السياسة الجنائية.. من امتهان الكرامة إلى عملية الإدماج
المغرب | خاص
في مرافعاته الجهوية التي يبحث من خلالها البدائل العقابية للسياسة الجنائية في المغرب، عقد مركز الدراسات والأبحاث مدى ثالث فعالياته حول الموضوع بمدينة طنجة، بشراكة مع مركز ابن بطوطة للدراسات وأبحاث التنمية المحلية. إذ انصب النقاش، الذي شاركت فيه فعاليات مدنية وجهوية وحزبية من جهة طنجة- الحسيمة، على ممكنات إصلاح القانون الجنائي، خاصة ما يتصل منها بإيجاد عقوبات بديلة للجنح البسيطة.
في هذا السياق، قارب إسماعيل الجباري، المحامي بهيئة طنجة وأستاذ القانون الجنائي، موضوع “السياسة الجنائية بالمغرب بين ممكنات الإصلاح وتطلعات الفاعلين”، على ضوء استقلالية السلطة القضائية. إذ أشار، في مستهل مداخلته، إلى أن الحديث عن الجريمة والعقاب هو رديف للسياسات الجنائية، موضحا أن قاعدة الحقوق والحريات أصبحت تفرض على المشرع الكثير من الوضوح، خصوصا أن المغرب بات يشهد تحولات عميقة، فيما صار بمقدور المجتمع المدني أن يؤثر في هذه السياسات بواسطة المذكرات الترافعية ومختلف الآليات التي أتاحها له الدستور.
من جانب ثان، تحدث الجباري عن كون السياسات الجنائية تقتضي نوعا من الهدوء في صياغتها والكثير من التناسق، مشترطا ضرورة الاستناد إلى المرجعيات الحديثة، لأن مغرب اليوم مختلف عن مغرب الأمس. كما أبرز أن دستور 2011، وكذا الإصلاحات السابقة، أصبح اليوم مرتكزا لا يمكن التغافل عنه. لكنه قال إنه لا يمكن أن نتصور انتكاسة على مستوى الحقوق والحريات وعلى مستوى التجريم والعقاب.وخلص الجباري إلى أن المشرع المسؤول عن صياغة السياسات الجنائية لابد له أن يتقيد بالمرجعيات الأساسية، وهي الدستور والمواثيق الدولية. غير أنه أكد أن المشرع نفسه هو تعبير أسمى عن الإرادة الشعبية ومنه ضرورة الانخراط الإيجابي لمختلف فئات المجتمع في اختيار ممثلين لهم من الحنكة والدراية ما يؤهلهم للمساهمة في عملية التشريع، مشيرا إلى أن التشريعات إذا لم تكن متناسقة مع الحقوق والحريات فإن القضاء الدستوري سيتدخل.
من جانبه، سلطالباحث المختار بنعبدلاوي الضوء على الدراسة التي أنجزها مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى حول توجهات السياسة الجنائية نحو الحد من التجريم والعقاب، بتعريج تاريخي حول فلسفة العقاب وتطوراتها، فكان السؤال المنطلق “ما هي الدرجة المقبولة من العقاب التي تؤدي إلى الادماج الاجتماعي دون إهانة كرامة الإنسان؟” وقد أجاب بنعبدلاوي بالقول إن العقاب، منذ البدايات الأولى لممارسته، كان يروم تنزيل العقاب على الجسد بطريقة تشبه الإبادة. وأشار إلى أن هذا النوع من العقاب، الذي انبنى على السحل والجلد والصلب والحرق وغير ذلك، لم يكن يرمي إلى تحقيق العدالة، وإنما إلى فرض سلطة الحاكم وزرع الخوف في النفوس، مما جعل هذه المرحلة تتسم بالامتهان المطلق لكرامة الانسان وانتهاك الحق في الحياة. فضلا عن ذلك، قال بنعبدلاوي إن العقاب تحول، في حقبة لاحقة، إلى ممارسة الاحتجاز خلف القضبان والأسوار، مشيرا إلى أنه لم يكن يمارس على المجرم فقط ،وإنما أيضا على الحمقى والمرضى. وعدّ المتدخل هذه المرحلة أقل سادية من المرحلة الأولى، لكنه أبرز أنها ظلت، مع ذلك، لا تحقق الهدف الأسمى من العدالة، بل ظلت خاضعة لسلطة الحاكم.أما في المرحلة الثالثة، فقد شهدت سياسة العقاب، حسب رأي بنعبدلاوي،استبدال الاحتجاز بالمراقبة، بما هي تعبير عن المتابعة. وفي هذا السياق، تساءل المتدخل قائلا: “إلى أي درجة يمكننا الحفاظ على الأمن العام وفق الحد الأدنى من الحرية؟” وأجاب بالقول إن فلسفة العقاب انتقلت من إنزال العقوبة المادية بهدف الانتقام إلى عملية الإدماج التي تراعي حالة النساء السجينات مثلا.
وفي الختام، استعرض المختار بنعبدلاوي الخطوط العريضة للدراسة التي أنجزها المركز، مركزا على أمثلة من الجرائم البسيطة التي رصدتها الدراسة والتي تتطلب إصلاحا أو إلغاء، من بينها “التشرد، التسول، إصدار شيكات بدون رصيد، الخ. كما أكد أن الهدف من هذه الدراسة التي أنجزها المركز هو تأسيس شبكة من الفاعلين الجمعويين والأكاديميين من أجل الترافع لإسقاط العقوبات الحبسية على مثل هذه الجرائم البسيطة التي يكون للعقوبة الحبسية فيها أثر سلبي في الأفراد والمجتمع، في حين يمكن معالجتها سواء عبر سياسات عمومية مبنية على محاربة الاقصاء والتهميش، أو من خلال إقرار عقوبات بديلة تكون فيها الفائدة عامة للفرد والمجتمع، وأولها تجنب تشتيت الأسر، وعلى مستوى المؤسسات الحد من الاكتظاظ داخل السجون. وأشار في الأخير إلى أن الدراسة تدعو إلى إعطاء الأولوية لقرينة البراءة دون التوجه نحو الاعتقال الاحتياطي في كل الحالات.