المقدس والبشري والهوية في القدس وبشأنها: علاقة متوترة

د. وليد سالم – فلسطين

القدس هي أرض مباركة مقدسة، ولكنها أيضا أرض معاش لفلسطينيين مقدسيين هم أيضا جزء لا يتجزء من الشعب العربي الفلسطيني . اذن نحن امام حالة ثلاثية هي المعاش، والمقدس، والهوية الوطنية. فكيف تبدو هذه الثلاثية في القدس، ومن وجهة نظر الفلسطينيين خارج القدس، ومن وجهة نظر العرب والعالم الإسلامي والعالم بأسره ؟

في القدس لا يعاني المقدسيون من انفصام بين المقدس والمعاش والهوية الوطنية، فالمقدس الإسلامي والمسيحي لديهم هو دين يمثل جزءا من هويتهم الوطنية الفلسطينية، وهو ايضا معاش يرتبط بحياتهم اليومية وعلاقتها بالمكان . لذا يتشكل هنا ثالوث مركب من الديني والوطني والمعاش يمثل نسيجا واحدا لا تناقض بين مكوناته .

وإن كان للمقدسيين مشكلة فهي في جانب المعاش وحسب في علاقته بالوطني ، وتتمثل هذه المشكلة في الخلاف بين بعض القائلين وهم أقلية محدودة بأن التجنس بالجنسية الاسرائيلية هو الوسيلة الوحيدة لحفظ المعاش على مدى استراتيجي في المدينة كما يرى بعضهم، وحتى لحفظ الهوية الوطنية الفلسطينية كما يرى بعض آخر منهم مدللين على رأيهم بتجربة فلسطينيي الداخل الذين لم يكبح فرض الجنسية الاسرائيلية عليهم هويتهم الوطنية الفلسطينية وانما عززها وقواها.

ومن جهة أخرى هناك الموقف الآخر الممثل للغالبية الذين يستخلصون من واقع التجربة المعاشة ودروسها أن تثبيت الوجود الوطني في المدينة وتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية في القدس أمر غير ممكن بدون الكفاح الشعبي اليومي المستدام والمثابر لحفظها ، من أجل الحماية من الاقتلاع والترحيل.

في الوضع الخاص للقدس فإن المعاش ليس ممارسة مناقضة للوطني ، وليس تكيفا مع الواقع الذي فرضه الاحتلال، بل هو صمود وتثبيت للوجود الوطني في المدينة ، ليس فقط من أجل منع الترحيل ، ولكن أيضا من أجل بناء الرأسمال البشري الفلسطيني في المدينة وخلق سيادة شعبية فيها تواجه السيادة الرسمية المفروضة إسرائيليا.

وبعكس فلسطينيي ١٩٤٨ لم يتم فرض الجنسية الإسرائيلية على المقدسيين ، ولكن تم طرحها كخيار مع تصعيب إجراءات الحصول عليها علما أن إقبال المقدسيين على الحصول عليها محدود ايضا لدوافع وطنية، لذلك لم تحصل على الجنسية الاسرائيلية سوى أقلية.

كما أن الأسرلة الكاملة لكل المقدسيين مستحيلة بسبب التبريرات الديمغرافية الصهيونية المعروفة والرفض الوطني الفلسطيني . وكذلك فإن التأسرل ليس خيارا حتى ولو طرح رسميا كذلك من قبل إسرائيل، حيث لا تريد الصهيونية للمقدسيين أن يتأسرلوا، وستستمر في رفض حقوقهم الجماعية حتى لمن يحصل على الجنسية الإسرائيلية من المقدسيين.

لهذا كله يصبح الكفاح اليومي ضمن المعاش هو حفظ للوطني وتركيم لإنجازات بناء استقلاله من القاعدة . وضمن المعاش يقع ايضا الكفاح اليومي لحماية الأقصى وللأماكن المقدسة، وحماية سلوان والشيخ جراح وغيرهما من الترحيل. وهكذا فإن المعاش والديني والوطني ترتبط في القدس معا في ثلاثية لا تنفصم.

