الموشحات في شعر الشيخ عبد الله الخليلي

شيخة الفجرية | كاتبة عُمانية
يسجل التاريخ الأدبي في عُمان، سجِّلًّا حافلًا بالدفق الشعري والأدبي للشاعر الأديبِ العمانى الكبير الراحل عبدالله الخليلي (1922- 2000م)، الذي إن لم يأخذ “من كلِّ علمٍ بطرف” كما قال ابن خلدون، فلا شكَّ بأنه أخذ من كل شعرٍ بطرف، من خلالِ ما لمسناه في كتبه ودواوينه الآتية: “من نافذة الحياة” و “وحي العبقرية” و “وحي النهى” و “بين الفقه والأدب” و “على ركاب الجمهور” بالإضافةِ إلى ما تمَّ نشره في الصحف والمجلات ولم تتضمنها هذه الدواوين.
يقول عنه الدكتور أحمد درويش (أستاذ النقد الادبي والأدب المقارن بجامعة القاهرة، مستشار جامعة السلطان قابوس): “وهذا الشاعر الذي تجرد جوادا هو الفارس الذي تجلت فروسيته في كثير من قصائد هذه المجموعة وغيرها، وظهر عشقه للغة في ذاتها وللشعر في ذاته وتمكنه من وسائلهما والعدو في مضمارهما مؤهلا له لحمل لقب “فارس الضاد “”. كما يقول عنه الكاتب محمد بن سليمان الحضرمي: “إذا قلنا إن عبد الله الخليلي هو شيخ القصيدة العمانية خلال النصف الأخير من القرن العشرين فليس في ذلك مبالغة ولا إطراء، قصيدته جامعة للكثير من اللطائف البلاغية بمعانيها وبيانها، إلى جانبا ما تمتاز به من انفراد لغوي، إذ فيها خليط سحري من الإلهام المقذوف في لب الشاعر والاستلهام الذي يوظفه ليوشي به قصيدته، عشق يتجلى في لغة ناصعة ليس فيها حشو ولا مفردات ركيكة”. كأن يقول في موشحةٍ بعنوان، “روحي”:

“في خفة الظل بل في خفة الروح ^^أطرت لبـي وما باليت في روحي
فـداك روحي كقـلب فيك مجروح ^^ ودمت أنت وعـيش الحب نوّار
وأنت للعيش نوّار وأنوار ^^ والحب في مربضيه البرد والنار
فروِّحي مهجة المشتاقِ أو روحي”

