المفكر إدوارد سعيد والقضية الفلسطينية
د. الغزيوي بوعلي – د. ليلى المداني | المغرب
عند ما كنا في الجامعة، كنا نسمع داخل مدرجاتها وفي رحابها “الديمقراطية”, والليبرالية والاشتراكية والحرية والكونية والشمولية’ فهي مفاهيم ومصطلحات تتداخل على السنه الطلبة والطالبات, وكان ماركس والإنجليز وخروتشوف وروزا لوكسمبورك، ولنيين هوشي مين وتروت سكوي وغيرهم، فكنا نبحث في المكتبات وفي مكتبة الجامعة عن هذا الزاد فلا نجده الا بعد جهد جهيد، لذا كنا نحفظ او نقرا او نطبقه في الحرم الجامعي وكانت هذه الاسماء تتصارع في اذهاننا وفي مخيلتنا فنشعر كأننا اناس مختلفون عن العامة، نحمل افكار ادوارد سعيد ومحمد اركون والجابري والحبابي وحسن حنفي واشعار درويش ونزار قباني ومظفر النواب واحمد مطر، فهذا الاختلاف هو الذي ولد لدينا الرؤية الجدلية التي نؤسس بها ذواتنا ونشيد بها فكرنا وحريتنا، ونتخذ موقف من البوليس و الدكتاتوريات، كل هذا جعلنا نعيد النظر في هذه القيم والتعابير و مضامينها، او من كل النواحي، لذا نرى ان هذا العالم الذي نعيشه عالم يكتنفه الغموض والابهام، وراح كل مفكر يصنع عالمه بأدواته كما يحلو له، هكذا يرى ان هذا الكون يعيش صراعا ايديولوجيا وفكريا وعلميا، مما جعل بني البشر يلوكون اطياف الديمقراطية دون مفهوم مرجعتيها ولا دلالاتها ولا كيف تصنع من طرف المنتصر والقوي، هكذا تفهم الديمقراطية، لكن يودون حريه التذكر، من هنا نطرح السؤال: كيف تبنى الديمقراطية؟ وكيف تطبق؟ إن السؤال اذن هو الذي يولد لنا الدهشة لكي نفهم من نحن؟ وكيف نعيش الحرية؟ وهل هذه الديمقراطية ضرورة ام حتميه؟ وما علاقتها بالحرية؟ أسئلة تنطلق من الفرد والجماعة، ولا يمكن للدولة واحدها او ثقافه واحده ان تدعي ملكيه حصريه لها”1
لذا نرى في الحضارة الغربية هي حضارة الانتقاء والاختيار، الحضارة التي ولدت بولادة الحروب والصراعات الأثنية والأنطولوجية والعلمية، وهذه
الصيغة التي تتأسس الا بوجود الحرية الفردية التي يتناقض وجودها مع طبقية البنى الاجتماعية ومع طبيعة العلاقات الاجتماعية الناجمة عن هذه البنى2. لكن المجتمعات العربية هي عباره عن مجتمعات قبلية وعشائرية وطائفية، ويقول أحد الباحثين: ان لكل قبيلة لها شيخ وكل طائفه لها شيخ و هو الرئيس الاوحد الذي ينجح في قبيلته من اليسار الى اليمين و من اليمين الى اليسار[1]3. إن هذه البنية الطائفية هي من تقييد الديمقراطية، بل هي التي تدمرها كما يقول الان توران ” لذا تكون الديمقراطية مهدده المجتمع العام الى مجموعه من الطوائف المتغلقة في الدفاع عن هويتها المتخولة الى طوائف ترفض تطبيق اي قواعد اجتماعيه تتداخل مع مفهومها للحياة الجديدة[2]4.
وانطلاقا من هذا الطرح نستشف أن الطائفة تعمل على اغتيال الدولة ومؤسساتها وهذا ما نراه في لبنان واليمن، وليبيا وسوريا، ونيجريا والتشاد، فهذه الطائفية هي التي تفتح الأبواب للدول العظمى من أجل استغلال خيراتها الاقتصادية والصناعية، لذا يقول ألان تورين “إذا كان لكل واحد أن يحدد نفسه بالكامل بانتمائه الى طائفة معينة، لا تعد مسألة الديموقراطية مطروحة أبدا، بما أن المجتمع ينفجر الى عدد معين من الطوائف الغربية عن بعضها العض”[3]5.
فهذا الطرح يقربنا من أزمة الوطن العربي، نظرا لتقسيمة الى دويلات وطوائف، وحكماء القبائل والأعيان، و هذا لا يتلاءم مع مفهوم الدولة المعاصرة، حيث تصبح الدولة مجموع قلاع موروثه عن النظام القبلي أو الإقطاعي أو البورجوازي كما في ليبيا الأن، لأن هناك رجلا واحدا هو خليفة حفتر بن القاسم هو الذي يقود وليس كيانا كما يرى بيير بورديو[4]6 فهذه العصبية حدت من الدولة أو مؤسساتها وفتحت أفقا جديدا للطبقية، وللطائفية، وللقبلية وللتمذهبية، الشيء الذي يدعونا الى إعادة النظر كما قلت في جغرافية الوطن العربي، وافريقيا وكذا أسيا، وأمريكا الجنوبية، فهذه الكيانات هي إنتاج استعماري لا تعي كينونتها الداخلية، بل بقيت خارج عملية التقدم والتطور، ويقول سليم حداد في هذا المقام “أن القلاع باقية وطالما أن حراسها موجودون سواء من الشعب الطيب أو من المرتزقة، فلا شك الدائرة والقاعدة النسبية ولا تحفيض سنن الاقتراع، ستشكل الأدوات القادرة على اختراق أسوار القلاع المحصنة بعقول الناس ونفوسهم وعواطفهم”[5]7.
وانطلاقا من هذه القولة نستشف أن المثقف والسياسي يعيشان اليوم عصر الصورة، حيث أن كل الصور موجودة في كل فضاء، لذا فلا يستطيع السياسي أو المثقف أن يفرجا عن حضارة الصورة، ولا يفكر في أي شيء خارج الصورة، لذا نرى أن عالمنا مزدحم بالسياسة التي تتذفق عبر الأجهزة التواصلية، لكن المثقف يبقى أسير عالمه الصناعي الفكري، حيث يفكر ويبدع كل الروابط المعرفية فهذه الصناعة التي حلت محل ثقافة الكلمة أمسى المثقف هو سيد العالم والمركب، لأنه يتأمل في وجود الانسان والكون والمعرفة، لكن السياسي لا يتأمل الا في المنصب والجاه، والسلطة وهذا ما قاله عبد الرحيم العطري في كتابة ” صناعة النخبة المغرب” لأن زمن الثقافة ليس زمن السياسي، فالمثقف له علاقة بالتاريخ، والعالم، فهو إرادة وقوة واستثمار، وينعكس تلقائيا وجدليا على الوضع العربي كما يقول ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق، فهذا الأخير أعاد النظر في الثقافة الغربية وذلك بمنهج غربي يحاكم كل المثقفين الغربين الذين يعتبرون أن الثقافة الشرقية هي ثقافة القبلية والبداوة، والجمل والرعاة والقتلة وغيرها من الصفات لذا دوارد سعيد يحاكم كارل بروكلمان ومانسيون باعتبارهما أعمدة الاستشراق العنصري، وكذا المثقف برنارد لويس الذي اعتبر أن هذه الرؤية الاستشراقية هي امتداد زمني الأخر المختلف، فالغرب أمد الشرق بالفكر والعلم وإبان القرن 15، فالغربي المستعمر لا يرى في الشرق سوى فلسطين ومصر كما يقول ادوارد سعيد، حيث أن المستشرق لا يكتب بطريقة موضوعية، لأن الأداة لكتابة عن الشرق، هي أرضية التي من خلالها نرى أن المستعمر سانده الأنتربولوجي قصد قراءة الجغرافية والتقاليد والعادات والبشر والعقلية والذاكرة وهذا ما أكده المثقف ادوارد سعيد، لكن ويليام هارت باعتباره مثقفا موضوعيا يرى الشرق عبارة عن استنباط جديد ضد كل المأسي المتمثلة في الدولة العثمانية. فالعمل المنتج والمتغير للمحيط و للذات جعل العرب يعيشون النكبة 1948 والنكسة، فبقي السياسي يستهلك الأيام دون مناقشة التاريخ، يعني أن صناعته هي صناعة سلطوية تخترع الوسائط بينه وبين الجماعة بما في ذلك اللغة، أما المثقف عمل على مكاشفة المستشرقين الذين يرون أن هذا الشرقي هو البدوي والخنوع، والمتسلط والاسطوري، طارحا هذه الايديولوجيا على المحك من اجل اعادة النظر في هذا الدور الزمني الذي يميز بين القوي والضعيف، والمهيمن والمستلب، وبين العقلاني ولا عقلاني، فعبر هذه الثنائيات يحتل المثقف مصدر النشاط الاداري، اذ يوجد داخل مناطق كل واحده منها تحركية كجزء معين من الواقع، هذه المعطيات تعزز الملاحظات التاريخية التي تجعلنا نتقرب من اطروحة بعض السياسيين العرب الذين ينادون بالموقف العسكري كعنصر منشود، متناسون ان الارض لفلسطيني وليل عبراني و للموسيقى و كل الديانات، حسب تعبير ادوارد سعيد، فهذا الاخير اصبح مثقفا مسؤولا، اوصل الانسان الفلسطيني الى المحافل الدولية، رغم المشاكل التي اعترضته، لكنه يؤكد ان على المثقف أن يقرأ الغرب بلغته اذا اراد ان يحاكمه او يتواصل معه بالثقة الإبداعية ،واد ورد سعيد يتحدث عن القضية الفلسطينية التي اصبحت مشكله رقم واحد بالنسبة للشعب الامريكي والاوروبي بأسره ، انه الشيء الذي يميزه عنا كي نصبح مثله يجيب ادوار سعيد ان المثقف لأنكلو سكسوني العربي يحارب من طرف العنصرية الصهيونية العالمية سواء في رحاب الجماعة او في المقاهي او النوادي، كل هذا هو محو الهوية الفلسطينية وتاريخها وانسانيتها، لذا اصبح عيبا على المفكر الفلسطيني والمسيحي حيث اصبح يحمل مسؤولية من اجل اكتساب اي مجهود غربي دون الاكتساب المركزي السياسي، لان الانسان الفلسطيني الذي يقف على ارض عريبة، بطريقة إنسانية هو اهم شيء تعلمه هو والكلام واحد، وبنفس اللغة والانسان، وهذا التحدي لم يكن معروفا لذا الأمريكان وأوربا الا بصورة سلبية، عن الفلسطيني، فالجمهور الغربي يتعطش دوما الى شيء لا يعرفه، فهذا محزن بالنسبة للعرب، لان قربه اليه فكره لابد من برهنته بأسس علمية، تتساوق مع شروط المعرفة الموضوعية وليس الذاتية. وضمن هذا المنظور تتخذ مشكلة القضية الفلسطينية كل أبعادها وخطورتها، فهي لا تمثل عداء للحضارة الحديثة – الحضارة الغربية- بما تختزنه من قيم التنوير المسيس والانفتاح المبني بشروط، وعليه يحاول ادوارد سعيد في كتبه ان يفكك الفكر الاستشراقي بمنهج أركيولوجي وجنيالوجي قصد معرفة كل الرؤى الارتوديكسية التي تسيج الشرقي وتاريخه، وإظهار الغلبة وانتصار الحداثة وقيمة تاريخية، فهذه المخلص لنفسه لا يصنع إلا ذاته بذاته دون الاهتمام بالأخر، وهذا ما نراه في الفلسفة الوجودية والعبثية، لأنهم صنعوا أنفسهم ويريدون أن يصنعوا الأخر المهمش، ودون أن شعيرة دينية ووساطة سلام…وأن يكون حبكم بعضكم لبعض كما أحببتكم أنا[6]8. وهذا ما جاء به مرسيا إلياد في كتابه أسلوب سلام بأرض” لان إسرائيل عنصر أساسي بالنسبة لأمريكا، ولها فعاليات كبيرة في الداخل، لأم امتداد ذاته في النهج الليبرالي، فهذا لا بد أن نعالج هذه القضية رغم غياب الاعلام، لأن الشعب العربي لا يعرف التركيبية الأمريكية، لأنها امبريالية العالم تهيمن كما نرى في كوبا والعراق، من هذا المنطلق نرى أن هناك قوة ضد هذه الامبريالية لأن أسالبي المبنية من طرفها هي امتداد لاحتلال، وهذا الامتداد أيضا سماه ادوارد سعيد ” بأستاذ الإرهاب” فهذا المثقف لم يقف عند الحد، بل واصل الحث من أجل تغيير هذا الصمت العربي، كما في كتاب “البدايات” فكتب عن روني ويليك وصورة المثقف، ومن بين الذين انتقدوا هذا المفهوم “كمكسيم رودونسون، وأنور عبد المالك، وعبد اللطيف الفلسطيني ، فهذا التصور ما