الإسلام وحقوق المرأة
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
لم يكنِ الإسلام يومًا مجرَّد شريعة بُنيت على الطقوس الدينية والعبادات، واعتمدت على الفرائض والنوافل والأركان، ولم يكن قاصرًا أبدًا على شرائع الصلاة والصوم، والصدقة والزكاة والحج، وأحاديث الثواب والعقاب، وما في الدار الآخرة من جزاءٍ وحسابٍ، ولم يقتصر على ما ورد في القرآن من جنَّةٍ ونار، وتشريعات تنظِّمُ للمرءِ أمور دينه، وتذكِّره فقط بطاعة ربه.
ولكن الإسلام إلى جانب هذا جاء بمنهج تكافلٍ اجتماعي متقنٌ بناؤه، محكمةٌ قواعده، متينةٌ أركانه، قويَّة جوانبه، مكتملةٌ مناحيه، جاء حتى ينظِّم أمور حياتهم اليومية، ويتمم أمورهم الدنيوية، ويضبط أمورهم الأخلاقية، ويضع أُسسًا اجتماعية وتربوية تعين المرء حتى يُمنح قُبلةً للحياة، ويربح في النهاية دينه ودنياه، وليس صحيحًا أن الإسلام لم يُعْن بأمور الدنيا وزينتها، أو أنه حرَّم ما لذ وطاب منها، وما يحتاج المرء حتى حتى يحيا ويعيش يومه، وقد قال الله تعالى ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ)[1] إنَّما حرم فيها فقط الفواحش وما قد يَشغلنا عن الآخرة، ويصرفنا عن طاعة ربنا، فنعيمها حلالٌ ما كان في غير ترف، مباحٌ دون تفريطٍ ولا سرف.
وقد اهتم الإسلام بحقوق الإنسان، ونظم أموره الأسرية، ووضع أُسسًا لظروفه الحياتيه، واهتم بالجوانب الأخلاقية، ووضع ركائزًا حتى للتعاملات المالية، فأحلَّ البيع وحرم الرِّبا ووضَّح الحقوق، وأمر بأخذ أسباب الرقي والتطور بلا إبطاء ، وشجع العلم وأيَّد العلماء، وقد قال تعالى (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[2] ولم يغفل كذلك عن أمور السياسية والحكم، وتلبية حاجات السلطة، ولم ينصرفْ عمَّا يقوم ببناء الدولة، إذ أمر بالشورى والرحمة، وأوصى بالعدل والرأفة، وشدَّد على المساوة والقسط.
وقد عُني الإسلام بالمرأة، فكرَّمها وأعلاها، وعظَّمها وحفظ منزلتها، وصانها ووقَّرها، وشرَّفها ومجَّدها، فرفع عنها الظلم، وأزال ما يقع عليها من ضيم، وأوصى بالنساء خيرًا حينما قال الرسول عليه الصلاة السلام ” استوصوا بالنساء خيرًا فإنَّ المرأة خُلقت من ضلع أعوج ” فلم يُنقص من حقوقها، ولم يبخس أبدًا نصيبها، ولم يجعلها مجرَّد وسيلةٍ يقضي منها الرجل حاجته، أو منفعةً لبلوغ غايته، إنما كرَّمها زوجةً وبنتًا، وأختًا وأمًّا، وروحًا وقلبًا.
كرَّمها بنتًا حينما ضاعف بركة ولادتها، وجعل السعة في وجودها، فقد قال رسول الله ” من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين “ولم يكن ذلك الفضل عبثًا، ولا مُنحت تلك المنزلة هزلاً، ولكن لأنَّ الله يقدِّرُ ما بتربية الفتاة من تعبٍ لا ينتهي، ومشقَّةٍ لا تنقضي.
كرَّمها زوجةً حينما أوصى بها زوجها، وألزمه النفقة عليها، ومنع إهانتها وإيذاءها، وجعل رعايتها شرفًا، وحسن معاشرتها فضلًا، وظلمها عارًا وتلفًا، ووضع ما وضع من قوانين في إرثها وزواجها، وحياتها ومعاملاتها، ما يضمن حقَّها، ويحفظ حياتها، ويصون كرامتها، ولم يكن ذلك أيضًا عبثًا، ولكن الإسلام يقدِّر ما تبذله الزوجة من أجل رعاية زوجها، وحفظ أسرارها، وصيانة بيتها، وتربية أطفالها، حتى تجعل بيتها جميلا، وعالمها سعيدًا، وهذا كله يأتي على حساب صحَّتها، ويأخد من عنفوانها وشبابها.
