدهم أمرها، ودفعهم إلى حرب صنهاجة [ولاية تونس] ليكونوا عند نصر الشيعة، والسبب في الدفاع عن الدولة. فإن صدقت المخيلة، في ظفرهم بالمعز وصنهاجة، كانوا أولياء للدعوة [أي الفاطمية] وعمالاً بتلك القاصية. وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة [أي مصر]… فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعيراً وديناراً لكل واحد منهم، وأباح لهم إجازة النيل. وقال لهم: قد أعطيتكم المغرب، وملك المعز بن بلكين الصنهاجي، العبد الآبق، فلا تفتقرون”(3).
لقد كان على الأنبياء جميعاً أن يكونوا من الحضر. وذلك لأن الهمج أبعد خلق الله عن الدين، مصداقاً لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى” سورة يوسف/آية109(4). فقد علم الله أن غريزة الانتهاب ـ وهي غريزة لادينية متأصلة في الإنسان من قبل نزوله عن الشجرة ـ لدى الهمج أقوى من كل شيء. ولئن ظل الحقد لدى كل من يعيش على حواف المدن، أقوى من كل تعاليم الحضارات، فلطالما واظبوا على انتظار فرصة يجود بها الزمان وتسمح لهم بإظهار ما يكنون.
لقد ظل هذا يحدث دائماً، لكن ماذا كان سيحدث فيما لو أن واحداً قال لهؤلاء بأنهم بالنهب يصبحون متدينين أكثر، ومتحضرين من الطراز الأول؟. ألا يكون حال المؤمنين عندئذ أصعب مما لو وقعوا تحت احتلال كافر يبوح بكفره ويعلن رغبته الصريحة في تدمير دينهم؟. وهل حدث يوماً أن انتهب الاحتلال بيوت الناس أو قصفها على سكانها بالصواريخ؟. أزعم أنني عرفت الاحتلال وعانيت بطشه، لكنني لا يمكن لي القول ـ إحقاقاً للحق ـ أنه قد فعل شيئاً مشابهاً. فلنقرأ شيئاً مشابهاً، رصداً لما يقوله التاريخ.
“فطمعت العرب إذ ذاك، وأجازوا النيل إلى برقة، نزلوا بها وافتتحوا أمصارها واستباحوها، وكتبوا لإخوانهم بشرقي النيل يرغبونهم في البلاد، فأجازوا إليهم… وتقارعوا على البلاد [أي اقتسموها بالقرعة]… وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى أفريقية سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة… واقتسمت العرب بلاد أفريقية سنة ست وأربعين… وجاء العرب فدخلوا البلد [أي القيروان] واستباحوه، واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها. واستصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها، وشملوا بالعيث والنهب سائر من فيها وتفرّق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية، وانتشر الداء وأعضل الخطب. ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة. ثم حاربوا زناتة بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي، واتصلت الفتنة بينهم، وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني [أي الزناتي خليفة المشهور في الملحمة الشعبية] فهزموه، وقتلوه بعد حروب طويلة. واضطرب أمر أفريقية وخرب عمرانها وفسدت سابلتها”(5).
غزة يا غزة!. إيه يا غزة!. يا مدينة العمران والجمال والنشيد
طرقتك نائبة البنين الآبقين
طرقتك نائبة الكلام يحول الخيل المضمرة الجياد
إلى عظاءات تلوك في أسنانها لحم البلاد
دهمتك خيل يزيد قادمة من التفاسير القديمة
فخذي دمي. خذي عمري. خذي كل ماضي المسربل بالأكاذيب اللعينة، ترفع الأسطورة الكبرى على جبل، وتهوي بالرصاص على جموع المؤمنين.
خذي دمعي مدى عمري، وعودي مثلما كنا قبيل الصبح قبل قدوم جيش (الفاتحين).
ـــــــــــ
الإحالات:
1ـ مقدمة ابن خلدون. ط16. دار القلم. بيروت. 1986. ص149
2ـ تاريخ ابن خلدون. م6. القسم1. ص235 وما يليها. نسخة إلكترونية. المصدر: .www.almeshkat.net/books/index.php
3ـ ابن خلدون. المصدر السابق.
4ـ قال سيد قطب: “كانوا بشراً مثلك من أهل الحاضرة… ليكونوا أرق حاشية، وألين جانباً”. في ظلال القرآن. تفسير الآية 109 من سورة يوسف.
5ـ ابن خلدون. المصدر السابق.