بعد الكواونيالي جعل ادوارد سعيد يساير النهج ما بعد الحداثة وخاصة أطروحة مشيل فوكو، وقد كان مشاكسا في الأدب الإنجليزي “كجوزف كونريد” لكن سنة 1967 تأثر بها، واهتم بقراءة الأدب العربي بالنسخة العربية، واهتم بفوكو ووليام (الماركيسي)، وانطونيو غرامثي دفاتر في السجن” فوظف مفهوم الهيمنة كما طرحها غرامثي ، واهتم أيضا بالتطور المجتمعه حسب المفكر الإيطالي (غرامثي فإدوارد سعيد تناول أركيولوجية المعرفة ليست علما كما يرى فوكو ولكنه منهج شاق وصعب يعالج قواعد تكون المعرفة على مستوى الأفكار والصور والقضايا الإنسانية التي تتجلى في الخطاب وتنتمي إليه لأن الخطاب لأن الخطاب-واقعي نوعي متميز عن التراث، والتحول والعقلية[7]9. فادوارد سعيد باعتباره أديبا واجه الخطاب الغربي في إطار قواعد اللعبة التي تحدد مستواه الخاص به.[8]10 لذا طرح العديد من الأسئلة حول هذه الذات الغربية ذات ففوكوالذي يرفض البعد الأنثروبولوجي[9] 11المبني على تاريخ الأفكار، وهذا ما ادوارد في كتابه الإستشراق، فالمفكر الفلسطيني يحاول جاهدا أن يغاير المقولات الإستشراقية التي تنادي بالتمايز والتفوق وكذا القوانين التي تتحكم في انتاج الخطابات لمعرفة الهيمنة ومادياتها الثقيلة المرعبة، فالمفكر ادوارد يعيد هذا الخطاب الغربي المؤسس على الاقصاء والاستبعاد لكي يظهر البراعة المشرقية التي تملك الذات والهوية كبديل لهذه الاستمرارية في التاريخ.
المؤرخ الغربي اهتم بالمدة الطويلة المرتبطة بالأبعاد الاقتصادية والبنية الاجتماعية من هنا يطرح السؤال ما العلاقة بين الاحداث المتباينة، والمستمرة التي تخترق الأحداث؟ ما ومدلول الترف الذي ينتهي الى تشكيل تاريخ جديد يتمحور حول طبيعة الترف العربي ذا التسلسل التاريخي، فادوارد انتقل من مفهوم القرون إلى مفهوم القطيعةة الباشلارية من أجل فهم التقييم الجغرافي والتاريخي لكي يوازي بين التاسيس والبناء، لأن القطيعة والتحول هي العتبة والنص والمؤلف، كلها مفاهيم تنطلق من داخل الخطاب الغير المنفصل عن المجتمع.
فالتاريخ الشرعي كما يقول هو انتقال من العائق الى الممارسة التي تحدد الشرعية التاريخية، لهذا فادوارد أراد أن يمحو البعد الشمولي لكي يبحث عن تشكل البعد الحضاري الشرقي في الغربي لان حضور البعد الروحي الشرقي في المادي الغربي هو القانون الذي يحظى بالاهتمام والعلاقات المتجانسة دون فرض الرؤية الواحدة و الوحيدة الغربية، فالغرب نفسه ينبغي أن يطرح كإشكاليات وكقطائع لأن مركب من أنماط فكرية متنوعة ومن شعوب وتاريخ مؤسسات مختلفة، إذن لا بد لخضوعه للتوزيع التاريخي وللتأويل الأركيولوجي فهي المناطق أو فترات أو صيرورات أحادية[10]12.
فادوارد سعيد يريد أن يعيد قراءة فلسفة التاريخ كما عند مارسيا الياد وماركس أو كلود ليفي شتراوس، وغرامشي وألبير، فهؤلاء الأعمدة المعرفية بحثوا في هذه العتبات، والاختلاف والتفكر دون الانفصال عن السلاسل التي ألفناها في المراجع والمصادر، فتاريخ الوعي النقدي سوف يبقى امتيازا بنيويا، لأن البعد الاركيولوجي حسب ادوارد هو تدمير لهذه الذات المتعالية (حسب مفهوم كانط) وبناء اللغة داخل الذات (هيدجر)، لأنها تفرض نفسها بدون حضور الذات، اللوغوس الذي اعتبر الموطن للعقل الغربي، فإعطاء الكلمة لهذه الذات أن تبوح، وتنطق وتسبح في جميع الأمكنة، كأنها خطابات جنونية حليمة وخيالية.
