القناع المكشوف.. قراءة في قصة (عطوة وجميلة) للكاتبة المصرية وداد معروف
بقلم: د. علي الضيف
أولا – قصة: عطوة وجميلة
الفقر بيني وبين امرأتي، حتى في فراشنا يشاركنا الفقر، يحرمني منها ويحرمها مني، هذه الكلمة التي قالتها الآن فلقت كبدي، تظنني أعطيتها ظهري غضبا عليها، لا والله فلها ألف حق.
لن أسامحك يا عطوة! حرمتني من حقي فيك ومن حريتي في غرفة تجمعنا بعيدا عن فرقة العيال النائمة معنا فوق السرير وتحته.
لكن من أين لي بثمن بناء غرفة أخرى بجوار هذه؟! الحوش واسع لكنه مكشوف.
تقلبت في فراشها وكانت حذرة أن لا تلمسني؛ فقلبها ملئ بالغيظ مني، هي تعرف أن العين بصيرة واليد قصيرة، لكن هي امرأة مثلها مثل أخواتها وجاراتها؛ جميعهن لهن غرف خاصة لا يشاركهن فيها الأطفال.
جميلة في عز أنوثتها، خمس عشرة سنة هي عمر زواجنا، كان الأمر يسيرا قبل أن يكبر الأولاد، أحمد الآن أربعة عشر عاما ودعاء ثلاثة عشر عاما، كيف يحدث شيء في غرفة معهما و إخوتهم؟!
لك ألف حق يا جميلة، استدار وقبل يدها وجبينها، شعر برطوبة دموعها علي المخدة، قال لها: سأفعل ما تريدين حتى لو استدنت ودخلت السجن، من الصبح سأذهب لبنك المعونة وأقدم على قرض أبني لك غرفة بجوار هذه.
جلست جميلة ووضعت يدها علي صدرها مدهوشة وهي تقول: من أين لك بسداد أقساطه؟ ما حيلتنا غير الغنمتين تشاركاننا الدار ونتعثر فيهما في الحوش، ومهنتك مضت أيامها، من الذي يأتيك الآن ليطلب منك أن تصنع له حذاءً؟، الأحذية الجاهزة وبكافة الأنواع تملأ المحلات وعربات البيع في الشوارع، ليس لنا مورد ثابت لنسدد منه أسبوعية القرض!
اتركيها لله سيدبرها؛ لكن لا يرضي ربنا ما نحن فيه، زوجتي حلالي و كأني حرامي، كل أمورنا سرقة في سرقة!، كلمتك لي الليلة نبهتني من الغفلة؛ كتمتها كثيرا في صدري؛ لكني أيضا إنسان غلبتني نفسي.
جلس مع موظف البنك أجابه عن الأسئلة التي سألها، حرر له الأوراق التي تحفظ حق البنك في القرض والفائدة، انصرف سعيدا وهو يتخيل غرفتهما الجديدة، وجميلة بقميصها الأحمر القصير، تدور وتتهادي أمام المرآة، وضحكاتها التي طالما كتمتها في فمها المزموم دايما، والأشياء التي دائما تتم علي عجل كأنهما لصان يتكتمان جريمتهما، ستُفرجين عن كل ما كتمتِيه يا جميلة وستأخذين راحتك تماما وستكون أول ليلة في غرفتنا الجديدة كأنها ليلة عرسنا.
شد السقف الجديد، عطوة في انتظار انتهاء فك الأخشاب بلهفة، وحدها جميلة التي تعرف سرها، يدخل ويخرج وفي كل مرة يهمس في أذن جميلة جهزي القميص الأحمر، تضحك وتضع عينيها فيما تقوم به سواء طبخ أم كنس أم غسل الأواني.
نظفا الحجرة جيدا بعد حمل الأخشاب منها، علقت ستارة قديمة أهدتها لها أختها، وضعت مرآة تبرعت لها بها جارتها ابتسام، ونقلت سريرها القديم من غرفة الأولاد، واشترت لها أمها طقم سرير وردي ليزين حجرتها الجديدة، أما القميص الأحمر القصير ذو الوردات الجبير تحيط خصرها النحيل، والذي لم تؤثر في نحته الولادات المتكررة، اشترته بالتقسيط من أم عصام البائعة المتجولة؛ التي طالما مرت عليها وعرضت بضاعتها ولم يحصل أبدا أنها اشترت ملابس للنوم منذ أن تزوجت، فحمْلُها من أول يوم زواج وضيق رزق زوجها جعل كل مشترياتها للبيت وللأولاد الذين تتابعوا في الدخول لهذه الحياة.
