قراءة نقدية في رواية ” كوفيد الأحلام ” للكاتبة قمر عبد الرحمن
زياد جيوسي | الأردن
قمر عبد الرحمن.. هذه الشابة الألقة عرفتها من خلال شِعرها النثري في ديوانها “رشفة حقيقة“، ومن خلال تألقها بشعر الهايكو بديوانها “صلاة الدموع” الذي عرف كأسلوب جديد بالشعر في اليابان، ومن خلال سردها الوجداني في “رسائل قمر” والتي تستعد لتطلق رسائلها بكتاب يحلق في فضاء الأدب والابداع، والأهم اني عرفتها من خلف الشاشة الزرقاء وهي تقدم برنامجها “وتر النصر” الاسبوعي عبر الإذاعة، هذا البرنامج المتميز والذي جعل من قمر؛ قمر ينير ليل الأسرى والعتمة لأبطالنا خلف القضبان، ففي هذا البرنامج الأسبوعي كانت تلقي الضوء على ابداعات الأسرى من خلال كتبهم التي كتبوها وهربوها خارج المعتقلات، رغم كل ظروف الاسرى والمداهمات والمصادرات والحرمان من وسائل الكتابة، وعلى الأسرى الذين يعانون من الأمراض في سجون الاحتلال مع اهمال طبي كبير.
الآن أتعرف عليها في جانب آخر لم أعرفه بها سابقا، في مولودها الأول في عالم الرواية كروائية تضع أقدامها على أولى درجات السلم الروائي، رواية “كوفيد الأحلام” حيث صدرت الرواية عن دار الرعاة للنشر والتوزيع في رام الله ودار جسور في عمَّان، مع لوحة غلاف للفنان غازي النعيم تمثل مشهد لإمرأة ترتدي ثوبا منسدلا على كل جسدها بلون يقارب لون السنابل قبل الحصاد، تقف على سلسلة من الحجارة القديمة ناظرة للأفق، وأمامها مباشرة حقل قمح قد قارب الحصاد، وشمس تختبئ خلف الغيوم وقمر كبير في اعلى اللوحة، والغلاف الأخير نفس الفتاة بثوب آخر وان كان من نفس اللون تنظر للقمر الذي يظهر بتفاصيله فقد اقترب من الأرض، في لوحات رمزية تشير للرواية مسبقا حيث المرأة والحلم في الأفق وحلم ستحصده كما سنابل القمح، وتقف على سلسلة حجرية قديمة معرضة للانهيار برمزية للمجتمع الذي تقف في وسطه، وقد أهدت الكاتبة الرواية لكل من أمها وأبيها وزوجها فادي وأختها سماح و “إلى كل من يؤمن بأن الأحلام ليست أحلام.. إنما حقيقة”، وهذا الاهداء الأخير يمثل لب الرواية وهدفها.
رواية تشرفت بكتابة تقديمها ككاتب وإعلامي إضافة لمقدمة تعريفية للكاتبة اللبنانية ليلى الداهوك وأخرى للكاتبة المغربية جليلة الخليع، وهي مثلت تجربة خاصة للكاتبة تظهر من خلالها قدرة جديدة على الخوض في صنف آخر من صنوف الأدب، رواية لا تخرج عن كونها رواية اجتماعية بأسلوب مبسط وسلس ولغة متفاوتة بقوتها حسب مواقع وأحداث الرواية، تنقل فيها تجربة بكل تفاصيلها تبحث في ظروف وأحداث اجتماعية حاملة في ثناياها جمال الحب ومرارة الألم وقوة المعاناة، بهدف يختلف عن الروايات الأخرى التي يمكن أن تبحث بنفس الفكرة بعموميتها، والتساؤل في الفصل الأول يشير لفلسفة الرواية والأساس الذي تقوم عليه بالقول: “هل نستطيع أن نغفر للقدر قسوته مقابل لحظة دفء مشتهاة؟؟”، وقسوة القدر هي البداية للرواية حيث الشخصية الرئيسة “حبيبة” ولدت في لحظة وفاة والدتها لتنشأ يتيمة في احضان أب واخوين.
