إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: مشهد مهيب، وحوار فريد (1)
رضا راشد | الأزهر الشريف
إنه ذلك المشهد الذي ما فتئ عيد الأضحى يذكرنا به في كل عام، وأنى لنا أن ننساه؟! والذي يفيض عبرا وعظات؛ مشهد إنباء إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما السلام بما أوحي إليه من ذبحه ،مشهد تغشاه سكينة يتوهمها من ينظر نظرة مجردة من أي معرفة سابقة عن طرفيه وعبوديتهما لربهما – بأنه قد زايلهما عقلهما ونبا عنهما إحساسهما .وتالله ما هو زوال العقل ولا موت الإحساس، ولكنه الإيمان واليقين الذي يغمر القلب فيستقبل البلية استقباله النعمة .
أي سكينة غمرت قلب خليل الرحمن وهو يعانى ما يعانى من الابتلاء المتراكب في ابنه والذي تعددت وجوهه على النحو التالي:
١-بأن كان في ولده، وما أشد تعلق قلب الوالد بولده .
٢-ثم أن كان في ابنه الذكر وقد جبلت النفوس على حب الذكور بما يجعل الابتلاء فيهم أشد.
٣-ثم أن كان في ابنه الوحيد، فلا أخ له يعوض القلب عن غيابه.
٤- ثم أن كان الغلام حليما قد استولى بحلمه على قلب أبيه ؛
٥-ثم أن كان كبيرا، والنفس أصبر على فراق الولد الصغير منها على فراق الكبير ؛ إذ كلما كبر الولد ازداد تعلق الأب به.
٦- ثم أن كان {بلغ معه السعي} ولم يكن مجرد ابن كبير فحسب، ومعناه أنه كان يعد سندا لأبيه في مهمات الأمور ،ومن كان بهذه الصفة من الأبناء كان تعلق قلب الأب به أشد .
٧-ثم أن كان البلاء موتا لا مرضا ،وقد تتصبر النفس لمرض الابن بما لا تتصبر بمثله لموته.
٨- وأن كان قتلا لا موتا، والنفس أشد جزعا عند القتل منها عند الموت ،ومن هنا كان الصبر على القتل أشد من الصبر على الموت.
٩- وأن كان ذبحا لا قتلا، ولا شك أن الذبح أكثر إيلاما من القتل .
١٠- ثم أن كان إبراهيم هو المعالج لذبح ابنه، ولو كان المتولي للذبح غيره في غيبة من إبراهيم لكان أهون عليه .
ظلمات من البلايا بعضها فوق بعض تزيغ لها الأبصار ، ومع ذلك تحملها قلب الخليل عليه السلام بلا جزع ولا سخط، بل بكل سكينة تفيض من ثنايا حروفه وطوايا كلمه .
وليس بأعجب من سكينة غمرت قلب الخليل وهو يكاشف ابنه بالأمر -إلا تلك السكينة التى غمرت قلب الذبيح إسماعيل وهو يتلقى أفزع نبأ يمكن أن يتلقاه ابن من أبيه ؛ فلا جزع ولا سخط ولا تشكٍّ، بل امتثال عجيب يجعل منه أعلى صور البر من الأبناء للآباء على مستوى البشرية بلا منازع.
ألا ما أحوجنا -نحن المسلمين- اليوم إلى تمثل هذا المشهد المهيب: كيف كان؟ وإلى تدبر ما احتوى عليه من حوار فريد بين الأب وابنه في أصعب أمر يمكن أن يدور فيه حوار بين أب وابنه .
وإنما تنبع حاجتنا لتدبر هذا الحوار من رحم المعاناة التى يعانيها مجتمعنا لكثرة الأزمات التى يعج بها، والتى تعد من أكبرها أزمة انعدام الحوار بين الآباء والأبناء الذين تجاوزوا حد الطفولة، بسبب من الآباء وأسباب من الأبناء.
فالآباء يفشلون غالبا في العثور على قناة الاتصال المناسبة للحوار مع أبنائهم الكبار، وكذا الأبناء في سن الشباب :ما إن تأتبهم نصيحة من آبائهم إلا كانوا عنها معرضين وبها مستهزئين، فكلما أرشدهم آباؤهم إلى شيء جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا .
أزمة كبرى تنذر بوخيم العواقب، لعل أخطرها انشغال الآباء عن الأبناء يأسا من استجابتهم لتوجيهاتهم،وعقوق الأبناء للآباء، ثم غرقهم في لجج التيارات الفكرية المنحرفة عن جادة الحق والصواب: تطرفا أو إلحادا ..أو ما شئت من خطر بعد. ولا غرو: فقد أفلت زمام السفينة من يدي ربانها فلدهل تنتظر إلا أن تغرق السفينة بمن فيها؟!
يعلمنا هذا الحوار كيف يخاطب الأب ابنه.(الذي بلغ معه السعي) في أخطر المسائل، وكيف يستقبل الابن كلام أبيه الاستقبال الأمثل ويجيب عنه الجواب الأحكم .
حوار يمثل طرفاه البذرة والثمرة، فكان كلام الأب هو البذرة التى أثمرت تلك الثمرة الطيبة ممثلة في جواب الابن .
وإنَّ تدبُّرًا في هذا الحوار وما تركب منه وتأمُّلاً في الجذور الذي نشأ عنها ليفضي إلى ما يلي :
اشتمل الحوار على كلام من الأب وجواب من الابن، وكان جواب الابن متسقا مع كلام الأب غاية الاتساق (مبنى ومعنى) ،فانظر ماذا ترى:
احتوى كلام الأب على ثلاث جمل :
(١)جملة ممهدة للغرض الرئيسي من الكلام {يابني}
(١)وجملة هي بيت القصيد ورأس المعنى الذي قصد الإخبار به {إني أرى في المنام أني أذبحك}
(٣) وجملة متممة لهذا الغرض ومترتبة عليه {فانظر ماذا ترى}.
وعلى نسق كلام الأب جاء كلام الابن، فقوبلت ثلاثية الأب بثلاثية الابن :
(١)جملة ممهدة {يا أبت}، قوبل بها قول الأب: {يا بني}.
(٢)وجملة هي بيت القصيد ورأس المعنى: {افعل ما تؤمر} قوبل بها قول الأب: {إنى أرى في المنام أني أذبحك}.
(٣)وجملة متممة للغرض الرئيسي:{ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، قوبل بها قول الأب: {فانظر ماذا ترى}.
وتأمل معي متعجبا كيف رُتِّبَتْ الجملُ بحسب مرتبة المعنى الذي تؤديه؛ فبدئ بالتمهيد، وختم بما يتمم المعنى، بينما جاءت الجملة التي رأس المعنى واسطة العقد مسبوقة بالتمهيد ملحقا بها الخاتمة، وكأنها بناء هندسي تناسقت أجزاؤه، وتلاحظت مكوناته، وانسجمت لبناته، وسبحان ربي الذي أحكم كل شيء.كانت ثلاثية الأب:(ملاطفة، ومكاشفة، ومشاورة)وكانت ثلاثية الابن:(مهابة، وموافقة، واستعانة).
(١) {يا بني}: ملاطفة، وتودد وتحبب،وتحنن، يدل عليه هذا التصغير للتدليل(بنيّ) لابن تجاوز نطاق الصغر، حتى {بلغ معه السعي} ، وهي رسالة لكل الآباء بأن الأبناء مهما كبرت سنهم فهم لن يستغنوا لحظة عن حنان الأب وعطفه وحدبه، ورسالة لإسماعيل بأن هذا الذي سيتلو جملة النداء لا يعنى ألبتة تجردا من عطف الأبوة ولا انخلاعا من حنانها، ولكنه الامتثال لأمر الله وكانت إجابة إسماعيل من بعد أن سمع كلام أبيه بكل سكينة يغبط عليها: {يا أبت} تفيض حروفها حبا ومهابة وتبجيلا واحتراما للأب الذي أخبر ابنه توا بأنه عما قريب (يوم أو بعض يوم) سيضجعه لذبحه بيديه؛ وهي رسالة من إسماعيل لأبيه إبراهيم بأن ذبحك لي لا يبيح لي التجرؤ على مقامك، ولا الانتقاص من هيبتك ؛ لأنى على يقين من أنك لن تفعل ما فعلت إلا بوحي من ربك، فمهما فعلت بي فليس مسوغا لي أبدا للانتقاص من مقامك .وهي رسالة من بعدُ لكل ابن يرى ما يتوهمه قسوةً من أبيه بأن ذلك لا يبيح لك أبدا التجرؤ على مقام أبيك ؛ فإن ما يفعله معك -مما تتوهمه قسوة- إنما فعله بوحي من ضميره وقلبه، أو بوحي من عقله، وكلاهما مما لا يتصور منه (في عادة الناس) أذى ولا إضرار (ودعك من شواذ الأباء فلسنا نتكلم عنهم).
(٢){إنى أرى في المنام أني أذبحك} هكذا بكل صراحة، وكأن في هذا رسالةً لكل أب بأنه ليس هناك سبيل آمَنُ ولا أقصر للوصول إلى الغرض من الصراحة ،وكان يمكنه أن يأخذ ابنه على حين غفلة منه، ويضجعه قهرا لينفذ فيه أمر الله دون مشاورة ولا مصارحة. ولكن الخليل عليه السلام يعطينا الأسوة الحسنة في محاورة الأبناء .
هذا وقد أراد إبراهيم بما ذكره في كلامه{إني أرى في المنام أني أذبحك} إخبارَ ابنه بأن هذا الذي هو مقدم عليه من أمر الذبح ليس عن إرادته صدر، ولا عن اختيار منه سيكون، ولكنه بوحي من ربه عن طريق المنام. وإبراهيم عليه السلام وهو يخبر ابنه بذلك، إنما يعول طبعا على ما يَعْلَمُه إسماعيل -بحسن التربية – بأن رؤيا الأنبياء وحي، وقد تضمن هذا الوحي مناما: الفعل(وهو الذبح)، والفاعل (وهو إبراهيم)، والمفعول به (وهو إسماعيل)، وقد تضمن الأمور الثلاثة كلها قوله: {أذبحك } ، زيادة على ما في الفعل المضارع من معالجة الذبح، وهذا يدل على صدق الرؤيا، فهو قد رأى أنه يعالج ذبح اسماعيل من حيث إضجاعه وتهيئته للذبح ومحاولة إمرار السكين على عنقه دون أن يتم الذبح، وإلا لقال: (أنى ذبحتك)، ولو قال ذلك – تعبيرا عما رأى- لانتهى الأمر بذبح إسماعيل لان رؤيا الأنبياء وحي والوحي صادق لا يتخلف ،وهذا من فيوضات التعبير بالمضارع هنا.
وقد فهم إسماعيل – بحسن ما تربى عليه من الدين والفقه- ذلك؛ فقابل كلام الأب بقوله: {افعل ما تؤمر} ولم يقل افعل ما تريد أوافعل ما تأمر؛ لأنه يعلم أن الأمر برمته وحي للأب لا اختيار له فيه ولا إرادة له في تجنبه.
ثم تجيء الجملة الثالثة من الأب وهي :
(٣) {فانظر ماذا ترى}: جملة ظاهرها المشاورة والمؤامرة، ولكنها في الحقيقة لم يرد بها إلا توسيع دائرة العبودية والامتثال المطلق لله في كل أمر ونهي مهما كان مضادا لرغبة النفس وأهوائها ،فلم يشأ إبراهيم أن يكون هو وحده الممتثل أمر ربه بل أراد أن يشاركه ابنه امتثال أمر الله؛ لينتج عن الموقف عبدان لله لا عبد واحد(الأب وابنه) .
ومما يدل على أن الأمر ليس مشاورة وإن جاء على صورتها أن إبراهيم ما كان ليأخذ برفض إسماعيل لو كان رفض الامتثال، فهو قد شاوره: فإن امتثل فبها ونعمت، وإلا كان سينفذ أمر الله فيه على غير رغبته .
وهذه رسالة من إبراهيم لكل أب أن يشاور أبناءه في كل شيء، حتى في أخطر الأمور. فإنك لو تصورت أبا يشاور ابنه لتصورته يشاوره في كل شيء إلا أن تكون المشاورة في ذبحه بيده= ولو تصورت ابنا يوافق أباه في كل الأمور خطيرها وجليلها ما تصورت ابنا يوافق أباه قط على ذبحه، ولكن موافقة الابن كما قلنا جاءت ثمرة طيبة لبذرة طيبة غرسها الأب بقوله{ فانظر ماذا ترى} .
ولئن كانت {فانظر ما ذا ترى} في ظاهرها مشاورة يراد منها استعانة الأب بالابن على توسيع دائرة العبودية، بشمول الامتثال للأب وابنه معا – ولهذا قال ربنا{ فلما أسلما وتله للجبين} بألف التثنية – فقد جاءت إجابة الابن {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} استعانة من الابن بالله على امتثال أمر ربه؛ لما يعلمه إسماعيل بالفطرة من أن الموت شاق وما يعلمه بالضرورة من الواقع من أن أمر الذبح شديد مؤلم، فهو محتاج إلى صبر يس في إمكانه تخصيله بنفيدسه إلا أن يستعين على ذلك بالله عز وجل ، وهو ليس صبرا معتادا، بل صبر من نوع فريد يدخل به صاحبه في زمرة المعهودين بالصبر المعروفين به،ولهذا قال إسماعيل عليه السلام {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} ولم يقل كما قال صاحب موسى عليه السلام {ستجدنى إن شاء الله صابرا} وفرق شاسع بين اللفظين ؛فاسم الفاعل {صابرا} لا يدل على أكثر من تلبسه بالصبر، أي صبر كان، حتى ولو كان في أدنى درجاته، أما {من الصابرين} فهو يدل على ارتقائه درجة من الصبر أدخلته في زمرة المشهورين بالصبر المعروفين به؛ من أن(ال) في الصابرين للعهد.
بهذا يتبين لنا كيف يكون الحوار بين الأب والابن مثمرا: تلطف ومصارحة ومشاورة من الأب، تقابل باحترام وامتثال واستعانة بالله على الامتثال من الابن؛ ليظل هذا المشهد المهيب – بما احتوى عليه من حوار فريد- مضرب المثل في رعاية الآباء للأبناء وبر الأبناء بالآباء؛ فهو – فيما أزعم – أعلى وارقى صورة لبر الأبناء بآبائهم يسطرها في أجل صفحات التاريخ أبونا أبو العرب الذبيح إسماعيل عليه السلام مع أبيه أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام.
ولئن كان موقف إسماعيل الذي دل عليه كلامه ثمرة لموقف أبيه إسماعيل الدال عليه كلامه، فإن هذا المشهد – بما احتوى عليه من حسن امتثال الأب والابن معا لأمر الله في أشق الأمور- لهو ناجم عن عوامل كثيرة سواء في جانب الأب ام في جانب الأم نتحدث عنها في مقال لاحق إن شاء الله .
يتبع إن شاء الله