فهذه إحدى أجزاء موشحات أمير البيان العُماني، الشيخ عبدالله الخليلي، في ديوانه الضخم: “وحي العبقرية”، و كان العنوان كالآتي:” المجال الثامن رسائـل الحـبيـب من فـن الموشـحات”، وكان اسم الموشحات كالآتي:” رسائـل الحـبيـب”، و” إلى الـملاح “، و” طَـائِـر الجـمَـال”، و” النجم الحائر”، و” فـلـسطـيـن”، و” مَـعَـاهِـدُ الْـحُـبِّ”، و” بـنت الــيـمّ”، و” الحُـْسن”، و” الترادف الممتع”، و” سَـمْـرَاء”، و” رُوحـي”. ولأننا -في حدود علمنا واطلاعنا وبحثنا-لم نجد أثرًا لممارسة الموشحات فنيًّا في عُمان قديمًا وحديثًا، فإننا نزعم أن الشيخ عبدالله الخليلي هو أول من استنَّ كتابة الموشحات في عُمان، فهل تبع هذه الكتابة تطبيقًا فنيًا؟! كل ما نعلمه أنَّه ثمة فرقة موسيقية عُمانية؛ أو ربما فرقتان عمانيتان بدأت تلتفت مؤخرًا لغناء الموشحات في السلطنة؛ وأنه لا يوجد تاريخ غنائي عماني للموشحات في عُمان قديمًا أو حتى في الزمن القريب الذي عاش فيه الشاعر.
وبالعودة إلى أصل الموشحات، فإنها فن أندلسي بحت، نشأ في عهد الأمير عبد الله بن محمد (275-300 هـ). يقول ابن سعيد: “ذكر الحجاري في كتاب المسهب في غرائب المغرب أن المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ عنه ذلك أبو عمر بن عبد ربه صاحب “العقد” ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكدست موشحاتهما”. إذ يذكر ابن بسام عن منشئها -في رأيه- محمد بن محمود القبرى الضرير أنه كان: “يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز و يضع عليه الموشحة”، وتوزعت نصوص الموشحات في الكثير من المراجع أهمها كتاب ابن سناء المُلك: ” دار الطراز ” وكتاب: “سفينة شهاب”، للشيخ محمد شهاب الدين المكي، وكتاب:” العقد الفريد” للمؤرخ ابن عبد ربه، وكتاب: “الأغاني” للأصفهاني. بعدها انتشرت في أوروبا إلى أن وصلت لشعراء” التروبادور” الفرنسيين، الذين استعملوا الموشحات في رقصاتهم وأغانيهم الشعبية، وكان” أول شاعر تروبادوري “جيوم دي بواتو”؛ الذي كتب أشعاره بين سنة 1100-1127م تقريبا.
وبعد سقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري عام 897هـ، أي في القرن الخامس عشر الميلادي، عام 1492م، وصلت هذه الموشحات إلى الشام ومصر عبر الشاعرين” عبادة بن ماء السماء”، و “يوسف بن هارون الرمادي”، الذين طوروا الموشح لغة وأداءً وأهمهم وعلى رأسهم ابن سناء الملك، الذي تناول الموشح وأشكاله، وأقسامه، وتاريخه؛ في كتابه: (دار الطراز في عمل الموشحات).
والموشحات جمع مفردها موشَّح، والموشَّح لغة-كما في معجم اللغة العربية المعاصر-: مصدر وشَّح، وهو نوعٌ من الشِّعر له أسماط وأغصان وأعاريض مختلفة لا يتقيَّد فيها النَّاظم بقافية واحدة، وهو من ابتكار الأندلسيِّين، وقد سُمِّي كذلك لأنه يشبه الوشاح بأشكاله وتطاريزه، وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات.
على أن يَدُلّ أوّل البيت على القافية: -سئمت تكاليفَ الحياة ومن يعشْ … ثمانين حَوْلا، – لا أبالك، – يسأمِ: فالتَّوشيح في كلمة (سئمتُ).
أمَّا اصطلاحا -بحسب نورا السيد في كتاب: الأشكال البنائية لبعض صيغ التأليف الغنائي العربي والغربي -: فـ”هو نوع من الغناء الجماعي المميز كلماته مقفاه تشبه أوزان الشعر، ولكنها لا تتقيد ببحوره وأوزانه الموروثة، ويغلب عليه الفصحى وتدخله بعض الالفاظ الدارجة العامية، كما يتميز أيضا بقصر الفقرات ورقة الالفاظ وتنوع الالحان، ويشترك في أدائه المجموعة بينما ينفرد المغني الصولو بأداء بعض الأجزاء”. وتتكون موشحات الشيخ عبدالله الخليلي من ذات البنائين التين اشتهرت بهما الموشحات الأندلسية؛ وهي:

أـ البناء الشعــــري الذي ضم:
1ـ المطلع والمذهب واللازمة.
2ـ القفل.
3ـ الدور.
4ـ السمط (كل جزء أو شطر من أشطر البيت)
5ـ الغصن.
6ـ الخرجة.

ب ـ البناء اللحني:
ويجري توزيع البناء اللحني حسب المقامات اللحنية المناسبة لكل موشح، وقد جاء هذا البناء في موشح ” طَـائِـر الجـمَـال”، الذي يناسبه كثيرًا مقام البستنكار (وهو من فصائل مقام السيكاه)، ويكون الضرب الايقاعي له: السماعي الثقيل. وعليه يكون البناء اللحني للموشح: مكونًا من (بدنية أولى+ بدنية ثانية + خانة + قفلة)، وهي كالآتي:

البدنية الأولى:

يا طائر الجمال ^^ على الـقدود السمر
     رفرف على الدلال ^^ فوق الغصون الخضر
تحت الهواء الطلقِ
البدنية الثانية:

يا خافق الجناح ^^ فوق غصون الآس

انزل بلا جُناح ^^ باللّدن المياس
انزل بلا توقِّ

الخانة الأولى:

في همسة النسيم ^^ في نفحة الزهور
في لذة الـنعيمِ ^^ في بسمة الـثغور
تـَلـثمها برفقِ
القفلة:

في قُـبلة المشتاقِ ^^على الشفاه الحمرِ
       في ضمة الأشواقِ ^^ بين الطَّلى والسَّحْرِ
تحت خنوع الرقِّ

وتنوعت الأغراض الشعرية لموشحات الشاعر الخليلي، فقد تحدثت موشحاته عن بعض الأغراض للموشحات الأندلسية، إذ قال الآتي في الحب:

“رسائلَ الحبيبِ ^^ في نفحات الطيبِ
حيَّـتْـكَ في الفضاءِ ^^ بلابلُ الأحشاءِ
قـبلَ بلوغ القـصد
رسائلَ الحبيبِ
حيتـك عـني روحي ^^ ببالغ الجروح
شفيعها دماها ^^ إلى الذي أدماها
في هزله والجـد
رسائل الحبيب”

وفي خمر الحب الحلال قال:

“أيها الساقي على تلك الظلالْ ^^دون ِإشفاقِ
أدِرِ الكأس على لحن الجمالْ ^^بين عشاقِ
إن خمر الحب للصَّب حلالْ ^^ أيها الساقي
على وَحي الغرام”.

ثم أسهب في الوصف من خلال موشح بنت اليَمّ، ويقصد بها السفينة؛ فيقول:

“يا ابنة اليم علاك المرح ^^ وتعالاك الشباب المرح
وسرى بين بنيك الفرح ^^ أنت لوح اللطف بل روح الهنا
أنت إن تشكر يد من محسن ^^ فاهنئي شكر البلاغ الحسن
كم مخرت البحر بين السفن ^^ وتراميت على لج المنى
هوني السير قليلا واعبري ^^ ضفة الشاطئ بين الأبحر
واستثيري الأنس فوق النهر ^^ بين عالي الدوح أو عالي البنا
يا ابنة اليم قفي بين القصور ^^ وقفة الناظر في رمز السطور
ودعينا نستمع رجع الطيور ^^ ونودعك بألحان الثنا”.

ونظرًا للمكانة الأدبية الكبيرة التي يحتلها شاعرنا أمير البيان العماني بين  العمانيين، فقد أقام النادي الثقافي محاضرة افتراضية بعنوان:” الموشحات في شعر الشيخ عبدالله الخليلي”، قدمها الشاعر علي بن سويلم الهاشمي، وألقى المحاضرة الدكتور علي بن شافي الشرجي الذي قال عن ظهور فن الموشحات في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي بأنه:” مظهر من مظاهر الأدب الأندلسي، يتجلَّى فيه  طابع الحياة الجديدة، ويعكس الواقع في رحابِ حياةِ الناسِ آنذاك”، وتحدث عن موشحات الشاعر الشيخ عبدالله الخليلي من الناحية العروضية فقال:” جميع هذه الموشحات التسع، لم تخرج عن إطار الأوزان الخليلية، بخلاف ما يذكر عن الموشحات بأنها تستخدم الأوزان  المهملة، فهذه الموشحات لم تخرج عن الأوزان الخليلية، فهي جاءت  على البحورِ التامةِ والمجزوءة، ولم يستخدم الشاعر البحور المهملة التي تتميز بها الموشحات بشكلٍ عام، جاءت موشحات من البحور المجزوءة؛ مثل: الرجز، والكامل، والرمل. وبالرجوع إلى عناوينها وموضوعاتها تظهر مناسبة بمجيئها بالأبحرِ المجزوءة، كونها تتحدثُ بـ وعن لغة القلب والمشاعرِ والأحاسيس، في تدفقٍ عاطفيٍّ مشوب بالوصف في دقّةٍ وتخيّرٍ من الألفاظ، بينما وظَّفَ الشاعر الخليلي بحري الرمل والكامل التامّين في موشحتين، إحداهما تعجُّ بالصناعة اللفظية، لتوظيف الحروف الهجائية المتتابعة في موضوعها؛ مثال ذلك قصيدة أو موشحة الهازئ التي يقول في مطلعها:

أيها الهازئ لما استهزءا^^بكريم العرض منه وانثأى
عنه في مرتبأٍ عال مهيب
لكنه هاج برامٍ قد سبا^^لبه ثم اختفى تحت الخَبا
وهو في الدوحٍ على مرمىً قريب

التزم فيها بالحروف الهجائية في القافية”، وما أودُّ قوله: بأن فن الموشحات الأندلسية وافد جديد على الثقافة العمانية من حيث الممارسة، ولابد من التعاطي معها بما يليق بالفن الموسيقي في عُمان، بحيث تكون موشحات الشيخ الخليلي التي كتبها عبر سنين مختلفة مبررًا لانطلاقها في عمان، خاصة عبر الجهات الموسيقية الرسمية وعلى رأسها الأوبرا السلطانية العُمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى