عتبات النص في رواية خالتي بهيّة للجيزاوي

د. شعبان عبد الحكيم | كاتب وناقد أدبي

الكاتب الروائي خليل الجيزاوي كاتب له أسلوبه الخاص في كتاباته الواقعية، فكتاباته تبحث عن القيم والأصالة والثوابت الباقية في الحياة، وترفض نقيض هذا من البهرجة الفارغة، والانحلال والتردي وتهميش القيم، ورواية خالتي بهية (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2021) الرواية السابعة في مشروعه الروائي، يمكن أن نصنفها من روايات الواقعية النقدية، وهذا النوع الأدبي ينقد الواقع، ولا يضع حلولًا لتغييره، وهذا اتجاه أدبي له جمالياته في التعبير بصدق عن واقع تضيع فيه القيم، ونجد البطل المغترب الذي يبحث عن قيم أصيلة في واقع منحط، ويُطلق علي هذا البطل “البطل الإشكالي”  أو “البطل البيروني” البطل الباحث عن قيم خالدة في مجتمع يفتقدها، البطل الرافض لواقعه ولا يستطيع تغييره.

العنوان عتبة أولي للنص

من البداية نجد العنوان عتبة أولي للنص “خالتي بهيَّة” والعنوان حافز ومشوّق لقراءة النص ليعرف (من تكون خالتي بهيَّة؟) فالعنوان بذلك يدخل القارئ في عالم النص مُتشوقًا لمعرفة هل بهيّة خالته في الواقع؟ أم هي في مقام خالته؟ أو هي شخصية رمزية؟ أم شخصية متعبة في الحياة كنموذج لنوع من النساء يتحملن فوق طاقتهن من أجل مسيرة الحياة؟… الخ، بل يتجول في دلالاته ومضامينه الفكرية والثقافية، فشخصية بهيَّة وردت في فصل من الرواية امرأة طيبة ودودة، جميلة، نقيَّة نظيفة القلب والوجه واللسان، سويَّة الشخصية، امرأة يُستشهد زوجها (أبو العزم) في حرب 1973 وتعيش من بعده شامخة تربي ابنتها (سماح) أحسن تربية، تتعايش مع واقعها ومجتمعها بكل عزة واحترام، تربطها بعائلة عم عبده علاقة طيبة، تموت ميتة سويّة، وتظلُّ ذكراها عاطرة ندية، هذه المرأة رمز للوطن، فمن دلالات المرأة – في الإبداع – أنها رمز للوطن في العطاء والجمال والإنجاب، وعشق الرجال (رجال الوطن) لها، وفي وجدان الشعب المصري اسم بهيَّة كثيرًا ما يتردد علي الأسنة رمز للوطن، وإذا كانت الرواية تعالج لفترة النضارة وجمال المشاعر ونبض الحياة والأصالة لأهل هذا الوطن قبل أن تقتحم الحضارة بيديها الباطشة حياتنا في كل المجالات، فغيَّرت طباعنا وأخلاقنا وعاداتنا ورؤيتنا للحياة، وهذه الدلالة (شخصية بهيَّة رمز للوطن، بهية رمز لمصر) تتماس مع القيم التي عالجتها الرواية، فكنا نعيش حياة جميلة نديَّة فترة ارتباطنا بقيم ومبادئ شرقنا، عندما كان يعيش المرء حياة البساطة والقناعة والقيم الأصيلة، كان أبناء الوطن أكثر سعادة واستقرارًا واستواءً نفسيًّا، عن هذه الفترة التي اكتوينا فيها بجحيم حضارة الغرب، وجرينا وراء بريق هذه الحضارة (البَرَّاق) فعشنا حياة التردي الأخلاقي والاضطرابات والضياع.

الإهداء كعتبة ثانية للنص

وجاء الإهداء كعتبة ثانية للنص: إهداء إلي خالتي بهية النقيَّة السخية العفية الصابرة على استشهاد زوجها في حرب العزة والكرامة حرب 6 أكتوبر 1973 أُقبِّلُ التراب تحت قدميك … خليل الجيزاوي

الإهداء يضفي على هذه الشخصية صفة “الواقعية” وأنها شخصية من الواقع يُعجب بها الكاتب، ويحبها لأخلاقها ولوعيها وصبرها وانتمائها الصادق لهذا الوطن، فقد فقدت زوجها فداء للوطن، وظلت بعده نموذجًا ومثلًا للمرأة المحترمة من أبناء هذا الوطن رمز له، فلا غرابة أن يكتبَ (أُقبِّلُ التراب تحت قدميك) بهيَّة رمز لزمن جميل، يجسد لنا روح وأصالة هذا الوطن، عندما كان إيقاع الحياة هادئًا بطيئًا، ينسابُ رقيقًا مُمتعًا، فينسج (الراوي) أحداثًا يومية بسيطة جميلة، جسَّدها شخصيات الرواية في قناعتهم ورضاهم وتمسكهم بالدين بالصورة الواعية، بعيدًا عن التعصب والتشدد، وجدنا هذا في شخصيات النص عم عبده، الصول عبد الرحمن، عم مسعود… الخ.