فالكاتبة في روايتها أمسكت قواعد الرواية: وحدة الفكرة الاجتماعية بدون قفزات غير متصلة، اللغة وقد تميزت بصهر الشعر بالنثر في بوتقة تخدم السرد، الأسلوب وتقنياته فكان السرد والحوار متناسقا بمستوياته المختلفة، الزمان الذي اختارته في مرحلة هذا الوباء الذي اجتاح العالم وزرع الموت والخوف والحصار على البشر، المكان حيث اختارت مدينة الخليل مسرحا للرواية وهي ابنة المدينة والأقدر على معرفة مكنوناتها وخباياها وأسلوب تفكير أهلها، فالخليل تختلف عن باقي المدن الفلسطينية بتقاليدها وخاصة بمفاهيم الحب والسلوك والزواج والعلاقات الاجتماعية العامة والعلاقات بين الذكور والأناث، فالكاتبة تناولت في روايتها العديد من القضايا الاجتماعية، ومنها النظرة للأنثى إن تأخر زواجها وتسميتها عانس بينما كما ترى الكاتبة أن العنوسة في أفكار المجتمع وليس بالأنثى، وكيف يصر المجتمع على زواج من يفقد زوجته بأسرع وقت وقبل أن تندمل الجراح، وقسوة الآباء على بناتهن رغم توفير التعليم لهن بينما بعض الآباء يرون ان لا ضرورة لتعليم البنت فنهايتها للزواج والمطبخ،كما بحثت في قضايا تمييز الذكر على الأنثى، فالذكر له الأولوية في هذه المجتمعات الذكورية حتى لو كان عاقا ومقصرا تجاه أهله ودراسته.
وبحثت الرواية كيف أن كل اهتمام الأمهات محصور بأن تتزوج بناتهن، بغض النظر عن الزوج ووضعه وفقط لكي لا يقال عن بناتهن انهن عانسات، وكيف ينخفض مستوى العريس الاجتماعي كلما كبرت الفتاة فتضطر للزواج تحت ضغط المجتمع من مطلق او أرمل أو متزوج وكبير بالعمر ويريد زوجة أخرى، والفتاة هديل أنموذجا لهذه الحالات في الرواية وهي التي بلغت من العمر 33 عاما واعتبرت عانس ومن الضروري تزويجها حتى ولو من ستيني مكروه ومتزوج رغم أنها متعلمة، وبحثت الرواية في قضايا الزواج التقليدي حيث لا ترى الفتاة العريس الا حين يأتي وأهله لمشاهدتها وكأنها بضاعة، ولا تراه مرة أخرى الا عند الزواج وتسليم البضاعة للمشتري، وبحثت الرواية في غيرة الأخوات من بعضهن، وفي الحب من فتاة لشاب من طرف واحد، والزواج المبكر فمجرد ان تبلغ فتاة وخاصة ان كانت جميلة الا ويتقاطر الخُطاب لها، كما اشارت الروائية لعادات وتقاليد الزواج في الخليل والمهور، والحسد بين زوجات الاخوة، وتحكم الذكر بالأنثى بعد الزواج ومنعه اياها من اكمال دراستها رغم الوعود ما قبل الزواج، وفي حالات يسمح لها بعد كم كبير من المشكلات، كما تحدثت عن المشاكل العائلية والعشائرية في الأسرة الواحدة، وعن الاشكالات التي تواجه الزوجة إن تأخرت بالحمل والانجاب.
والخليل رغم كل التشدد الاجتماعي فيها، فهي المدينة التي تشتهر بصلابة أهلها وكرمهم بحيث لقبت الخليل بالمدينة التي لا يبيت بها جائع، ربطت فيها الرواية بين مرحلتين وكيف أثرت جائحة الكورونا على السلوكيات الاجتماعية بجوانب رد السلام والتحايا والعلاقات، لكنه لم يؤثر على الجانب الآخر في الحياة الاجتماعية مثل تعدد الزوجات بسبب أو بدون سبب وخاصة إن مرضت الزوجة أو تأخرت بالانجاب فالمبرر جاهز، وأوردت الراوية نماذج من الأقارب في عمَّان حين زارتها لأول مرة، أنموذج للطيبة والكرم والالتزام الديني والأخلاقي رغم الوضع المالي المتواضع، وأنموذج لثري ثراء فاحش ولكنه بخيل ومغرور ومدعٍ، وهذه حالات يمكن اسقاطها على مجتمع المدينة ولكن الكاتبة آثرت ان تقدمها كنماذج في الغربة وخارج المدينة، كما قدمت انموذجا من مجتمع المدينة لا يراعي القانون ولا حق الجار.
ايضا أمسكت الكاتبة بأصول الرواية باستخدام شخصية رئيسة كراوية للرواية والحدث، واستطاعت توظيف الشخوص بدقة بحيث لم تكن الشخصيات الثانوية زائدة عن الحاجة، فكل شخصية لها دورها صغر أو كبر ولم تضف شخصيات لمجرد الاضافة والحشو، الصراع في الرواية كان واضحا بين افكار الجيل الشاب والجيل الأقدم، وحملت القارئ بسلاسة ضمن حبكة الرواية وذروتها الدرامية حتى اوصلتنا للنهاية في انسجام كبير بين الكاتب والقارئ، وكما اشار الشاعر والكاتب والروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون: “قد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوا معينا ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده”.
الرواية أخذت المنحى الاجتماعي الواقعي وهو بعض من مكونات الوعي العام، فلم تلجأ للخيال والتعقيد وكما يقول المفكر الفرنسي من أصول رومانية لوسيان جولدمان: “كل سوسيولوجيا للفكر لابد ان تقبل بوجود تأثير للحياة الاجتماعية على الابداع الأدبي، وبالنسبة للمادية الجدلية، فإنها تعتبر ذلك مسلمة أساسية، مع إلحاحها بصفة خاصة على أهمية العوامل الاقتصادية، والعلاقات بين الطبقات الاجتماعية… القيم الفكرية الحقيقية لا تنفصل عن الواقع الإقتصادي الإجتماعي، بل هى قائمة بالذات على هذا الواقع”، فقمر تحمل رسالة وطنية ومجتمعية لم تتخلّ عنها رغم كل الضغوط التي تعرضت لها، فلذا لم تبتعد عن الواقع الاجتماعي في روايتها، وعبرت من خلالها عن المسكوت عنه تحت بند العادات والتقاليد، فكانت روايتها سرد يصور المجتمع من خلال الشخوص المختلفة لكل منها انفعالاتها ومشاعرها ومستوى معين من ثقافتها، ومن خلال سلسلة من الأحداث والمشاهد التي ترتبط كلها بالمكان المحدد بالرواية، فبحثت بالواقع والمشكلات والموقف المختلف منها في ظل حدث ترك أثره على العالم، فكانت في روايتها تضع قدمها على اول درجات السلم الروائي بثبات في مسيرتها الابداعية شعر ونثر ورواية وإعلام.
في هذه الرواية نلمس حجم التأثيرات النفسية في مجتمع محافظ، حيث نرى الصراع بين مرحلتين في هذا المجتمع، وبالتالي شعور الجيل الجديد بالاغتراب في هذا المجتمع، فيسعى البعض للهجرة خارج المدينة الى مدن أخرى أو لخارج الوطن في حالات أخرى، في محاولات للتمرد على التأثيرات المجتمعية التقليدية بالابتعاد عنها وعن تأثيراتها، حيث نلاحظ حجم تأثير الأسرة التقليدية على كل الأفراد فيها، بينما نجد البعض يحاولون التغيير؛ فالتطور والتغيير حالة لا بد منها، والأخذ بالتراث الموروث كحافز للتغيير وليس كقواعد جامدة مسألة مهمة لتطور المجتمعات، وهذا ما يدخل في اطار الثورة المجتمعية، فحسب أحد قوانين “الديالكتيك” العلمية “إن كل مجتمع يحمل في داخله بذور فنائه”، وبالتالي لا يمكن لمجتمع أن يستمر على نفس منهاج السلف، وفي “كوفيد الأحلام” نجد بعض من الوضوح بالغربة عن الذات وعن المجتمع، وفي نفس الوقت نجد حالات كبيرة من الرضوخ لتقاليد وعادات المجتمع، وفي نفس الوقت نجد البدايات للتمرد ومحاولات التغيير، فقدمت لنا قمر عبد الرحمن في روايتها علاقات إجتماعية متنوعة ومتشابكة في ذات الوقت، في رواية فنية ذات بعد جمالي كانت الخليل فيها مسرح الأحداث الأساس وبعض الأحداث في عمَّان، لكن هذه الأحداث وبغض النظر عن خصوصيتها إلا أنها يمكن أن تمثل واقع غالبية المجتمع الفلسطيني الواقع تحت قيدين: التقاليد الموروثة من جهة والاحتلال من جهة أخرى.