و مسؤولة عن الموضوع فهذا الأخير هو الذي يعد هذا الخطاب المقصي والمهيمن، فالقرون الماضية كانت الكنيسة هي التي تنتج الخطاب اللاهوتي، أم اليوم فإن الانسان هو الذي يبدع الخطاب، لأننا كنا تحت هيمنة اللغة المستعمرة، أما اليوم فأصبحت اللغة هي التي تؤكد وتفسر من نحن؟ ومن نكون؟[11]13 باعتبارها مكونا غير مهيمن على الانسان المعاصر،.
فاللغة حسب الغرب هي اقصاء الذات المهمشة، و الحضور الكوجيطي الغربي وحاضر داخله دون العودة الى اللاشعور أو إلى البنية، فالكوجيطو الفلسطيني حاضر في الفكر العربي وفي الذات، كما يقول هابر ماس أي أنه حاضر على المعاش أو التجربة الذاتية كما يعيشها الوعي الذاتي، لان البنيوية الغربية لا تعني لإقصاء الذات حسب هاربر ماس به هي عودة الى الذات، وذلك بواسطة الفكر الذي أفكر به داخلي، حيث يرى أن هذه العلاقات ليست خارجة عن الخطاب المهيمن الذي يحددنا محن المستشرقين، لذا فالخطاب ما بعد الحداثة هو الذي يؤسس كممارسة وكتحقق تواصلي فعلي، فهذه الممارسة هي التي تمنح للشرقي أن يكون في الوجود وفي الانتقال (من المجرد الى العمل) فاللغة حسب ادوارد سعيد هي التي سمحت له بايطال كل العبادات المتمثلة في العتمية التي ألفها في مجالات العلوم والعلوم الإنسانية والأدبية، وبالتالي أصبحت عبارة موت الانسان الغربي هو موت تجريدي في جميع الحقول المعرفية، أما الأخر المهمش كما يرى بورديو وليفي متراوس فهو حاضر بثقافته وتقاليده ورؤيته للوجود وللزمن، لذا يرى فوكو أن العلوم التي نجدها في المدارس والجامعات هي عبارة عن نموذج سيادي طبقي لأنه يتعامل مع الأدوات المعرفية التي تسمح له بالضبط والمراقبة[12]14. والعقاب وبالصمت، لذا فالشرقي حسب ادوارد هو الكائن الذي يمتلك الأنا الضعيفة، فهو مطالب بالصمت نظرا لوجوده الممصنع من طرف الأنا المنتجة والمؤدلجة، ومن اجل حماية العقل الوضعي الغربي، لذا أفقد الشرقي مركزيته حين أصبح موضعا للدراسة، فهو الذات والموضوع المدروس، لذا يرى ادوارد سعيد أن العقلية الغربية هي عقلية استعمارية واستعبادية، وهيمنة وتجسيد للصراع الطبقي المستوى الفكري والقيم والرموز، لدا حاول ادوارد أن يدرس الفكر والسلطة من الداخل، لا من خارجها، لما لهذا الخطاب من بعد سياسي، لذا أقول أن الحقل المعرفي والثقافي والسياسي هو حقل للصراع، بين من يملك زمن لا يملك[13]15. فالمثقف هو موظف الابنية الفوقية، كما يقول غرامشي ” يباركون للسلطة ولكل مؤسساتها دون نقل أو تأويل لكن هذا المثقف المتصالح مع الأجهزة الحاكمة لا يقوى على مواجهة أصحاب الاحتجاجي المعرفي والمنهجي كما حدث في سنة 1968 بفرنسا، كما يرى ريمون أرون، فهو الذي حدد علاقة المثقف بالسياسي عبر مراحل ثلاثة:
– انتقاد الشكل.
– انتقاد الأخلاق .
– وانتقاد الأيديولوجيا.
وعبر هذا الثالوث نرى أن سعيد لم يكن سياسيا رغم البعض يسيسيونه بل هو اديب ومفكر متعدد المعارف والقراءات ومتحررا من الانتماء ليلتحق بحركة التاريخ، وهذا ما ساعده على تأسيس جبهة معارضة للمستشرقين المسيسين، ويقول بيير بورديو، لا بد من الأخد بعين الاعتبار، أن المثقفين هو موضوع ضمني وجوهري والذي أصبح مع مسؤولية الأحزاب السياسية صريحة وواعية[14]16.
إدوارد لم يكن لعبة في يد السياسيين، بل هو تقني المعرفة يريد إيصال الصوت الفلسطيني الى الشعب الإنجليزي والأمريكي والدفاع عن الانسان الفلسطيني الذي يرزح تحت نيران الصهيوني مند مؤتمر هيتزل 1948، وسنة 1967 الى يومنا هذا، فوضعية المثقف ودوره الاجتماعي والمدني هي وظيفة سياسية بالدرجة الأولى إذا كنا نعتبر أن ما يضيء العمل الفعل المعرفي هو المثقف وليس السياسي رغم ان في كل سياسي يرقد المثقف، وفي كل مثقف يقيم السياسي، فادوارد في رحلاته الأدبية والفكرية أعطى معنى جديدا للحياة وللتاريخ العربي، مطالبا بان نتسلح باللغة وبالمعرفة إذا أردنا أن نساير تطورات الحداثة وما بعد الحداثة ، كما حدث في الاتحاد السوفياتي (ثورة أكتوبر 1917 والثورة الفرنسية 1789 وثورة كوبا والثورات العربية ضد الاستعمار الغربي المهيمن، إذن ما الهيمنة حسب قول ادوارد سعيد، التي ظهرت في الشعارات السياسية التي رفعتها الأنتاجنسيا الروسية في القرن 19؟ ويعد هذا السؤال اسهاما في الفكر السياسي والاجتماعي لكونه تكشف لنا عن جانب أساسي من جوانب السلطة والطابع الثقافي المهيمن، فإدوالرد سعيد يعمل على تفكيك الأيديولوجيا الغربية قصد إضفاء الطابع العربي على فكرها ونفودها الثقافي والاجتماعي والمدني، وهذا ما سماها ألتوبير بالأجهزة الأيديولوجية للدولة، إذن والهيمنة تؤدي الى بناء مفهومي : إما سياسي أو ثقافي حسب تعبير جان وليام لايبير في كتابه essai sur le pouvoir ، إذن فالعنف الرمزي هو وجود سلطوي يقوم على الهيمنة والعنف، ويرى لا بيير أن حقيقة السلطة وكينونتها تنبني على العنف، ولا يمكن ان نفكر في السلطة بدون عنف وهذا ما مارسه المستعمر الغربي على الشعوب الفقيرة قضد احتكار العنف الفيزيقي كمشروع حسب ماكس فيبر في كتابه vivre sans , etat ed seuil p 116. . هذه الأداة الحربية تروم الى تحقيق مصالح إما بطريقة ديكتاتورية أو غريزية فردية أو استبدادية كما يقول غرامشي[15].17 فادوارد سعيد يرى أن هذه الهيمنة الغربية هي شرط أساسي لمعرفة المضمر في السياسي وفي الثقافي والاقتصادي، لمعرفة الطابع الأيديولوجي السلطوي لان الغرب اعطى لنفسه مشروعية السلطة المهيمنة، فهو منقد البشرية من التخلف والجهل والتهميش، فهو المستقيل لسلطته لأجل ضمان السيطرة من جهة والهيمنة الاقتصادية والعسكرية من جهة أخرى، فالدولة المتخلقة لا تستورد إلا التنظيم الإداري والبيروقراطي وتبقى عبارة عن قناع أو حكم، لكن سعيد أراد عقلنة الحالة الأيديولوجية والتاريخية من أجل إزالة القناع عن المثقفين السلطويين ليس كفوكو ياما صاحب كتاب نهاية التاريخ، فهذا الأخير كتب بمباركة وزارة الخارجية الأمريكية واعتبرته اسهاما مفصليا لفكرة بوش عن النظام العالمي الجديد وأكثر الأمثلة الراهنة بروزا عن ألية إعادة إنتاج المعلومات السائدة[16]18. وانطلاقا من هذا الطرح البرغماتي جعل ادوارد يعيد النظر في دور المثقف العربي المتدني والغير الملائم لأية مصداقية أو حقيقة تذكر.
لذا عمل المفكر الفلسطيني ببلورة القوانين التي تعرقل حرية الخطاب العربي، لذا جعله ممكن الوجود هنا، ومتعدر الوجود في الغرب الاكلوسيكسوني، والفزكوفوني لذا فالخطاب في أي مجتمع لا يتم إلا بواسطة إجراءات وأساليب إقصائية واستبعادية أو بواسطة التقييم والتعارض بين السلم والحرب، وبين النظام والا نظام، لذا فادوارد سعيد لا يتوقف عند هذه الحقيقة، بل جعل من هذه الإرادة الفلسطينية هي الحقيقة المطلقة في الشرق الأوسط وفي العالم.
فالارادةة المكشفة تختلف من مفكر الى مفكر ولا تتطابق مع إرادة المستشرقين، سواء من حيث الأشكال المطروحة ولا من حيث الموضوعات المتناولة والمتداولة على الصعيد الدولي، فإرادة سعيد تضمن الاستمرارية الشرعية بواسطة اللغة التي تمارس فيها المعرفة في المجتمع الغربي، وبالدعامة المؤسساتيةة الجامعية التي مارس عليها خطابه الإبداعي والوظيفي، لذا لم يعد الخطاب اليومي يلبي الرغبة أو يمارس السلطة بل أصبح مفهوم الهيمنة العلمية هي الإرادة لقول الحقيقة المغتصبة، ويرى فوكو في هذا الشأن أن الخطاب الصحيح لم يعد ذلك الذي يلبي الرغبة ولا السلطة فيما هو رهان الخطاب الصحيح هو الذي يتلخص من الرغبة والسلطة[17] 19.
فادوارد سعيد رأى أن القضية الفلسطينية قادرة على أن تحتل مكانة ضمن الدوائر الأهمية دون أن تبقى في دائرة مغلقة غير متفاعلة، لذا طرح هذا المفكر قضيته في المحافل الدولية الثقافية كمنهج ورؤية من أجل الانفلات من الأخر المحتل والمهيمن، إنه دائم الانصات للأخر الموضوعي دون تعصب كما يقول جورج ريناتي، وهذا التنقيب هو مساءلة اليقينيات والمسلمات الاستشراقية من أجل تشكيل تحديا كبيرا للفكر المؤمرك، فهذه اليقظة هي تجاوز كل رؤية ميكانيكية أو كل نزعة فردانية التي تزعم امتلاء المعنى، وتسعى الى فرض نموذج كياني كأساس لكل تناول نقدي أو ابداعي، إذن فلا مجال لاكتمال هذه الدورة المرتبطة بالهيمنة الصهيونية العالمية إلا بشرط التسليم بوجود أزمة في الأنظمة والمؤسسات المؤدلجة، لذا يطالب المفكر الأديب ادوارد بضرورة العمل وفق منهج علمي وموضوعي بعيد النظر في هذا المورث التاريخي الفلسطيني، الذي عاش على أرضه وارتبط بذاكرته، وبنى وعيه وشعوره وخاضع بصورة دائمة لصورتي الإرادة والحرية، لذا ينبغي أن نحارب السلاطين الجهل، وأن نزيل الأقنعة على وجود المتملقين الأميين، وأن نلغي التحييز للكيان المحتل دون فكر نقدي، إذن لا بد من جعل هذه الرؤية النقدية أن تكون هي الوساطة في فرض وبسط الرغبة في السلام بالموازاة مع قرارات الأمم المتحدة، من هنا نتساءل هل هذه الذات المقصية قادرة على أن تأخذ مكانتها في ظل هذه الأوضاع؟ وما دور الجامعة العربية في بناء الإنسان الفلسطيني؟ وهل التطبيع قادر على فك هذه الشفرة المهترئة؟
فالسؤال هو الواقعة النفسية؟ يستمر عبر التوظيف النقدي الذي يمكن ان يفسر كبعد تاريخي، ليعيد لهذا الشعب منطقه ولغته وذاكرته، إذن فادوارد يحاول الولوج الى الواقع الممكن كتاريخ حالة مقصدية وكذا كرة مقاومة للتكرار من أجل إعادة التشكيل لهذه الذاكرة التاريخية، ليكون الإنسان الفلسطيني قادر على بناء وجوده الخاص، بهذه الطريقة تصبح اللغة والذاكرة والأرض والتاريخ كحكاية كما يرى بول ريكور.
فهذه الصدمة المؤجلة لديه يسمح للغة بإعادة إنتاج الماضي في شكل إدراك جديد، إنه عمل متضمن في كتبه عبر مفهوم ديريدا وفوكو، وغرامثي، فادوارد تناول غرامثي وفوكو من أجل فهم مسألة-السلطة- بحيث حاول توسيع مفهوما دون حصرها في نطاقها السياسي الشيء الذي أدى به الى أخذ سلطة الدولة كسلطة تتجاوز نفسها كونها مجرد جهاز سياسي كما يرى غرامثي[18]20. فمساهمة ادوارد لهذه المفاهيم، جعله ينتقد مثالية معاصريه سواء من الناحية الفكرية واللغوية، أو من الناحية الاستراتيجية التاريخية للشرق، مما جعل مساهمته الجامعية تدخل ضمن المنظور التأويلي والتفكيكي، وذلك بتجاوزه التصورات التي تعتبر أن الشرق مجرد جهاز للبداوة والقمع والديكتاتورية ومهما يكن فصعوبة التحديد والتعريف فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في كتابات المستشرقين، يجعلها من بين المفاهيم التي يحيط بها أكثر ما يمكن من الغموض ذلك أن الكتابات الاستشراقية تواكبها عدة تعاريف، كالسيادة والقمع والهيمنة والسياسة، وقد تكون جل الظواهر المدونة هي عبارة عن مظاهر سلطوية غربية، مما يجعل مجالها أوسع من السياسي والسلطوي، وهنا تكمن صعوبة التعريف بالنسبة للسلطة الإبداعية، وقد حاول ادوارد سعيد تناول قصيته كفلسطيني أن يعيد النظر في الكتابات الاستشراقية الاتنربولوجية والتاريخية والاختلافية على اعتبار أن هذه الكتابات لم تنفصل ولم تكن في معزل عن تأثير التصورات والنظريات في أي مرحلة من المراحل تكونها وتطورها المنهجي الكمي والكيفي[19]21. فادوارد حاول في متونه الإبداعية أن يستحضر بعض الكتاب والمفكرين الذين أرادوا أن يعيوا قراءة جديدة للمركز الغربي، ومن بين هؤلاء: جورج بلاندييه وميشيل فوكو وألتومير ودريدا وغيرهم، فعبر هذا التنوع عمل ادوارد سعيد أن يؤسس لهذا الشرق أفقا جديدا الموشوم والمرسوم من طرف المستشرقين، لذا يعد من أحد أعمدة الفكر العربي والعالمي، بجانب محمد عبد الجبار وسالم يافوت وحسن حنفي وجورج طرابشي ، فالمفكر الفلسطيني استنطق هذا المورث الغربي برؤية بنيوية مفتوحة سواء في معاينة الوجود أو في قراءة التاريخ الشرقي، حيث جعله لا ينفع بادراك الظواهر المعزولة، بل كان يطمح الى تجديد المكونات الأساسية للظواهر في الثقافة والفكر والمجتمع، تم باقتناص شبكة العلاقات التي تربط بين السياسي والمثقف وبين الدولة والمجتمع، لذا عمل ادوارد سعيد على بلورة كل المفاهيم الشرقية برؤية نقدية التي تنشد الواقعية وليس الانحيازية لذا نقول: متى تنبت للحجارة أصابعها؟ ومتى سيسطع نور الشرق ليزيح نيران الأصنام؟ هل أكون حجرا لو نظرت الى الوراء كما يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته ” الخروج” .
وأخيرا أقول لا يمكن أن يكون للحياة الشرقية أو الغربية من حركة أو أثر بغياب الانسان، إنه الجنس الذي يبدع ويصنع، فهو المحرك للوجود وهو الذي يمده بالمعنى والقيمة الجمالية. فهو الذي يقاوم الهيمنة والنزعة الاستبدادية قصد استعادة الانسان حقه في إنسانيته والتمتع بها في هذا الكون.
المراجع
- سليم حداد: “بؤساء الديمقراطية.
- بؤس الديموقراطية ص 13
- نفس المرجع.
- نفس المرجع.
- نفس المرجع 16
- بيير بورديور ” الدولة” –ط-2 1987 ص- 37.
- نفس المرجع ص 20.
- مرسيا إليا” أسطورة العود الأبدي” ترجمة فهاد الخياط- دار المتلقي سنة 2020 ص28
- فوكو ” اركيولوجية المعرفة ص 31.
- فوكو ” اركيولوجية المعرفة ص 37.
- فوكو ” اركيولوجية المعرفة ص 26.
- فوكو ” اركيولوجية المعرفة ص 19.
- فوكو “الكلمات والاشياء” ص331.
- فوكو المراقبة والصعقات دراسات عربيةة ع-3-4-5و6 1977 ص 96-97.
- جان بول سارتر “دفاع عن المثقفين ” ترجمة جرج طرابشن دار 99 ب 1973 ص 12
- PIERE BORDIOU QUESTION DE SOCIALOGIE DE SEUIL -1980-
- JP. COT ET JF- MOUNIERS : pour une sociologie politique , ed seuil-1975 t 1 et t2-p 135
- كريستوف نوريس “نظرية لا نقدية ما بعد الحداثة – المثقفون وحرب الخاريج ترجمة د عابد إسماعيل ص 198.
- فوكو “نظام الخطاب” ص 18 و28
- بوسي كليكسمان غرامتشي والدولة باريز-فايور- 1975 ص7
- Gearges blandier ‘’le detour ‘’ ed fayard 1983 p23.