يجد المرء في مخيال الفلسطينيين سواء في الوطن وبلدان اللجوء أو الجاليات الفلسطينية في العالم ، حيث القدس خارج المعاش اليومي أن ارتباطهم بها لا يعاني من تناقض بين المقدس والوطني، فالقدس بالنسبة لكل الفلسطينيين هي المقدس الطاهر المبارك ، ولكنها أيضا هي مركز فلسطين الوطني والجغرافي بسبب دورها الواصل بين شمال الضفة وجنوبها، وموقعها الوسط بالنسبة لفلسطين ككل كما كان عليه الحال قبل عام ١٩٤٨، حيث كانت القدس ايضا مركز الحركة الوطنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بامتدادها منها نحو يافا الميناء البحري الذي شكل بوابة فلسطين على العالم، ولذلك لم يكن صدفة أن قام يوسف ضياء الخالدي رئيس بلدية القدس عام ١٨٦٣ بشق طريق واسع للعربات بين القدس ويافا في ذلك الوقت، حينما كانت القدس مدينة تسامح بين كافة مواطنيها العثمانيين بمن فيهم المسلمين والمسيحيين واليهود الفلسطينيين في فترة ما قبل الصهيونية المعاصرة.

وإذا لم تكن القدس مركزا وطنيا ومقدسا في آن معا ، فلماذا إذن يتعامل معها كذلك كل الأجيال الفلسطينية التي ولدت في الخارج، أو ولدت في الداخل منذ عام ١٩٩٣ وهو عام فرض الإغلاق على المدينة في نهاية آذار منه ؟ لم تر هذه الأجيال القدس ابدا، ولكن ارتباطها الوثيق بها كمركز ديني ووطني لا سابق له ، فهي الصمغ اللاصق الذي يربط كل الفلسطينيين معا والدي يحسون أن لا معنى لهويتهم بدونها.

ولعل التوق الجارف للصلاة في أماكنها المقدسة إسلامية ومسيحية هو بالنسبة للفلسطينيين تجسيد للهوية الوطنية ولا يكتسي طابعا دينيا وحسب. اللهم أمنحني ركعة في المسجد الأقصى . اللهم نولني زيارة كنيسة القيامة.

هكذا يدعو الفلسطينيون في ابتهالاتهم في وقت لا يكون في أذهانهم أي فصل بين المقدس والوطني، فالقدس بالنسبة لهم تحمل البعدين بصورة طبيعية وبديهية تلقائية تتغلغل في وجدانهم وذاكرتهم التاريخية الجمعية المتكونة منذ قرون طويلة والمتوارثة أبا عن جد .

ومن الظواهر الاخرى اللافتة بعد عام ١٩٦٧ ، هو اندماج فلسطينيي الداخل بالقدس، قسم منهم من خلال المعاش والعمل فيها، وقسم آخر من خلال القدوم للصلاة فيها في أيام الجمع والآحاد ، وما يرافق ذلك من تسوق من المدينة . وفي العقود الاخيرة بات يوم السبت هو يوم إضافي للصلاة والتسوق والسياحة لهم في القدس، كما أصبحت أيام شهر رمضان هي أيام تواجد يومي لهم في المدينة.

تستعيد القدس بهذه الطريقة مركزيتها لفلسطين كلها التي كانت عليها قبل عام ١٩٤٨. لذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن تلعب القدس دورا في إعادة توحيد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، فانتفاضة عام ٢٠٠٠ التي بدأت باقتحام شارون للأقصى، ولدت هبة اكتوبر في الداخل الفلسطيني التي استشهد خلالها ١٣ فلسطينيا منهم وجرح العشرات.

كما شارك فلسطينيو الداخل في هبة باب العامود هذا العام، واعلن محمد بركة رئيس لجنة المتابعة لفلسطينيي الداخل إضراب يوم الثلاثاء الكبير في ١٨ أيار هذا العام والذي شارك في فعالياته كل الفلسطينيين في أنحاء الوطن والشتات.

