وتوتة توتةْ، فرغت الحدوتةْ
د. خضر محجز | فلسطين
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف:
قد حدثتني عن رديء الأصل كيف يفعل حين يأمن أعداءه، أو يستقوي عليهم. وقد رأيت كيف كانت نهايته وخيمة، ومستقره في أسفل سافلين، إلى جانب لعنات الناس واحتقار الصالحين. فحدثني الآن عن الضعيف عندما يقوى، والقوي عندما يضعف، وعلاقة كل منهما بالمجتمع من حوله.
فقال بيدبا الفيلسوف:
يا ملك الزمان، ووحيد الأقران، وقاهر الشجعان، وحكيم الإنس والجان؛ اعلم أن ما طلبته مني عظيم القدر، شديد الأهمية، كثير الحدوث، خصوصاً في هذا الزمن الرديء، الذي استأسد فيه الجبان، وصال فيه اللئيم بسيف السلطان، وانقمع فيه صاحب الحق خوفاً من بطش الحاكم الخرفان. لكنني وقد سمعت أمرك، وعرفت قدرك، لا أملك إلا الاستجابة لطلبك، خصوصاً وقد علمت ما فيه من مصلحة في تعليم الجاهل، وإقامة الحجة على أهل الباطل.
ورغم أن نهجنا، في كل هذه الحكايات الرمزية، ظل يعتمد على استخدام قصص حيوانية، إلا أني ــ وليسمح لي الملك الجليل ــ أود هنا التمثيل، بقصة واقعية حدثت بعد عام الفيل، بحوالي ألف وخمسمائة عام، لولد خامل الذكر خام، كبر ونما بعد كل هذه الخسوفْ، وأدرك زمن الرويبضة المعروفْ، فصار يشار إليه بالبنانْ، بفعل أناس من على شاكلته من أهل الخيبة والخسرانْ، فصدق نفسه الخسيسةْ، وصار يدس على كل دسيسٍ من أتباعه دسيسةْ، مهمتها كتابة التقارير البلهاءْ، لاستخدامها للإضرار بخلق الله من العقلاءْ، مما أدى به نهاية الأمر إلى الوقوع في جُبّ الحزَنْ، واللطم على الخدود وانتظار الإدراج في الكفَنْ.
وهنا زمجر دبشليم الملك، من لكاعة بيدبا الفيلسوف وتطويله في الكلام، فقال بصوت تهتز له الجبال:
والله أيها الملعون الخسيسْ، من شرطة إبليسْ، لئن لم تنته عن استنفاد صبري، بسجعك السخيف هذا، وتطويلك في حبال الحكاية إلى هذه الدرجة المملة، لأقطعن رأسك، ولأقاطعن جنازتك، ولأتهمنك بالجاسوسية، كما فعل قابيل، بابن أخيه المقتول هابيل، عندما سلمه لأعدائه، وتركهم يقتلونه شر قتلة، لأنه كان يكره أباه من قبل، عملاً بالمثل القائل: عدو جدك ما يودك. فانطق أيها الفيلسوف المشؤومْ، قبل أن أقطع منك هذا البلعومْ.
وعلى الفور انبرى بيدبا الفيلسوف قائلاً، وقد هيجه الشوق:
أي مولاي. وهل بلغتك قصة هذا الخسيس الجبان، الذي تسبب في مقتل ابن أخيه ظلماً وغدراً، حتى يفوز بثناء من ينفعهم ثناؤه؟!. إنك لواسع العلم إذن، وأنا الذي ظننتك غبياً كالزعيم المخلوع، الذي رماه الملك إلى صندوق القمامة، بعد أن استنفد منه كل أدوات مكره وإضراره بالناس.
فزأر دبشليم الملك في بيدبا الفيلسوف قائلاً:
أو بلغت بك الوقاحة أن تنعتني بالغباءْ، يا أخس من عرفت من الفلاسفة البلهاءْ!. والله لولا أنني متشوق لسماع قصة صديقك الحقيرْ، لجعلت رأسك يطيرْ. قل يا ابن الوسخة، قبل أن أرسل لأمك من جنودي من يغتصبها. هيا قل، ولا تضيع وقتي في الهزل.
