السير ذاتي في رواية: صوت الطبول من بعيد للكاتب فلاح رحيم
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية, نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة , هي السيرة, أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية , والذكريات, والمذكرات , واليوميات, والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية [1], وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا [2], إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر , هذا ما اخبرنا به الصديق عبد الكريم السعيدي, ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث [3], وفي رواية صوت الطبول من بعيد نجد أنفسنا أمام مدة زمنية قصيرة, و حدث مختزل جدا إلى أقصى حد, و الذي يكون منطلق لمجموعة من التداعيات, و الذكريات المتعلقة بحياة البطل لمدة أشهر قليلة ، و كذلك علاقاته الأسرية ,و الاجتماعية, و النفسية, و كذا موقفه من الحياة, و الناس و السلطة ، غير أن هذه المدة الزمنية القصيرة تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص الأحداث الجزئية المكونة للرواية ككـل ، بحيـث يبـدو لنـا البناء الزمني للرواية السيرة الذاتية عنصرا معقدا,و شريانا حقيقيا من شرايينها [4],
استطاع الروائي الكبير فلاح رحيم سرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ,وشاعرية , وأعطنا صورا فوتوغرافية بأسلوبه المتميز على الكتابة ,والسرد, فنراه يقول:كنا قد تعودنا مؤخرا , أنا وهو , على الخروج في جولات طويلة على طرق صية بعيدا عن الزحام المجنون , وكان هو أكثر ميلا مني إلى الإصغاء ذهب بنا الحديث ذات مرة إلى رواية الحرب , وكان قد طلب مني أن اروي حكايته الحربية كما سمعتها منه مرارا0 قلت له ليس للحرب من حكاية إلا بحضور امرأة معشوقة, حكاية العشق التي تتخللها هي عمودها الفقري [5], تمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين , الذاتي حين تتطابق هوية الكاتب مع السارد , والموضوعي حين تفترق أنا الكاتب, وتحتجب خلفه الشخصية وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية , والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام , والمذكرات , عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه [6].
ورواية السيرة الذاتية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي ,أو السياسي ,أو العسكري ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الروائي , والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما ترتكز رواية السير الذاتي عند فلاح رحيم على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة ,وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية , وفي رواية صوت الطبول من بعيد قد تجسدت بشكل كلي هذه الآليات , فنراه يقول: أتذكر إنني أمضيت سفرتي الشاقة من العمارة إلى بغداد اقلب في راسي أفكارا مشوشة ما لها أصل ولا فروع، ثم قررت أن استعين بالرياضيات علها تمنح هذه الفوضى انتظاما بمنطقها البارد , بدأت بتعريف الوطن انه , هكذا توصلت وأنا اسند راسي المحموم إلى مشمع حافة المقعد أمامي , جغرافيا وإنسان , الأولى تراب , والثاني دم , فإذا عوضنا هذه العناصر بقيم عددية كان الوطن لنقل انه مئة , حاصل جمع التراب والدم لدى الطرفين الأرض هي الأهم [7].
ونلحظ ثمة اقترابا في نص ما بعد الحداثة من نمط الكتابة السيرية, تجانسا مع الألفة الاجناسية المتحققة فيه , التي تندغم فيها الكثير من الخطوط النوعية إلى الحد الذي صارت فيه قضية نقاء النوع أسطورة كلاسيكية بالية أو قناعا متهرئا لا يصلح نقابا للنصوص الحداثية المشعة ببريق الحداثة المتنوع , والمضاد لكل مألوف ومسكون [8] , وتتجلى عند الكتًاب المتنوعي الإبداع الذين تتخلق إبداعاتهم في دوائر فنية مختلفة كالشعر والرواية , والرسم , والترجمة , والكتابة السيرية,إشكالية الألفة الاجناسية فهي قائمة لديهم طريقة لافتة للنظر , وبذلك نلمح تشاكلا غريبا في القوانين التي تحكم أساليب الفن لديهم وتؤلف بينها , كما تتهجن أساليب الحياة خالقة مسارها العجيب الواحد المتنوع [9].
وفلاح رحيم , هو واحد من الذين فاضت كتاباتهم بتلك الألفة , ونزفت شرايين إبداعه بدماء ذات ألوان متباينة تمتزج , كما تمتزج خطوط اللوحة ألوانها , وهو حين يكتب سيرته كثيرا ما يشير إلى أن أوراقا كثيرة قد نفذت منها إلى كتبه الأخرى , فنراه يقول : فتح سليم عينيه على عالم جديد 0 فوقه سقف حليبي شاهق, وفي أطرافه برد منعش , وتحته فراش وثير وسرير يعلو عن الأرض ! عالم غريب غرابة الموضع الخانق وحشية الإسفنج الخفيفة ينقلها بين الموضع والهواء الطلق مجازفا بحياته 0 عالمان غريبان يستنكر احدهما الآخر ويقاطعه وهو بينهما لا ينتمي إلى إي منهما, لا ينتمي إلا إلى جسده الضائع بينهما , استوي جالسا على السرير [10],بينما تقوم السيرة على شخصية أحادية، تختزل الثلاثة في واحد، وتستوعب الفنون والعلوم في قالب واحد يصوغها الروائي بالخيال الممزوج بالحقائق هو السيرة الذاتية , وكيف وظفها الروائي العراقي المغترب فلاح رحيم في روايته.
ونصوص الحياة لا تماثل نصوص الكتابة , وتأبى أن تنخرط ضمن تراتبية المقولات الاجناسية , ولابد لها من الدخول في عمليتي التقطيع ,والمونتاج الفنيتين ليعيد الفن أنتاج الحياة ,فينفلت النص عن عالم الكاتب , ومهما كان نص التأليف غرائبيا فنجد ثمة مسافة , تقترب أو تبتعد من الحياة, تفصل بين نص المؤلف ونص الحياة , ليضع المؤلف حدا فاصلا بين ما يروي وما حدث , بين من يروي عنهم وبين ذواتهم , ويتخفى الراوي وراء صنوف الحكايات والأخبار المتنوعة [11] .
فنراه يقول : ما يدعوني إلى الانتقال من كتابة اليوميات إلى تأليف الحكاية , عدا هذا البزوغ الكارثي للحدث الجامع , هو اقتراب عام 1981 المشؤوم من نهايته. انه أول عام تتبلعه الحرب كاملا إلى جوفها الملتهب, لكنه أول عام تمضيه بيانكا في العراق. أليست هذه مفارقة طريفة ؟ نحن نقترب من نهاية العام وبعد اقل من عشرة أيام ستحتفلين بأعياد الميلاد كما قلت لي عيد ميلاد سعيد مقدما ما اكتبه لايصلح هدية لمثل هذه المناسبة لأنه حكاية عن الموت ,والحدث المدمر[12].
والزمن الذي يبقى عند طرفي الرواية السيرة الذاتية, البداية و النهاية , وبما أن الرواية ليست حدثا يسير أفقيا فإنه من الصعب بما كان تحديد زمنها الخارجي ,و مع ذلك فإننا نعتمد في تحديد هذا الزمن على مجموعة من القرائن التي تدل عليه ، كون الحدث الأول ، متى وقع ذلك في الليل, أم في النهار, فهذا المقطع يدلنا على أن الزمن هنا يتعلق بمدة معينة، لذا فإن الزمن الخارجي للرواية السيرة الذاتية يقوم على مدة محددة, و قصيرة ويكون بذلك الزمن الإطار الخارجي لكامل أحداث الرواية السيرة الذاتية وهو زمن الحاضرونجد ذلك قد تجسد عند الراوي ,وهو يتحدث عن شخصيته الرئيسة , فنراه يقول: قفز نظر سليم إلى الزواية اليمنى العليا من الرسالة : الثاني من حزيران 1982 0 كانت بيانكا دقيقة في حساب موعد أجازته فها هو ذا يقراها في السادس عشر من حزيران وأجازته تنتهي في الحادي والعشرين. طوى الرسالة كما تطوى مدية حادة وتجنب التفكير في أمرها مرة أخرى. سألته أنعام عن ما بها فقال أنها مواساة أخرى ومشاعر متوقعة[13].
ما تميز به الروائي الكبير فلاح رحيم ثقافته الواسعة, وقدرته الفنية على سرد الأحداث, وإدخاله تقنيات حداثوية في الرواية مثل الرياضيات, والمونتاج الفني السينمائي , والثنائيات, والمتناقضات, وسلطة المثقف المغمور , فضلا عن الحبكة المتماسكة والرائعة, والشخصيات المتنوعة, والذروة في الحدث, وأرخ لحقبة زمنية مهمة من تاريخ العراق المعاصر في رواياته كلها .
المراجع:
[1] شعرية السرد في شعر احمد مطر : د. عبد الكريم السعيدي : 39
[2] عندما تتكلم الذات : 9
[3]تمظهرات التشكل السير ذاتي : 135
[4] دراسات في القصة العربية الحديثة :33
[5] رواية صوت الطبول من بعيد : فلاح رحيم : 7
[6] أصل الأجناس :تزفيتان تودوروف :118
[7] رواية صوت الطبول من بعيد : 296
[8] لعبة المتاهة في التأويل : د. بشرى صالح :127
[9] م0ن :127
[10] رواية صوت الطبول من بعيد :213
[11] لعبة المتاهة في التأويل : 128
[12] رواية صوت الطبول من بعيد : 266
[13] م0ن: 348