شخصيات الرواية

النص مجموعة من الحكايات (إحدى عشرة حكاية) الحكاية الأولي بعنوان عم عبده، وهي شخصية مركزية في الرواية، يحكي فيها الراوي (الخارجي) عن حياة عم عبده (عبد الحميد) فترة خمسين عامًا، ويقوم بعد ذلك عم عبده بالروي عن القرية من خلال مجموعة من الشخصيات، جابر النويهي، خالتي بهيَّة، سميحة داية وماشطة، عبد الفتاح المزين، طبلة وهيبة، عم زكريا، مسعود الطحَّان، أو الآلة الزراعية المستخدمة (الساقية القديمة، الطنبور، النورج القديم) كرمز لإيقاع الحياة وانعكاسًا لسلوكيات أصحابها وأخلاقهم في تعاملهم مع هذه الآلة.

وجاء اختيار الكاتب شخصياته بصورة واعية كنماذج تجسّد روح القرية هذه الفترة (الحداد، والداية والماشطة، والمزين، والطحَّان، والمسحراتي…الخ) إضافة إلي رويه عن الآلة (الساقية – الطنبور – النورج) آلات تجسد إيقاع الحياة، وسلوكيات الأفراد في بساطتهم وتعايشهم مع إمكانات ألفوها واستراحوا لها، وهذه الحكاية لم تأخذ البناء الهرمي في سردها، ولكنها تتصف بالبناء الدائري، حكايات متجاورة، يربط بينها ثلاثة أشياء: الراوي، والمكان، ودلالة أحداث كل حكاية منها علي قيم أصيلة، تسمو بالحب والتعاون والعطاء، وتقبل الحياة برضا وسعادة، احترامًا للقيم والمبادئ، وبعيدًا عن التكالب في جمع المال والصراع الصادم الذي يمزق العلاقات بين الناس، هذه الحكايات اكتفي فيها الكاتب بذكر العنوان (اسم الآلة، أو اسم الشخصية) كعنوان للجزء الذي يسرد له، دون أن يضع له علامة ترقيم، أو يطلق عليه فصلًا.

قام المؤلف بدور الراوي (الخارجي) في السرد عن عم عبده (عبد الحميد حسين عبد العزيز) فيروي عن حياة هذا الرجل ما يعكس لنا معيشته/ فنجده مستقر النفس، مرتاح الخاطر، يعيش حياته راضيًّا سعيدًا، في تصالح مع الذات، ينام مُبكرًا ويستيقظ مع العصافير، يأخذ بهائمه إلي الحقل مع بزوغ ضوء الصباح، في عشته يخلع ملابسه، يستحمُّ، ويصلي، ويفطّر بهائمه، ثم يفطر، وبعدها ينطلق في قوة ونشاط إلي مزاولة عمله في حقله (من عزق، أو ري، أو أمور أخرى كالحصاد والدريس… الخ).

التشويق

تشويق الراوي للقارئ سمة بارزة في النص تمنح النص صفة المتعة والجمال، فهو يروي لأحداث بسيطة واقعية، تُثيرُ في نفوسنا حنينًا وشوقًا لمثل هذه الأيام، ولا نجد فذلكة ولا تكلفًا، وكثيرًا ما يدبج حكاياته بكمٍّ كبير من الأشعار التي جاءت كأغاني لهذه الفئة من أهل القرية تبرز سعادتهم ورضاهم، وفي الوقت نفسه تجيء الأغاني لتزجية أوقات الفراغ، كما سنرى في النص.

تبدأ الرواية بالروي عن عم عبده فترة الشباب، القوة والفحولة، كان مزارعًا طويلا، وفحلًا قويًّا، مثل ثور هائج، أسمر بعضلات مفتولة، شاربه عريض مفتول، يقف عليه صقر (ص 3) ومن صفاته الرجولة والشهامة، وتمسكه بأرضه، وتقديس القيم، والارتباط الوثيق بالأرض في صورة عشق، هذه سمات ابن القرية هذه الفترة (منذ خمسين عامًا) كما تروي الرواية، والواقع يؤكد هذا لمن عاش هذه الفترة في القرية المصرية.

يحب زينب الباهرة الجمال “بدر منور لهطة قشطة وحتة بسبوسة دايبة في السمن البلدي من حلويات الخالة صابرين التي تبيعها ثلاثة أيام في السنة، يتزوجها”، وفي الوقت نفسه ينفذ أوامر أبيه بالزواج من سكينة زوجة أخيه عبد الوهاب الشهيد الذي استشهد في حرب 1973، تعيش الزوجتان في تعاون وحب واحترام لحزم الرجل ولعدله بينهما، له برنامج يومي في الحياة: ينام مُبكرًا (في الساعة التاسعة مساء) وقبل الفجر يقوم بغزوة لإحدى نسائه (التي عليها الدور) يذهب إلي حقله، يستحم في الترعة، التي يرمي بها شباكه فيصيد أسماك كثيرة، يضعها في جردل في عشته، ليرسله إلي البيت مع من يأتي إليه بالغداء، يفطر بهائمه ثم يفطر، يعمل في حقله، يجمعه شاي العصاري مع الصول عبد الرحمن، الذي يقوم بحراسة أملاك الدولة من استيلاء الفلاحين عليها (كردم جزء من الترعة واستخدامها في الزراعة) أهداه (الصول عبد الرحمن) الكلب عنتر، وأصبح من البرنامج اليومي للصول عبد الرحمن المرور بعشته في الأيام التي يزاول فيها عمله (ثلاثة أيام في الأسبوع يومًا بعد يوم) وجاءت بقية حكايات الرواية علي لسان عم عبده يرويها للصول عبد الرحمن، ومن التشويق في الروي الحكي عن تربص سعاد الدلالة بعبد الحميد وهي ذاهبة مبكرة إلي السوق لتبيع الزبدة، وجدته عاريًّا، فظلت تتبع جسمه حتى رأت عورته، وأعجبها حجمه الطويل (رِجْل ثالثة علي حد تعبيرها) وأخذت تنقل هذا المشهد لصاحباتها من النساء… الخ، ومن الحكي المدهش – أيضًا – الحديث عن الجنيَّة التي تظهر لبعض الناس ورد علي الصول عبد الرحمن دي خرافة، وأنه شاهدها تلعب وقال لها روحي خليك في حالك وأنا في حالي.

وفي هذا الجزء من الروي تستوعب الأحداث حياة عبد الحميد: زواجه من امرأتين أنجب منهما أربعة عشر ولدًا، إضافة إلي ولد (اسمه جمال) من أخيه الشهيد عبد الوهاب ولدته سكينة قبل استشهاده، وكل أولاده ذكور ما عدا بنتًا أنجبها من زينب، أسماها باسم أمها، وكان عبد الحميد قد حصل على دبلوم الزراعة، ولكنه آثر العمل في حقله عن الوظيفة، وكان فلاحًا ذا وعي تعبيرًا عن شخصية الفلاح المصري (الواعي)؛ لذا نجده يسأل الصول عبد الرحمن كثيرًا عن قضايا تخصُّ الزراعة آملًا أن يوصل رأيه للجهات العليا (باعتباره من الحكومة) منها تغير وجه التربة التي يستخدمون لها سبخًا غير صالح “الأرض العفية سبخت من السماد المغشوش الذي توزعه الجمعية الزراعية، بلدنا كانت أفضل أرض تزرع القطن، دلوقت الجمعية توزع علينا تقاوي بذرة قطن قصير التيلة” (ص 12) ومنها إلغاء الدورة الزراعية وسؤاله الاستنكاري للصول عبد الرحمن:

ومن صاحب المصلحة في إلغاء الدورة الزراعية؟! (ص 13)

ولكن الصول عبد الرحمن كان يسمعه، ويسكت لأنه يعلم أنه لا يمكن أن يغيّر سياسة بلد… الخ، ونعرف من الروي حزنه على موت عبد الناصر وبكائه أكثر مما بكى على أبيه الذي مات بعد عبد الناصر بعشرين عامًا (أي عام 1990 ومات عبد الناصر عام 1970، ومن بعده ماتت أمه عام 2000) وهذا حال كثيرين من هذا الجيل، الذين عشقوا عبد الناصر، ووضعوه في برجٍ عالٍ، تعلَّم أبناؤه في الجامعات، وبني لهم بيتًا حديثًا، ولكنه احتفظ لنفسه بالدور الأول، وجعله لنسائه كل واحدة حجرتها الخاصة بها، إضافة إلي حظيرة لبهائمه… الخ.

هكذا نجد في شخصية عبده (عبد الحميد) رمزًا للشخصية المصرية في بساطتها، ووعيها، وتدينها، وموازنته في عواطفه، فلم يغضب أباه ولا أمه وتزوج من زوجة أخيه، وفي الوقت نفسه تزوج بمن يحبها، وكان يمارس عمله حبًّا وعشقًا في العمل، وظلت علاقته طيبة بكل أفراد أسرته وأهل قريته.

براعة الاستهلال

باقي أحدث الرواية يرويها عم عبده من خلال لقاءاته المتعددة مع الصول عبد الرحمن، ولا يتبع الكاتب في بناء أحدثه للتسلسل الزمني – كما ذكرنا – بل البناء الدائري، التي تتجاور فيه الحكايات، دون تنافر، أو نشوز، ومن السمات الفنية لهذه الحكايات حسن الاستهلال، حيث يمهد الكاتب لكل حكاية للروي عنها دون تكلف أو افتعال، مع التبرير (الفني) للروي عنها، وجاء رويه في البداية عن ثلاث آلات (الساقية القديمة – الطنبور – النورج) فالساقية القديمة يأتي الروي عنها عندما جاءه الصول عبد الرحمن ووجده حزينًا لغرق الأرض عند سقايتها بالماكينة الحديثة، وهنا يدير عينيه اتجاه الساقية القديمة، ويتذكر تلك الأيام الجميلة مع الساقية، يقول في لغة رومانسية مُصورًا حركة الري بالساقية: “كانت تتشكلُ ملامح قريتنا مع نوبة المياه الحمراء، وهي تلعق في خشوع الطمي الساجد في عمق الترعة، تبتلعه الساقية وهي تدور، وكان الماءُ ينسابُ في رقةٍ، وهو يُغازلُ صفحة الأرض العطشى، ويدخل في مناوشة ناعمة مع فتحات الشقوق، ثم يتراقص مع هذا اللحن المميز إله النماء” (ص 14) ويتحدث عن سعادة الفلاحين بمجيء المياه وأغانيهم، ويتذكر جلسته مع أبيه وأمه بجوار الساقية، أبوه يلف سيجارة وأمه تخاف عليه من بنات الغجر مخافة أن تخطفه إحداهن (ص 15) ويروي في لغة رومانسية عن انسياب حركة الساقية في دورانها، وانسياب الماء المتدفق من خزنتها، وكان صوتها يثير الشجن، وكان الفلاحون يجلسون بجوارهم يحكون الحكايات الجميلة، ويستعد بعضهم لتعليق بهيمته لري حقله بعد انتهاء ري الغيط التي يقوم صاحبها بريها، ويغنون الأغاني العذبة الجميلة عن الساقية منها:

يا ساقية دوري شمال ويمين

واسقي القمح والعنب والتين… الخ

وبعدها يلجأ لصنع مفارقة بين هذه الطريقة البدائية الجميلة، وبين الري بالماكينات؛ لينتقد الطريقة الثانية لأنها علمت الناس الكسل، حتى وجدنا بعضهم يرمي البرسيم للبهايم ويقعد بجوار الساقية وقد علت الصفراء وجوههم من السهر، ويكمل صفحة المفارقة بتذكره لمجيء الأسطى مصيلحي من المدينة لإصلاحها عندما تعطلت، ومن بعده باع ابنه صالح البيت القديم والورشة القديمة، واشترى عمارة على النيل وأخذ يبيع شققًا للتمليك، وبعدها اشتغل في تجارة السيارات المستوردة، وأصبح الري الآن بالماكينة.

وفي رويه عن الطنبور يمهد للروي بسؤال الصول حسين عن موعد تطهير الترع، فيجيبه بأنها كانت خلال فترة السِّدة الشتوية ثلاثة أسابيع (من 30 ديسمبر حتى 20 يناير) حيث انخفاض منسوب المياه، وكان عمال التراحيل يقومون بهذا العمل، وكان الفلاحون يصطادون الأسماك من الترعة في هذه الفترة مع عمال التراحيل، وبعدها يذكر أغاني لعمال التراحيل يتذكر الصول حسين: تراحيل يا رزق قليل/ تراحيل يا زمن بخيل… الخ

وكان هذا التطهير فترة الخمسينيات والستينيات حيث كانت الترع ضيقة، فكانوا يستعينون بعمال التراحيل، وفي السبعينيات أخذوا يطهرون الترع بالكراكات وأصبحت المياه بعد السد متوفرة، وقال له تطهير الترعة ارتبط بالري بالطنبور وذكر أغاني للفلاحين منها:

هوب يا هوب

صبّحنا العود/ خشب وجلود…. الخ

ويتوالي السرد من خلال دهشة الصول عبد الرحمن من لباقة عم عبده، فيسأله: من اخترع الطنبور؟ فيرد عليه أرشميدس الذي ولد في جزيرة صقلية بإيطاليا، كان عالمًا كبيرًا ومُخترعًا، أرسله والده إلي الإسكندرية ليتعلم فيها، ويتعجب الصول، مصر التي لم يعد فيها تعليم من خمسين عامًا، كان الإيطاليون واليونانيون يأتون ليتعلموا فيها، وتظهر لباقة الراوي ووعيه في الاستطراد في الحكي في قوله: “هل تعلم يا حضرة الصول أن اليونانيين والإيطاليين كانوا يأتون إلي مصر؛ ليتعلموا في جامعاتها وأساتذتها؟! الآن لم تعد مصر التي عرفتها من خمسين سنة، ولم يعد فيها لا تربية ولا تعليم، يبيت الفساد كالسوس، ينخر في دواليب العمل، والسرقة والرشوة تنتشرُ في المصالح الحكومية انتشار النار في قش الأرز، في يوم ريح شديدة، ويبيت الموظفون يفتحون أدراج المكاتب ويهمسون: “شخلل فلوسك عشان تعدي وتخلص مصلحتك” (ص 26)

وفي رويه عن النورج القديم يمهد له بمجيء الصول عبد الرحمن في شهر يونيه يمسح عرقه بالمنديل المحلاوي، وهنا يقول عم عبد: لازم الفلاح ينتهي من ضَمِّ القمح ودرسِهِ وتخزينه في شهري برموده وبشنس، قبل أن يهجم عليه شمس بؤونة، وعلى رأي المثل: شمس بؤونة يفلق الحجر.

وهنا يروي عن زراعة القمح تبدأ في شهر هاتور/ نوفمبر وتستمر حتى نصف شهر كياك، ديسمبر، ولازم يروي القمح قبل السدة الشتوية في 30 ديسمبر، وعن زراعته عند قدماء المصريين وتخزينهم له… الخ.

شخصيات محورية

وبعدها يروي عن شخصيات له ذكراها في نفسه، تجسِّد صفة أصيلة من صفات أهل القرية، ويختار مجموعة من الشخصيات التي تصوَّر إيقاع الحياة في القرية – كما ذكرنا – الحدَّاد، والحلَّاق، والماشطة، والداية، والمسحَّراتي وشخصيات تجسَّد للأصالة وارتباطها بالأرض كعم زكريا….الخ، ففي رويه عن جابر النويهي يتذكر مجيئه عند العشة وقت العصاري وكان جالسًا معه الصول عبد الرحمن، يتذكر لهذا الشخص صوته الجميل، ونشاطه الغامر رغم قصره، يلفُّ القرية في خمس دقائق ليخبر عن اشتعال حريق، فيهرع الناس لإطفائها… الخ.

يقول عنه: أعطاه الله قوة في صوته وجمالا في الوقت نفسه، وقوة في رجليه يلف القرية كلها في خمس دقائق، ينقذ البلد أكثر من مرة عندما يشبُّ الحريق، يجري أول الناس وينادي أهل القرية يتبعونه، حريق يا بلد هوه في بيت فلان أبو فلان، وكان عم جابر “يتمتع بسرعة بديهة وذاكرة تحفظ الكثير من القصص والحكايات الشعبية، وكان عم جابر يلف ويحضر جميع الموالد الشعبية والدينية، في محافظة الغربية والمحافظات المجاورة، وكان يحفظ الكثير من المواويل والقصص الشعبية، مثل قصة ناعسة وأيوب، وسيرة بني هلال، وقصة الشاطر حسن، وقصة أبي زيد الهلالي،” (ص 45) ونرى البلد تظهر في صورتها الجميلة الكل يجري الذي يجري بسرواله، أو بقميص أو بجلبابه القديم، من أجل إطفاء الحريق… الخ.

وكان يحفظ الشهور القبطية، ولكل شهر مثل شعبي يعبر عنه: توت من 11 سبتمبر إلي 10 أكتوبر والمثل الشعبي (في توت لا تروي لا تفوت) أي الفلاح لا يروي أرضه هذا الشهر ولا يستفيد من رويها بابه من 11 أكتوبر إلي 9 نوفمير والمثل الشعبي (إن صح زرع بابه يغلب النهابه): أي كثرة المحصول في بابه مربحة مهما انتهب وسرق منه… الخ، وهنا يرسِّخ صفتين من صفات أهل القرية التكاتف والتعاون مع بعضهم البعض، والثانية ثقافة أهل القرية وارتباط هذه الثقافة بالزراعة؛ لذا كانوا يحفظون الشهور القبطية لارتباطها بالزراعة.

والصورة المقابلة لهذه الحرائق الآن أنها حرائق مفتعلة، فيلجئون إلي المسِّ الكهربائي، الذي هو من المدن، إذا أراد الحرامي طمس الحقيقة لسرقته من مخزن يحرقه بلمس كهربائي.

ومما أفاده عم جابر للقرية كان يقوم بدور الإعلان عن أمور القرية كالتطعيم، أو الإعلان عن الحاجة للعمال كما أعلن عن ذلك بوجود شغل في عزبة شفيق أفندي (ص 45)

وبعدها يروي عن عم إمام الحداد وكان سبب الروي عنه دراسته في المدرسة الابتدائية حديثًا نبويًّا عن مجالسة أهل الخير، في قول الرسول (ص) عن أَبي موسي الأَشعَرِيِّ: أَن النَّبِيَّ (ص) قَالَ:  إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً، ويتذكر أن أباه أخذه معه إلي حدَّاد البلد، الذي كان يقوم يعمل كل ما يحتاجونه الفلاحون، وكان يستخدم الكير في تسخين الحديد الذي يُطوّعه، وقد تغيرت الأيام، فأصبحت هناك آلات حديثة، تقوم بتجهيز أبواب وشبابيك الحديد … الخ.

ثم يروي عن خالتي بهيَّة، الجميلة الرقيقة، المحبوبة من الجميع، استشهد زوجها في حرب 1973، وظلَّت وفية له، وكانت قد أنجبت منه ابنة واحدة “سماح” لأنها لم تعش معه سوى عامين، شخصية رمزية لهذا الوطن في نقائه وجماله وعفته وصبره ووحبه لمن يضحي بحياته من أجله، كانت لها علاقة وطيدة مع أسرته، وكان الحاج حسين يعاملها واحدة من البيت، وعندما ماتت قام بالإشراف على الجنازة، وتكلف بمصاريفها، واحتفظ بكل مصوغاتها  حتى أعطاها لابنتها “سماح” التي جاءت بعد العزاء من الكويت.

ومن هذه الشخصيات التي روي عنها سميحة الداية والماشطة، شخصية معطاءة ودودة، يُضفي عليها طابعًا أخلاقيًّا راقيًا، في جعل مهنتها (كماشطة) لها قدسيتها، بالاحتفاظ بأسرار هذه المهنة، وعدم إفشاء سر تكوينات أجساد من تقوم بتجهيزهن، فمهنة الماشطة أو الحفَّافة، أو البلّانة مهنة لها أصول وأسرار، وكانت تقوم بتجهيز العروسة بعجينة الدَلْكة عجينة سحريّة، ثم تتابع دعك جسدها، ونتف كل الشعر الخفيف من جسدها، وآخر مرحلة مسُّ وجهها ووراء أذنيها بعطر فوَّاح، وكانت ماهرة في الغناء، تأخذ الطبلة وتغني وتردد الفتيات الأغاني بعدها منها: يا حلاوتك يا استفندي يا ابن عم البرتقال (ص 72)

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – عبد الفتاح المزيِّن، كان أمهر حلاق في القرية وبجانب الحلاقة كان يقوم بالطهارة، وكان يتقاسم الحلاقة لأبناء البلد هو وعم حسنين الحلاق، ولما كان بيت والده حسين عبد العزيز في الجهة الغربية كان يحلق عند عبد الفتاح المزين، ومن خلال رويه عن هذه الشخصيات يعكس لنا إيقاع الحياة في القرية، وعاداتها في الحلاقة ودور شخصية المزيّن في حياة القرية، فهو الذي يقوم بالحلاقة، وبصورة بدائية متخلفة، يجلس الذي يريد الحلاقة مُتربعًا أمامه، ويضع فوطة متسخة حول عنقه لا تغسل إلا كل شهر مرة، ومما كان يعانيه في الحلاقة أن الحلاق كان يجلسُ مُتربعًا أمام من يحلق، يحلق نصف رأسه الأمامي دون معاناة، أما المعاناة الحقيقية ففي النصف الخلفي، فيضع رأس الذي يحلق بين ركبتيه كالبطيخة، وينهال عليه بماكينته، وهو يتفلفص بين يديه، فيحلق شعره دون رحمة، وكان قاسيًّا وهو يزيل شعر القفا لجلسته بهذه الطريقة، ويروي عن تواجده في الأفراح وجمع “النقطة” وقوله وشوباش لمن يعطيه مبلغًا من المال، ومن تواجده قيامه بعملية “الطهور”، ورغم ذكر الراوي للطريقة المتخلفة في الحلاقة والطهور، ولكن هذا الروي يعكس لنا تقبل القروي للحياة في بساطتها وتلقائيتها، وانسجامه مع واقعه، وإن ذكر بعد ذلك تمرد الشباب علي هذه الصورة من الحلاقة عندما كبروا وذهبوا إلي المدينة، فأخذوا يحلقون في محلات بها كرسي ومرايا في حوائطه… الخ، ثم تمَّ تصميم محلات حلاقة في القرية علي غرار هذه المحلات في المدينة.

ومن هذه الشخصيات شخصية وهيبة التي تقوم بمهمة المسحَّراتي، كان صوتها جميلًا، واعتاد الناس عليها، كانت الخالة وهيبة تلف شوارع القرية وتدخل حواريها وهي تضرب بيديها علي طبلتها، دقات منغمة، ثم تتوقف وتنادي أصحاب البيت وبالاسم، تبدأ الرحلة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وحتى الثالثة فجرًا، حيث موعد صلاة الفجر الرابعة والربع، تلف كل الشوارع والحواري، وتبقى أمام أصحاب البيوت التي أيقظتها أخيرًا موعد للسحور وشرب الماء والشاي، وبعد رمضان كان تلف على الناس في بيوتهم وتأخذ منهم العادة السنوية وهي تغني:

عادت عليكم أيامه بالخير والشر ما يجيكم

وبعد موتها فقدتها البلد، وتولي ابنها المهمة من بعدها، ولكنه لم يكن يمتلك موهبة أمه، وعندما حاول أن يقلدها لم يساعده حشرجة صوته، فاكتفي بترديد/ قوم يا صايم وحد الدايم، وبعدما دخلت الكهرباء وتغيرت الحياة أصبح الناس لا يحتاجون لمسحراتي فالكل متيقظون. (ص 101)

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – شخصية عم زكريا الذي ضرب المثل في حبه لأرضه وارتباطه بها ارتباطًا روحيًّا، يستيقظ قبل صلاة الفجر، يصلي الفجر، يفطر، يصطحب بقرته وجاموسته ونعجته ويركب حماره للحقل، كان رجلًا عجوزًا، لكنه كان يتمتع بالصحة والعافية، له ولدان فايز وبهيّة، تزوجت بهيّة، وحصل فايز علي دبلوم زراعة، كان فايز ينام متأخرًا، ويستيقظ – أيضًا – متأخرًا، وفكر في بيع نصف فدان من أرض أبيه وشراء ميكروباص، رفض الأب بكل قوة، رغم توسيط ابنه له بخاله الشيخ طلبة، وظلَّ مُصِّرًا علي رأيه غضبان علي ابنه  حتى مات، وبعد موته باع ابنه فايز الأرض واشتري ميكروباص، وشاءت الأقدار أن يدخل في جزع شجرة، ويتدمر الميكروباص، وتُبتر ساقه الشمال.

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – شخصية مسعود الطحان كان رجلا سبعينيًا يده ترتجف وملابسة متواضعة، وكان يمتلك ستة قراريط وضع فيهم ماكينة طحين كانت علي أطراف البلد، واليوم أصبح القيراط بمليون جنيه، ورغم ذلك رفض، وبعدما مات باع أـولاده هذه الأرض وابنتي أحدهم فيلا مكان مكنة الطحين، وأصبح أهل القرية ينتظرون الخبر الموزع عليهم من وزارة التموين… الخ.

بناء الشخصيات

هناك ملامح مشتركة للشخصيات الرئيسة التي روي عنها، في سماتها النفسية والمزاجية منها: التدين، والرضا، والارتباط بالأرض وحب الحياة، والاستواء النفسي، والالتزام بالقيم والاحترام للغير، بداية من الشخصية المحورية الأولي عبده الراوي (عبد الحميد) كما مرَّ بنا، وباقي الشخصيات تتمتع بهذه الصفة، فجابر النويهي لا يفتأ يترك حدثًا في القرية إلا وأبلغ عنه، حتى يشارك الناس بعضهم بعضًا، وخالتي بهيّة تصور المرأة المصرية البسيطة الطيّعة الجميلة الواعية الراضية، امرأة حلوة طويلة شقراء، ذات شعر أصفر طويل، كان وجهها يحمر عندما كانت تقعد قدام حلق الفرن الخبيز البلدي، تضع في أذنها حلق ذهب عيار واحد وعشرين علي شكل مخرطة ملوخية، وتعلق في رقبتها سلسلة ذهب عيار واحد وعشرين، وفي يديها ست غوايش ذهب عيار واحد وعشرين في كل يد ثلاث غوايش، وكانت ترسم أسفل ذقنها زهرة اللوتس الفرعونية، وكانت أنيقة جميلة تهتم بمنظرها وملبسها وعطرها، وظلت علاقتها طيبة بأسرة عبده وكان أبوه يعاملها كواحدة من البيت، وكما يكسو زوجته يقطع لها كسوة العيد، وكسوة الصيف والشتاء.

وسميحة الماشطة كغيرها من هذه الشخصيات عندما تشتري متطلبات تزيين العروسة من القاهرة كانت تزور مقام سيدنا الحسين وتصلي الظهر بالمسجد، وكانت تحب أهل البلد، وتتعامل معهن بكل حب واحترام، وكانت كاتمة لأسرار النساء، فقد تجلس الفتاة أمامها عارية، وهي تقوم بنزع كل الشعر من جسمها بعمل الدَلْكة فتنام علي بطنها ثم علي ظهرها حتى يتسنى لها القضاء علي الزغب من جسمها (ص 63) وكانت كقابلة (داية) تحتفظ بأسرار النساء اللاتي قامت بتوليدهن ولا تفشي لهن سرًّا.