فقال بيدبا الفيلسوف:
اعلم يا ملك الزمانْ، أنه كان في سالف العصر والأوانْ، شخص رديء الطبع، حقير المنبت، يحذر الجيران أبناءهم من مجرد المرور من أمام منزله، لما اشتهر عنه من دناءة ورداءة وحقارة. ورغم أن هذا الولد كان قميء الخلقة، رديء الصورة، مخروطي القامة مثل سروة جافة؛ إلا أنه يمكن القول ــ والحق يقال ــ أنه قد امتلك قدرة فائقة على إيذاء الناس، بشرط أن تتوفر له القوة الحامية. فلما رأى الفتى أن ذلك كذلك، قال في نفسه: لم لا أنضم إلى جماعة من هذه الجماعات، التي تجوب الطرقات، لعلي أجد في الانتماء إليها قوة تعينني على إدراك أربي، وبلوغ طلبي، وسط هذا المجتمع الذي لا يحترم الضعفاء ومقطوعي الأصلْ؟. وبالفعلْ، عرض الفتى نفسه على إحداها، فقبلت به بشرط أن يكتفي من الغنيمة بالفتات، ومن العمل بكتابة التقاريرْ، ومهاجمة من لا يستجيبون لطلبات الجماعة في فعل العيوب والمحاذيرْ. فوافق الفتى الموهوبْ، وقد أحس من نفسه الكفاءة في تنفيذ المطلوبْ. وصار يدلع لسانه على خلق الله. فإذا ما تناولوه بالصفعاتْ، كان على الجماعة أن ترد عنه وتزيد الكيل كيلاتْ، إلى أن جاء وقتْ ضجت فيه الجماعة من كثرة مشاكلهْ، وطلبت منه الالتفات إلى الخاص من مشاغلهْ. فانقمع وانخرس، حيناً من الدهر وانكبسْ.
ومضى الزمانْ، ومات العديد من زعماء الجماعة الفرسانْ. وكلما تصارع أسدان منهما على الزعامة، كان الفتي ينأى بنفسه عن المعركة في الظاهر، ليعلن تأييده للفائز في نهاية المطاف، مدعياً بأنه اكتفى بانتظار النتيجة المضمونة لصاحبه، الذي صار الآن صاحبه في البليةْ، بعد أن أصبح ذات ليلة رئيس بلديةْ.
وظل كبار الزعماءْ، يقبلون منه هذا الاستخذاءْ، ويصفعونه على قفاه في نهاية كل أمر يوجهونه إليه. إلى أن جاء من الأزمان عصر احتاجوا فيه إلى لسانهْ، فتقدم إلى حَينه في ميدانهْ. وقد أدرك بحس الحرباءْ، وغريزة الجبناءْ، أن فناء الزعماء المتصارعين، سوف يتيح له الادعاء، أمام من لا يعرفونه من الجيل الجديد، بأنه بقية العظماء الذاهبين. فقدموه عليهم، وصار زعيماً فيهم. وصدر المرسوم السلطاني بتوليته زعامة الجماعةْ، على أن يكون كالنعامةْ، ويقدم للسلطان من الخراج ما كان يقدمه أهل الفهامةْ.
وهنا قال دبشليم الملك مقاطعاً، وقد هيجه الشوق:
قل، لا فض فوك أيها الفيلسوف العظيم.
فقال بيدبا الفيلسوف:
يا لك من ملك سريع التبدل بالكاملْ، وتشبه ذلك الزعيم الهاملْ!. أهكذا عدت الآن إلى تسميتي بالفيلسوف العظيمْ، وقد هددتني قبل قليل باغتصاب أمي يا دبشليمْ؟!. ما علينا وما لنا وما لها، فكلما علا سدة السلطة شخص ليس مؤهلاً لها، كان حرياً بالناس أن ترى منه ما يخجل من فعل مثله الكلاب ومن مثلها.
ولأن دبشليم الملك كان غبياً أبلهْ، إلى درجة أن ينسيه آخر الكلام أولهْ، فإنه لم يلتفت إلى هذا التعريض الذي لم يفهمهْ، وواصل إلحاحه على بيدبا الفيلسوف، بضرورة الإسراع في إكمال القصة.
فقال بيدبا الفيلسوف:
قلنا، يا مولاي: إن الفتى الخامل تقلد الزعامة. وأول شيء بدأ به هو إصدار الأوامر باعتقال كل الأخيارْ، ممن يرفضون الركوع لموكبه المارْ، إلى أن امتلأ السجن بالبسطاء الذين كانوا من قبل يدفعون الضرائب. واتسعت البلاد للعيارين والشطار، وكسدت الأعمال، وبارت التجارة، ولم يعد شيء متوفراً بين أيدي الناس، ليتمكن العيارون من سرقته. وشح الخراج، حتى انعدم الدخل، ولم يعد يدخل من هذه الولاية على بيت المال شيء. الأمر الذي حدا بالسلطان الأعظم، إلى عزل الزعيم الهامل، ثم عرضه للمحاكمة، التي قضت بإجلاسه على خازوق لا يقتل، ولا يدع الحياة تتسرب.
وهنا هتف دبشليم الملك من فؤاد مقروح:
وماذا جرى بعد أيها الفيلسوف الحكيم؟.
فرد الفيلسوف بيدبا:
لا شيء يا مولاي. إلا أن ظل الزعيم الهامل معلقاً فوق الخازوق، لا يقدم له من الطعام إلا ما يكفي لإبقائه على قيد الحياة. وبعد سنوات نسي الناس قصته، ومات السلطان الأعظم. فنزل الهامل من فوق الخازوق ذات ليلة، وهرب في بلاد الله الواسعة، وأصبحت قصته أحاديث تروى، للعبرة والاعتبار، ليدرك من خلالها كل من له ذرة من العقل، أن قليل الأصل لا ينفعه علم ولا مال. وأن رذل الأخلاق لا يستطاع إصلاح حاله، إلا من خلال إجلاسه على الخازوق. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وتوتة توتةْ، فرغت الحدوتةْ. فرغت الحدوتةْ، فرغت الحدوتةْ. اللهم لا تعدها علينا فقد كانت قاسية وملتوتةْ.
ثم تنفس بيدبا الفيلسوف الصعداء من شدة الراحة، وقال لدبشليم بكل صراحة:
والآن فلترفع معي يديك ـ أيها الملك العظيم ـ إلى السماء، لندعو الله أن لا يصيب الناس بمثل هذا البلاء، في أي يوم من الأيام.
وعلى الفور رفع دبشليم الملك يديه، وصار يؤمن على دعاء الفيلسوف، الذي صار يقول بضراعة شديدة:
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، واحمنا من شرور زعماء السوء، الذين لم يعد لهم وجود في بلدك المباركة.
اللهم ألهم الزعماء اختيار وزراء خير، يرأفون بعيالك، ولا يتسلطون عليهم بسيف السلطان، لينالوا منهم ثأراً قديماً. لأن عدد الوزراء اليوم كثير، في حين أن عدد المواطنين قليل. فماذا أفعل يا رب، إن سلطت علي وزيراً كنت أصفعه على قفاه في الماضي، وماذا سيفعل بي الآن، وقد صار يستقوي علي بسلطة جاءته لطول ما تعود من الاستخذاء؟.
اللهم اجعل وزراءك خيرين، ولا تسلط عليهم البواسير، ولا تجعل وجوههم بشعة، ولا تجعل أخلاقهم مرذولة، ولا تجعلهم يطمعون في أموال هذا الشعب المسكين، وأعمهم عن إصدار أوامر القتل ثم استنكارها، وألهم أهل منطقتهم حبهم وانتخابهم، ليصبحوا أعضاء في البرلمان، خصوصاً من سقط منهم في الدورة الماضية.
اللهم أعط وزراءك مالاً يشبعهم، وعافية لا تقصر بهم عن التمتع بالنساء؛ لأن التمتع بالنساء يفرغ طاقة الغضب، ويمنح القلوب سكينة لا يعرفها المعنونون، فلا يعودون يتحسرون على ما لا يدركونه من النعم.
اللهم آمين. وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين.