حين يؤدي السلام المفروض..إلى إغتراب فكرة السلام
محمد المحسن | تونس
ستوقظنا شروط السلام المعلنة من حلم جميل يتحوّل كابوسا،فلا تعدنا هذه الشروط بنهاية الإحتلال، بل تطالب الفلسطينيين بالإعلان عن إنتهاء مطالبهم الوطنية وبإنهاء الصراع من أجلها، قبل أن يتعرّفوا على خارطة بلادهم الجديدة…!
مقابل حقّ غامض في إضفاء صفة الدولة على شبه دولة محرومة من الاستقلال والسيادة، حيث تتبوّأ الاستعارة مكانة الجغرافيا، وحيث ينفصل الدّال عن المدلول والدلالة، ولا تعثر الرموز على أرضها.. سيرتفع العلم الفلسطيني، بإنضباط صارم، هنا، ثم يختفي بعد قليل هناك، ليظهر ثانية على بقعة ما في خارطة مليئة بالثقوب الملوّنة، وسيحتاج دائما إلى دليل أمني أو سياحي، وسيصعب على عالم الجغرافيا الشقيّ أن يحفظ حدود بلاده المتعرّجة، المتدرّجة، المتموّجة، تحاشيا للاصطدام بمجال المستوطنة التي تحتلّ مكانة المركز وبئر الماء.
سيحلّ تعريف الدولة المتحرك محل الوطن الثابت، مع كل ما في هذه العملية من تداعيات ثقافية وتربوية، ستنسحب الذاكرة الجمعيّة من تاريخها ومكانها لتبحث عن رواية جديدة،أو تتشظّى إلى روايات فردية،سيُغيّر مكان الولادة، فلم يولد فلسطيني،منذ الآن، في فلسطين الأولى إذ تقتضي الواقعية السياسية ألاّ يتذكّر أحد طفولته إلاّ في الأدب.وسيُتّهم الحالمون بعودة ما إلى أرض الماضي القريب بالإفراط في الخيال والحماقة.
فكيف يفكّر عاقل بأن يعود خمسين عاما إلى الوراء؟
إنّ الحداثة الصهيونية، وحدها، هي التي تجدّد حق العودة إلى ألفي سنة خلت، فتكون الحداثة بنْتَ الخرافة الشرعية،ويكون التاريخ نتاج الأسطورة المسلحة. سننجرّ إلى مناقشة أكاديمية لا تنتهي حول تعريف»مَن هم اللاجئون؟».
سيقول لنا الإسرائيليون إنّ اليهود المهاجرين من البلاد العربية هم أيضا لاجئون لهم حقّ في التعويض عن ممتلكاتهم. وإذا قيل لهم: ألم تنعتوا تلك البلاد دائما بالمنفى أو الشتات؟
سيتوقّف الجواب على انتقائية مفهومية لا ترمي إلى أكثر من حرمان اللاجئ الفلسطيني من «احتكار»هذه الصفة.
وإذا قيل لهم : طالِبوا بحقّكم في العودة، قال العقائدي :هنا وطننا التاريخي. وقال الليبرالي: لن نخرج من واحة الديمقراطية إلى صحراء الاستبداد.
وقال المثقف المنفتح على الآخر: لاجئون أنتجوا لاجئين،وتلك هي إحدى مفارقات المصير الإنساني! .
أما السفاح نتنياهو المتعجرف فيدقّ ناقوس الخطر قائلا: إنّ حق العودة معناه القضاء على حق إسرائيل في الوجود.
ولذلك فإنّ الشعب الفلسطيني ليس مستعدا لصنع السلام..
لن نسأل مَن يحتلّ أرضَ مَنْ؟
فلعلّ الجواب ليس واضحا بعد في المجتمع الإسرائيلي المتأهّب- دوما- لانتخاب رئيس حكومة أكثر يمينية.ولكن الشعب الفلسطيني ليس مستعدّا لاختيار العبودية حتى ولو سمّاها السفاح نتنياهو»سلاما».
لقد أثبت الشعب الفلسطيني،بدمه وبخطابه السياسي،أنّه مستعدّ لدفع أيّ ثمن لحريته التي تؤدي إلى السلام،أو لدفع أي ثمن لسلام مشروط بالتحرّر وبنسبة معقولة من العدالة !
وعلى الرغم من الحصار المتعدّد الجنسيات والأشكال فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية الباسلة،وهي وسيلة من وسائل الربط المُحْكم بين مفهومي التحرّر والسلام،أن تكسر بعض المحرّمات في الديانة السياسية الإسرائيلية،مثل النقاش الجاري حول تقسيم القدس التي لم تعد، على مستوى الوعي، «عاصمة اسرائيل الموحدة إلى الآبد»، ومثل النقاش الدائر حول ضرورة التخلّي عن «المستوطنات السياسية».
لكن نضج هذه المناقشات وانتقالها من المجال النظري إلى السياسة،وربط سؤال الأمن»المقدّس»بمسألة العدالة المقدّسة هي أيضا،يحتاج إلى وقت يتحمّل فيه القدَرُ الفلسطيني المزيد من المعاناة لإختراق قلعة الوعي الإسرائيلي بأنّ العدالة هي التي تؤدي إلى تسوية،قد تؤدي إلى سلام قد يؤدي إلى مصالحة،بينما لن يؤدي أيّ سلام مفروض إلاّ إلى اغتراب فكرة السلام،وإلى تصعيد وتيرة الصراع..