وشاركت كل الجماهير الفلسطينية من الداخل في إضرابات ومظاهرات تضامنا مع القدس والشيخ جراح المهدد بالترحيل، وكذلك شارك فلسطينيو الخارج وجذبوا معهم كل قوى التضامن مع فلسطين في قسم كبير من دول ومدن العالم.

وقبل الانتهاء من نظرة الفلسطينيين للقدس، يجدر التنويه إلى غزة ، وبالذات إلى حركة حماس ، فقد راجت لفترة طويلة أقوال حول امكانية نشوء كيان تقوده حماس في غزة ويمثل حلا نهائيا للقضية الفلسطينية. ولكن الهبة الاخيرة وما ترتب عنها من مشاركة من غزة ليست إلا مثالا عن الارتباط العضوي بين الإسلاميين الفلسطينيين وبين القدس.

لا ندخل هنا في النقاش المشروع حول أيهما أجدى وأقل كلفة وتسببا بالمعاناة: إطلاق الصواريخ أم الكفاح الشعبي، ولكن نكتفي هنا بذكر أن مشروع الإسلاميين لا يمكن أن يسقط القدس من حساباته ويقبل بحل نهائي بدونها، فالقدس عند الإسلاميين هي جزء من العقيدة. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي لفت المفكر العراقي هادي العلوي الانتباه إلى حقيقة أن التنظيمات الإسلامية تحمل أجندة إسلامية هي غطاء لأجندة وطنية تحررية وبدون تناقص بين الاثنتين.

وعلى عكس الاتساق الفلسطيني في موضوع الربط بين ثلاثية المعاش، والمقدس، والهوية الوطنية لفلسطينيي القدس، وبين ثنائية المقدس والهوية الوطنية للفلسطينيين من خارج القدس. فإن العالم العربي والإسلامي يشهد اضطرابا بهذا الخصوص.

فدول الخليج التي طبعت مع إسرائيل رسميا العام الماضي اعطت المقدس أولوية إلى درجة أرادت معها منح مواطنيها حق الصلاة في الأقصى من خلال البوابة الإسرائيلية. وعبر ذلك بدوره عن توجه تناقض ليس فقط مع الوطنية المقدسية ، بل انطوى أيضا على ضرب لحق المعاش الفلسطيني في المدينة.

تصرف الإماراتيون في هذا الإطار على أساس أن إسرائيل هي مالكة مفاتيح المدينة وتجاهلوا ملكية أهلها المقدسيين الفلسطينيين التاريخية لها وبوصفها ايضا مكان معاشهم. وبهذا سعوا لتطبيق حقهم في زيارة المقدس واقامة الشعائر الدينية فيه على حساب الوطنية والمعاش الفلسطينيان واكتفوا ببعض الدعم المالي على شكل فتات للمقدسيين وكأن هذا الدعم الخيري كاف لتجنب تأنيب الضمير الناجم عن تجنب دعم الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل الاستقلال والمساهمة فيه .
لهذا السبب أعلاه ، يمكن الشك بقسم (قسم وليس كل إذ أن قسما آخر يقوم بذلك بحسن نية) ممن يكثرون من عرض صور الاماكن المقدسة في القدس، ويكثرون من تمجيدها وعمل الدراسات حولها لوحدها، وكأنه لا قدس خارج الأماكن المقدسة ولا وجود لشعب يعيش فيها ويعتز بهويته الفلسطينية ويستحق البحث في تاريخه وتراثه وحياته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مسوغين بذلك الوصول إليها عبر البوابة الإسرائيلية.

وتستحيب أطروحات كهذه للطرح الصهيوني المعروف تاريخيا ، حيث سعت الحركة الصهيونية منذ بزوغها إلى طرح سيطرة الصهيونية ولاحقا إسرائيل على الأماكن المقدسة في القدس وجعل اسرائيل هي المنظم لحرية العبادة من كافة الأديان إليها، مع ما يدر ذلك من مداخيل هائلة للاقتصاد الاسرائيلي.