كرمها أُمًّا حينما جعل فضلَ برِّها ثلاثة أضعاف برِّ الأب، فكانت بذلك مقدَّمَةً عليه قدرًا، وأعلى منه رتبةً، وأتمَّ منه منزلةً، وقدَّم برَّ أهلها على برِّ أهل الأب وقد قال نبي الإسلام حينما سُئل عن أولى الناس بالبر “أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك” فجعل برَّها بابًا واسعًا لبلوغ الجنة العليا، وبركة يُستفتح بها خير الدنيا، ولم يكن تقديم برها من باب العبث أو من محض الصدفة، ولكن لأنَّ الله قدَّر أن تحمل الأم ابنها كرهًا، وأن تضعه كُرهًا، وقدَّر ما تلقاه من تعب الرعاية، وما تتكلفه من الرضاعة، وما تعانية من سهر ومشقَّة، وتلقاه من سُهْدٍ ومضرَّة، وما تبذله من صبر، وما تلقاه من ولدها من هجر، على ما بها من ضعف.
وكرَّمها رُوحًا حينما قدَّر مشاعرها التي تغلب عقلها، وراعى أحاسيسها التي غلبت على منطقها، وجعل لها قلبًا يعفوا، وروحًا تصفوا، فاستحقَّت تلك المكانة إدراكًا من المجتمع أن شخصية الرجال هي في النهاية من نتاج تربية النساء وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” لا يفرك (لا يبغض) مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر”.
إن هؤلاء الذين يعبثون في حقوق المرأة وواجباتها، ويتكلمون فيما شرَّع الله لها، وما قدَّره عليها، إنما في النهاية لا يصيبون شيئًا من حقوق من دافعوا عنها، أو زعموا السَّعي في تحقيها، وإنما بغيتهم الحقيقة تدمير المجتمع، وإفساد الأسرة، والطعن في الدين، ومن شأن تلك الدعوات اللادينية الضالة أن تدمِّر المجتمع فتهدم لبناتِه، وتزعزع أركانه، فتنهار مبادئه، وتضيع أخلاقه، فكم شاهت وجوههم، وساءت أعمالهم، وتلطَّخت بالسواد نواياهم، يفسدون بدعواتهم لـ”تحرير المرأة” مجتمعهم، ويحاربون دينهم، فكانت المرأة من دعواتهم هي الخاسر الأكبر، فبئس ما يفعلون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
إنَّ هؤلاء الذين يعترضون على أن الله جعل للأخ ضعف ميراث أخته قد ساءت أقوالهم، وفسد دينهم، واضطربت عقيدتهم، فهؤلاء نظروا إلى هذا نظرةً جزئيةً ناقصةً، قاصرةً عمياء عاجزةً، ونسوا ما يرافق ذلك من بنود وقيم تعدل ما زعموا أنه نقص، وأحالوه من جهلهم إلى غير العدل، فإن كان الله قد أعطى للرجل ضعف المرأة في ميراث الأخوة، فإنَّه أوجب في المقابل عليه الإنفاق من أجلها، وكلَّفه برعايتها وأوصاه بها، بل إنه جعل للبنت ضعف نصيب أبيها إذا ماتت أمُّها، وفي حالات ترث المرأة كالرجل وربما زيادة انصافًا لحقِّها، وحفظها لما لها، إذ أن التمايز بين الرجل والمرأة في المواريث له حِكَمٌ ربانية، ومقاصد إلهية، خفيت على البشر فلا يدركون حقيقتها، ولا يعرفون أسبابها، وتغييرُ شيءٍ منها دون رضى الله عبثٌ فادحٌ، وخطأٌ فاحشٌ، من شأنه أن يهدم النسيج المجتمعي المتين الذي بناه الإسلام، وبيَّن أحكامه وأسَّسه القرآن.
وانتشرت في الآونة الأخيرة في هذا المضمار دعوات نسوية تطالب بأن تستحوذ المرأة على نصف ثروة الرجل حال طلاقه منها، وانفصاله عنها، ومثل تلك الدعوات الهدامة، وتلك الأقاويل المنبطحة، من شأنها أن تُفسد المجتمع، وتحطِّم الأسرة، وتزرع بينها الشقاق والمفاسد، فتنتشر الرذيلة، وتنكشف العوارات، وتعظم البليَّة، وتستفحل الرزيَّة، وتكثر النزاعات بين الأسرة، فتُختلق الأزمات بين الرجل والمرأة، فيما ظنوا أنه يحقق العدل، ويبلغ الغاية، إذ أن هذا قد يشجع الطلاق بغية الطمع، ويخرب البيوع وينشر فيها الفزع، ولو نظر هؤلاء قليلاً إلى شريعة الإسلام بشيءٍ من التمعُّن، وقليلٍ من التدبُّر، لوجدوا أنَّ الإسلام قد انتبه إلى تلك الحالة وفرض على الرجل لطليقته نفقةً مكتوبةً، ومبالغ محفوظةً، حتى يحفظ حقَّها ولو بعد طلاقها، دون أن ينحرف هذا الحق ويدفعنا إلى مفسدةٍ يُخشى أثرها، ويستحيل علاجها، وهو إطار محكمٌ، ونمطٌ دقيقٌ متقنٌ، هو كالبناء المرصوص الذي إذا انتُزعت منه لبنةٌ انهار حطامًا، واشتعل ضرامًا.
وهناك من حاول أن يقحم نفسه في تغيير شريعة الله فيما يكون من معاشرة زوجية زورًا وبهتانا، وجهلاً وإفسادًا، ويمنحون للمرأة حق الامتناع بمجرد الرغبة عن تلبية حاجة زوجها، فقط إن لم تتفق رغبتها، فيما يسمونه جهلا بـ”الاغتصاب الزوجي” ومثل تلك الدعوات الهدامة من شأنها أن تحرم الرجل حقوقه، وتصدم حياته وحاجته، وذلك بإجباره على تنفيذ ما عليه، وحرمانه من حقوقه التي له، وما يجر على الأسرة من مفسدةٍ عظيمةٍ، ومهلكةٍ موبقةٍ، ثم يتبعون دعواتهم تلك بمطالب تدفعها إلى تحدي زوجها ومعاندته، وعصيانه ومعارضته، ولو نظر هؤلاء إلى دينهم الذي تركوه لعلموا أنَّهم يدفعون المرأة إلى ما يسمى بالنشوز وهو عند الله ذنبٌ عظيم، وإثمٌ كبير، ولو تمعَّنوا في شريعتهم لوجدوا أن الإسلام قد انتبه لمثل تلك الأمور فبنى العلاقة بين الزوجين على المودة والرحمة، وأُسُسِ التفاهم والرأفة، وقد قال تعالى (وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ)[3] وما أقرَّه الله فيه ما يحقِّقُ حقوق الزوجين، ولا يأتي على حساب أحد الطرفين.
لقد بنى الإسلام حقوق المرأة والمجتمع على أساس قويم، ومبدأ متينٍ، ومنهجٍ متكاملٍ شاملٍ يفي بالتكافل الاجتماعي الذي استهدفه الإسلام، والمساس ببندٍ من بنوده، والطعنُ في أصلٍ من مبادئه، يهدم ذلك المبنى الذي حفظه الإسلام طيلة قرون، وإنَّ الدعاة إلى حقوق المرأة ممن خرجوا عن إطار الدِّين فاستظلوا بغير مظلَّته، واحتكموا إلى غير شريعته، إنَّما هم يحاربون الدين ويفسدون المجتمع، ولا تربحُ الأمة منهم إلا إفسادًا للدين ومحاربةً له، وطعنًا فيه وخروجًا عنه، وتأسيسًا لمبدأ العلمانية اللادينية التي لا تعترف بالأديان، ولا تتفق مع الإسلام، وهو ما سيُفضي في النهاية إلى تدمير المجتمع ونسف قوَّته، وتحطيم نسجه وتمزيق وحدته، وتشغله بالاستقطاب والجدل في قضايا معقدة لا يحسمها إلا القرآن، ولا يحلها غير الإسلام، فتُنتهك حرمته، وتُنتسف وحدته، وتُزرع فيه بذور الشقاق والخلاف، والضياع والإسفاف، وتجعله ضحيَّةَ لما يقع فيه من صراع، وما يصيبه من نزاع، ليشتعل الانهيار الأسري وتتحطَّم تلك اللبنة التي يرتكز عليها المجتمع، وتتربَّى على سلامتها الأجيال، إذ أن دعوات أولئك لا يمكن أبدًا أن تحلَّ محلًّا أفضل من الدين وما شرَّعه الله فيما يصون المرأة، ويحفظ الأسرة جيلاً بعد جيل.
وإذا أردنا حفظ حقوق المرأة والعناية بكرامتها، وتلبية طموحها وحاجاتها، فعلينا أن ننظر في هذا دون عن الخروج عن مظلة الدين، ومعارضة نصوص القرآن، فلا خيرَ للمرأة يعدل ما أقرَّه الإسلام لها من حقوق، وفرض عليها من واجبات، وإلا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ.
[2] سورة فاطر 28
[3] سورة الروم 21