لم تكن تلك الليلة عادية أبدا، كانت فيها جميلة كما وصفها عطوة وكان وكان، نعما بهذا البراح شهورا حتى تعثر عطوة عن السداد فتحولت الليالي لكوابيس أطبقت علي صدريهما، ولم يعد يشغلهما إلا الانعتاق من هذا الدين الذي يتضاعف أسبوعيا، حتى جاء ذلك النهار الذي أخذ معه عطوة إلي حيث حذرته منه جميلة . طوت القميص الأحمر وأودعته خزانة ملابسها.
ثانيا – القراءة النقدية
تقول الحكمة الهندية “أخبرني حقيقة ثابتة لكي أتعلم، وأخبرني حقيقة صادقة لكي أؤمن، ولكن أخبرني قصة لتعيش في قلبي مدى الحياة.” فمازلنا نتذكر ونحن صغار تلك القصص التي تحكيها الأم والجدة متشبثة بجدار الذاكرة وتأبى إلا أن تظل عالقة لدينا ويفسر ذلك جوناثان غوتشال بقوله: نحنُ البشر كائنات لديها هوس وإدمان على سماع القِصص والحِكايات، فحتى عِندما ينام الجسد ، يظلُ العقل متيقظاً، يسرد ويحكي لنفسهِ القصص من خلالِ الأحلام.
فالإنسان روحه تهفو تلقائيا إلى القصة وما أجملها حين تأتي من خلال كاتب محترف يستطيع اللعب على أوتار المشاعر والأحاسيس ويمتع الفكر والعقل، وحبذا -عند الكثير- لو كانت القصة واقعية، فلها مذاق خاص يستهوي جمهورا كبيرا، حيث يتشارك المتلقي وبطل القصة المشاعر والانفعالات، ويشعر أنه متغلغل داخل نسيج القصة وأحيانا يتقمص دور البطل، ومن ثم قفد أخذت القصة طريقها إلى القلوب بما تحمله من عنصر الإمتاع .
ولكن للأسف من خلال مصطلح الحداثة انبرى كثير من أشباه الكتاب وأنصاف الموهوبين ينشرون قصصا من جمل متناثرة لا رابط بينها ولا اتساق والهدف هو الانزياح عن المألوف، يدرجونها تحت مسمى القصص القصيرة لكسر أفق توقع القارئ وجعلها تتشح بغموض يرونه مثيرا للإعجاب وفي حقيقته مثير للشفقة.. ووسط هذه الاتجاهات الهلامية تأتي الكاتبة الموهوبة وداد معروف بإبداعاتها تشق طريقا بخطوات واثقة ثابتة متسلحة بموهبتها وإبداعها لتكتب لنا مجموعات قصصية تحقق الامتاع والفائدة والفكرة السليمة وتبث قيما وأفكارا تنجو إلى بث ما هو معبر عن قضايا وهموم الإنسان .
وإذا كان بعض دارسي السرد الأدبي يشبّه الرواية بالنهر الذي يسيل من منبع إلى مصب، في حين أن القصة القصيرة تمثّل موجةً وسط النهر، فها نحن أمام موجة عاتية من أمواج الحياة المتلاطمة تمثلت في مأساة جمعت شخصين طموحين، وما طمحا في كثير، إنما طمحا في حق مشروع.
أول ما يصادفنا عند قراءة القصة هو العنوان :
ينفتح العنوان على دلالات تعبيرية متعددة، حيث عمدت الكاتبة إلى اختيار عنوان بسيط يحمل ثنائية (القهر الفقر) كثنائيات العشق العربي الشهيرة الخالدة، فعنونت قصتها بـ (عطوة وجميلة) على غرار قيس وليلى وحسن ونعيمة، وكأنها تشير إلى أن قصتها ما هي إلا قناع يخفي قصة خالدة تتكرر صالحة لكل زمان ومكان، فحين يجتمع الفقر والقهر فالنتيجة معركة خاسرة مع الحياة ومصير محتوم، ذلك المصير أفرزته تجربة الانعتاق من وضع مؤلم في اتجاه مصير أشد إيلاما فأبسط الحقوق لديهما أحلام. كما يبرز حسن اختيار العنوان؛ فـ (جميلة) اسم على مسمى، و(عطوة) اسم مرة من الفعل (عطى) وهذا يكرس التكثيف وعنصر الحرمان بالقصة .
وإذا أتينا إلى الحدث والفكرة الرئيسة بالقصة:
فإنه يلخصها المثل الشعبي الشهير: (جت الحزينة تفرح مالقتش لها مطرح) حق مشروع أفضى إلى مصير غير عادل والتهمة شروع في سرقة متعة مشروعة.. شروع في الحياة ..بمغامرة غير محسوبة أفضت إلى السجن !
فالفقير ليس من حقه الاستمتاع بالحياة كغيره من الناس فالحق في الحياة الكريمة صار حلما انقلب إلى كابوس من خلال مثلث القهر والفقر والحرمانش، ذلك العدو الأكبر للحياة الذي عبرت عنه الكاتبة بكل صراحة في أول كلمة للقصة، فالعمود الفقري للقصة هو الفقر الذي اتخذ عندها صورا عدة ، فهناك فقر المال وفقر السرير، وذلك الفقر قد طال الفناء فهو مكشوف، وطال العلاقة الحميمية فهي محظورة، وفقر المال العيني المقتصر على العنزتين فحسب، وفقر زبائن مهنة الزوج فهم قلة، حتى فقر الضحكات التي طالما كتمتها، و فقر العلاقة الحميمية التي إن حدثت فإنها (تتم علي عجل كأنهما لصان) حتى أثاث الحجرة قد جاء من تبرعات أسرة البطلة والجيران، طال الفقر أيضا نعيم الحياة بعد بناء الحجرة فلم يلبث إلا أشهر معدودة حتى إنه طال ملابس الاستمتاع الزوجي فتمثل في القميص الأحمر فحسب .
تمثل الصراع في مستويات عدة، فهناك الصراع الأساسي في المستوى الأعلى صراع الفقير والمجتمع، في قناع شفاف يكشف مأساة الإنسان البسيط فالموضوع أكبر من البطل والبطلة والمأساة أعمق من أن تتخذ الشكل البسيط السطحي لما قد يفهمه البعض، وهوشفاف لكونه رمزا بسيطا غير موغل في التعمية والغموض، فهو صراع بين حق الفقير وحق الدولة الذي لخصته في عبارة (حق البنك)الذي وقع له كثيرا من الأوراق التي تحفظ حقه على حساب حق المواطن في أن يحيا في ظروف إنسانية، ثم المستوى الأدنى الذي بدا واضحا في صراع الزوجة مع نفسها حيث تصارع غريزتها وانوثتها العطشى إلى الارتواء فهي تخشى مجرد ملامسته حتى لا تشتعل نيران الرغبة بداخلها وإن كان السبب الظاهري هو المشاحنة التي حدثت إثر قولها، وكذلك صراعها مع زوجها نتيجة تصادم وجهات النظر بين رؤيته المتفائلة ورؤيتها الواقعية فهي تعلم مغبة المغامرة للحصول على حق مشروع، وتجسدت قمة الصراع النفسي للبطل في عبارة “كلمتك لي الليلة نبهتني من الغفلة؛ كتمتها كثيرا في صدري؛ لكني أيضا إنسان غلبتني نفسي”. ثم صراعه مع الحياة كي يوفر لنفسه أبسط حقوقه .
وإذا أتينا إلى البيئة المكانية فتتمثل في فضاء ريفي بسيط داخل بيت مزدحم بالبشر في نطاق ضيق حرم الزوجين متعة الحياة .
احتواه إطار زماني غير محدد البداية، ولكن الأحداث استمرت عدة أشهر في إيقاع زمني متماوج بدأ سريعا باتخاذ قرار القرض فالتنفيذ وسرعة الإجراءات التي اتضح تتابع الإيقاع السريع لها بتتابع الأفعال (جلس .. أجابه .. حرر .. تحفظ .. انصرف) ، ثم تباطأ قليلا في بناء الحجرة ووعود الزوج بالمتعة المشروعة، ثم وصل إلى قمة تسارعه بوصف اللقاء الحميمي المرتقب تلاه السعادة التي استمرت عدة أشهر فحسب وصولا إلى النهاية المأسوية المفاجئة بتحطم أحلامهما على صخرة الواقع الأليم. كما عمدت إلى تسريع نطاق المأساة بأن جعلت القرض على غير المعتاد أسبوعيا لا شهريا !
أطالت في وصف الترتيبات لمتعة الحياة في حين كرست الزمن بسرعة شديدة بالتعبير عن مرور عدة أشهر مرت وكأنها تريد أن تقول : “اللحظات السعيدة لا تدوم سريعا”، كما يلاحظ تعمد الكاتبة إخفاء الأرقام بمفردات الزمن لإضفاء شيء من الغموض فلم تحدد سن البطلة مكتفية بعمر زواجها كما أخفت عدد أشهر السعادة.
وإذا تحدثنا عن السرد :
فقد آثرت طريقة السرد المباشر بالطريقة التقليدية والتتابع الزمني المباشر، فأحداث القصة الرئيسية مرتبة ترتيبًا زمينًا في إيقاع سريع فما إن بدأت القصة إلا وانتهت! بنهاية مأسوية مقفولة غير سارة بانهيار سقف الطموحات تحت مظلة الفقر ودخول الزوج الطموح إلى السجن، لتشكّل لوحة سردية واحدة ذات بناء متراص ومتكامل، انسحبت فيه الكاتبة لتترك الحرية للبطل للحركة لتدبر أموره، فتطل عليه من بعيد وتوجهه من حين ﻵخر، نلاحظ تدخلاتها بالوصف من حين ﻵخر، معتمدة في ذلك على ضمير الغائب أي تغييب البطل، ولم تستعمل ضمير المتكلم فإذا كان السرد هو الحبل الذي يقيد به الكاتب القارئ، ويجبره على متابعة الأحداث المحكية فإن الكاتبة استطاعت أن تشد القارئ إلى متابعة أحداث النص، في صفقة رابحة ممتعة وجعله يركز حواسه وانتباهه.
إذا تحدثنا عن اللغة :
فيبدو واضحا قدرة الكاتبة على شحن كمٍّ هائل من الدلالات على الرغمِ من قصر القصة الشديد، كما يبدو استثمار كل لفظ بحيث يصيب هدف المعنى دون حشو أو تكرار، أوإطناب في لغة بسيطة فصيحة في مجملها، لم تصل إلى حد التقعر، ولم تنحدر إلى الابتذال، كما عمدت إلى الانتخاب اللغوي بالاختزال في بعض الكلمات التي تحمل في طياتها دلالات أعمق من معناها السطحي كما في كلمة (إخوتهم) فهما زوجان يعيشان عيشة الإخوة، وفي وصف حدث العلاقة الحميمة الذي جاء بعد اشتياق طويل اختزلته الكاتبة بـ (وكان وكان) دون الدخول في تفاصيل رأت أنها لا تخدم الحدث القصصي.
وفيما يخص الحوار :
فلم تعتمد على الحوار التقليدي (قال وقالت) بل إنه حوار مكتوم من خلال التلميح بما يمكن ان نسميه الصمت الفصيح، فيدور الحوار وكأنه منولوج داخلي يبث إلى الطرف الآخر دون تصريح.
أما الوصف فقد حددت البعد النفسي والاجتماعي والجسدي للأبطال باختصار شديد للبطلة دون البطل، في إشارة إلى أنها تتمتع بجمال وجاذبية .
القصة في مجملها تثير عدة قضايا فهي حرب خاسرة ومصير محتوم حرب مع مجتمع قاس على الفقير، ومصير كل من يحاول تغيير حياته إلى الأفضل، وما تفرع عنها من قضايا ثانوية، كقضية التكافل الاجتماعي من خلال إهداء الزوجة بعض المتاع من قبل الأهل والجيران، وتسهيل إجراءات القرض وتصعيب إجراءات رده، وحفظ حقوق البنك على حساب حقوق المواطن البسيط .
هي صرخة في وجه الظلم المجتمعي تقول : “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.