الأردن من جانبه تجاوز هذا المطب حيث لم يعتبر الاعتراف بالولاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس كما ورد في اتفاقية السلام الاردنية الاسرائيلية لعام ١٩٩٤، بديلا عن المطالبة الدائمة بالقدس الشرقية لأن تصبح العاصمة المستقبلية لدولة فلسطين. كما أن مصر قد حاولت مرارا وتكرارا إدراج موضوع القدس في مفاوضات كامب ديفيد مع الاسرائيليين وإن لم تستطع تضمين القدس في نص الاتفاقيات بسبب الرفض الإسرائيلي.

على المستوى العربي – الإسلامي- الدولي الرسمي، وخارج موقف الفاتيكان الذي يعطي الأولوية للقدس كمقدس ، لا يزال. المرء يجد الانفصام بين الموقف السياسي الداعي لحل تفاوضي بشأن القدس يؤدي إلى إقامة عاصمتين فلسطينية واسرائيلية فيها مع احترام الحق في حرية العبادة، وبين الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في المدينة الذي يغلفه الصمت لدى البعض ، فيما يقوم بعض آخر بالاكتفاء ببيانات الاستنكار والتنديد للممارسات الإسرائيلية في المدينة بدون القيام بخطوات جادة أو اتخاذ إجراءات تؤدي الى وقفها .

في الخلاصة ، تتبين الحاجة إلى النظر للقدس من أولئك الذين خارجها على أنها تشمل المقدس ، ولكنها تشمل أيضا أناسا لهم حق المعاش والحق في الأمن الإنساني بما هو تحرر من الخوف وتحرر من الفاقة حسب تعريف الأمم المتحدة له ، كما أن لهم الحق في ملكية مدينتهم أبا عن جد ، ولهم الحق في تجسيد هويتهم الوطنية الفلسطينية.

من تجربة العمل في الأبحاث العربية والفلسطينية عن القدس منذ عقود ، فإن ما وجدته حتى الان هو غلبة الدراسات المكتوبة في العالمين العربي والإسلامي عن القدس كمقدس عما عداها . كما أن صور أغلفة المجلات ذات العلاقة بالقدس تقترح تلقائيا وبدون إمعان نظر لتكون ذات صلة اساسا بالمقدس . فلسطينيا وعند بعض الأكاديميين العرب ليست الحالة كذلك إذ توجد دراسات متنوعة عن القدس كمقدس وتاريخ ماض وحاضر.

المطروح هنا ليس وقف التركيز على المقدس في الدراسات عن القدس ، ولكن هو وضع المقدس أيضا في إطار كونه بالنسبة للفلسطينيين جزءا من هويتهم الوطنية وتاريخهم وذاكرتهم، وجزءا من عروبتهم وانتمائهم للأمة العربية ، وإلا أصبح التركيز على المقدس وحسب تسويغا غير مباشر لما يدعى على أنه ” حق” الوصول إلى المقدس في القدس حتى ولو كان ذلك من خلال البوابة الاسرائيلية كما يفعل المطبعون العرب الجدد.

من جهة أخرى يجدر التركيز في الدراسات والإعلام على معاش المقدسيين الفلسطينيين بكافة جوانبه الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وحقهم كمالكين اصليين للمدينة مكانًا وارضا واقليما وفضاءا ومشهدا ، وحقهم في الأمن الإنساني وفي تجسيد هويتهم الوطنية فيها . وللأسف يوجد نقص فادح في هذا النوع من الدراسات المعاصرة عن القدس ومقدسييها العرب الفلسطينيين عربيا واسلاميا .
الى جانب ذلك فإن مسيرة طويلة من العمل تقف أمامنا لتحويل المواقف العربية والدولية من القدس من مجرد إصدار بيانات التنديد والتضامن إلى الفعل على الأرض من أجل تحرير القدس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى