تنهض بيروت فينهض لبنان .. وإلا …
توفيق شومان | مفكر وإعلامي لبناني وخبير سياسي
يختصرالناس الولايات المتحدة بأميركا ، ويخلعون إسم الكل على الجزء، لأن الجزء يرمز إلى الكل.
ويختصر المصريون القاهرة بمصر كلها ، ويزاوجون بين مصر والقاهرة ، ويصفونها بـ ” أم الدنيا ” مع أن القاهرة حديثة الوجود والعمران نسبيا .
والسوريون يسمون دمشق بالشام ، مع أن بلاد الشام واسعة وشاسعة ، وهنا أيضا يُختصر الكل بالجزء .
بيروت بالنسبة إلى لبنان ، هي لبنان، وإذ لا يختصر اللبنانيون لبنانتيهم ببيروت قولا ولفظا ، فإن سلوكياتهم وثقافاتهم تؤكد “بيروتيتهم” ، وسيادة اللهجة البيروتية المدجنة، غزت واستولت على اللهجات المناطقية والطرفية بصورة شبه كلية.
هذه دلالة انتماء لبناني عام إلى بيروت
الدلالة الثانية تكمن في اتساع الضواحي حول بيروت .
فالضواحي هي مسعى الإقتراب من المركز ، لمن عجز عن ذلك سبيلا ، بل هي انتماء لبيروت ولو كان عن بُعد.
هكذا هي الضواحي حول بيروت ، إذ تبدو الضواحي المنتشرة شرقا وجنوبا وشمالا ، أشبه بأبناء وبنات يحيطون أمهم ، وأمهم هي بيروت .
الدلالة الثالثة تتمثل في الليونة البيروتية ، والقدرة على استيعاب الوافدين من الأطراف ، فالمرونة البيروتية ، لم يجذبها تصنيف الآتين من المناطق بين ” المحلي ” و الغريب ” ، فلا غرباء في بيروت ، وقد استوعبتهم المدينة في كل أزقتها وأحيائها : من الطريق الجديدة إلى المزرعة، ومن النويري إلى الخندق الغميق ورأس النبع ، ومن البسطة إلى مار الياس والحمرا ورأس بيروت ، إلى عين المريسة والجميزة والصيفي والأشرفية وغيرها .
هذه القابلية للإستيعاب ، دفعت بالخليط اللبناني والمختلط ، والمتعدد والمتنوع أن يعكس صورته في بيروت ، وغدت بيروت صورة عن لبنان ، بل واقعا عن لبنان ، بل لبنان هونفسه في حضوره وشخصه وذاته .
مثل هذه القابلية غير متوافرة في الأطراف ، فالأطراف أكثر انطواء على نفسها ، والوافد إلى الأطراف يبقى غريبا مهما طال زمنه وأمده، فالمدن أكثر رحابة وانفتاحا وتسامحا، وفي لبنان ـ بالمعنى العام ـ مدينة واحدة هي بيروت.
ولذلك ، بيروت ، اختصرت لبنان بطوائفه ومذاهبه وأحزابه واتجاهاته ، وبأطرافه ومناطقه ، وبأريافه ومدنه.
بل إن بيروت ، اختصرت في لحظة ذروتها الثقافية والإقتصادية والسياسية والجمالية ، جميع العرب وجموعهم وأجمعهم ، بأنظمتهم وسياساتهم ، بحروبهم وانقلابتهم ، بمطابعهم وإعلامهم ، وشعرائهم وأغانيهم ومقاهيهم ، وقد كان الشاعر الكبير نزار قباني أجرأ العرب بفضيلة الإعتراف بالغيرة من بيروت وإلى حدود نحرها ، حين أنشد قصيدته الشهيرة عن بيروت وقال :
يا ست الدنيا يا بيروت
نعترف أمام الله الواحد
إنا كنا منك نغار
وكان جمالك يؤذينا
نعترف الآن
بأنا لم ننصفكِ … ولم نعذركِ … ولم نفهمكِ
وأهديناك بدل الوردة سكينا .
ذاك اعتراف الفاضلين ، مصحوب مع بكائية مشهودة .
ما يلاحظ منذ حين : شيوع دورات الحياة الطائفية والمذهبية المنفصلة عن بيروت الجامعة ، وبروزعصبيات المناطقيات الحادة ، وسطوع الخطاب الطائفي وخفوت الخطاب الوطني ، وصعود الفيدراليات السلوكية المؤسسة لثقافات متصادمة ، وتفشي الإنعزاليات الإقتصادية ، تطرح سؤالا مصيريا حول مصير العاصمة اللبنانية ، وحول إذا ما فتىء بالإمكان الحديث عن بيروتية لبنان وبيروت الجامعة لكل اللبنانيين .
مصير بيروت يعني مصير لبنان ومصير لبنان مرتبط بالإجابة على. مصير بيروت .
هل يمكن الحفاظ على ما تبقى من رمزية بيروت ؟ هل يمكن صون آخر مساحات الرحابة والإجتماع الوطني العام ؟ هل يمكن أن تبقى بيروت متنوعة بأصولها ؟ وأهم من كل ذلك : هل يمكن أن تبقى بيروت حاضنة للفروع الذين سرعان ما يتحولون إلى أصول ؟
هل تبقى بيروت ؟
هل تبقى بيروت ليبقى لبنان ؟
سلام لبيروت …