وعبد الفتاح المزين يربطه بأهل القرية صلات وثيقة فهو يقوم بالحلاقة للرجل ولأولاده دون أن يتقاضي أجرًا، وينتظر حتى موسم الحصاد، فيقدم له كيلة، وأكثر من القمح، ومثلها عند جمع قناديل الذرة الشامية، ويقوم بطهارة الصغار مقابل مبلغ مالي صغير، ومبلغ آخر من أقاربه يُسمَّي “نقطة” ويحضر أفراح الشباب منتظرًا “نقطة” منهم  حتى ولو كانت قليلة، ولن نسمع خلافه مع أحد، أو مقاطعة أحدهم، والخالة وهيبة “المسحَّراتية” إنسانة حسنة الصوت، مرحة النفس، تقوم بعملها بكل جدٍّ وارتياح وتتقن مهنة المسحَّراتي، وصفها بأنها قمحية اللون، طوية ربعة، تعلق الطبلة في حبل طويل حول رقبتها يتدلى أعلى بطنها، تمسك عودين قصيرين من الخيزران، وتظل تضرب بهما طبلتها بدقات إيقاعها جميل ورقيق، وكان صوتها عذبًا جميلًا، تلف شوارع القرية وتدخل حواريها وهي تضرب بيديها علي طبلتها، دقات منغمة، ثم تتوقف وتنادي أصحاب البيت وبالاسم، وفي مناداتها للسحور كانت نغمة أغنياتها نديَّة شفافة، كقولها:

أيها النّوُام قوموا للفلاح

واذكروا الله الذي أجرى الرياح

إن جيش الليل قد ولي وراح

وتداني عسكر الصبح ولاح

كلوا واشربوا وعجلوا قبل نور الصباح ص 96

 حتى الصول عبد الرحمن نجده مُتطبعًا بطباع أهل القرية في عصره، فعندما يجد مخالفة من أحد الفلاحين لا يلجأ إلي السلطات المختصة مُصعّدًا المشكلة، بل نجده يخطر المتجاوز بإنذار، ويذهب إلي العمدة، ليخطره بذلك، ويقوم العمدة بإبلاغ المتجاوز، ويمنحه أربعًا وعشرين ساعة يزيل فيها تجاوزاته كما فعل بأبناء الحاج حسن السيد، لأنهم دقّوا عمدان خشب في الترعة وردموا مترًا بها، ذهب إلي العمدة لاستدعائهم ووفاء لأبيهم الرجل الطيب مخافة من الغرامة الكبير (خمسة آلاف جنيه) إضافة إلي تحمل تكاليف كراكة ألف جنيه تأتي لتنظيف الترعة.

العناية بالتفاصيل الصغيرة

مراعاة للمصداقية دأب الراوي علي ذكر المشاهد بتفاصيلها، مُستقطبًا ما يحيط بها من جانب، ففي روايته عن الساقية، يقف علي مكوناتها “وكان عمود الخشب الأساسي الذي يربط الجزء الأفقي بالرأسي يسمي الجازية، علي اسم الجازية بطلة السيرة الهلالية، والعمود المائل الذي تُربط به أعناق الماشية الهُدية، الفلاح يجلس بجوارها يشرب شاي العصاري والثور المعصوب الوجه يدور في دائرة لا حدود لها.. (ص 18)

ويصف الطنبور بقوله: عبارة عن “أسطوانة خشبية طويلة، بداخلها عمود لولبي، يسحب المياه من الترعة بالدوران، فيخزن كمية من المياه داخل اللولب، ويظلُّ يرتفع لأعلى حتى يصب المياه في المكان الذي يجلس فيه الفلاح، ويقوم بتدوير يد العجلة المتصلة بالأسطوانة الداخلية بالطنبور، حتى تتدفق المياه وتصل إلي القناة ومنها للحقل مباشرة (ص 26)

وفي رويه عن زراعة القمح يقف على أنواع زراعة القمح:

الأولى: طريقة التخضير: وفيها يتم ري الأرض، ثم حرثها وهي خضراء وأثناء الحرث يرمي الفلاح ببذور القمح وراء المحراث، ثم يُغطي القمح وتسوي الأرض.

والثانية: زراعة العفير: وفيها تحرث الأرض، ثم تسوي وتسقي، ويرمي الفلاح بحبات القمح في الأرض التي ما زال الماء يملأها (ص 27: 28)

ويروي عن جده زراعة القمح عند قدماء المصريين منذ الفراعنة، ويذكر لقصة سيدنا يوسف وتولية الملك له علي خزائن الأرض، وطريقة الاحتفاظ بالقمح مدة طويلة بتركه في سنابله، ويعرض لهذه الوقائع مستشهدا بالآيات القرآنية من قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد وجد مكتوبًا علي أحد المعابد تحت صورة لثلاثة ثيران:

ادرسي أيتها الثيران، فالتبن سيكون علفًا لك، والحَبُّ من نصيب أسيادك.. (ص 29)

ويتحدث عما ذكره له ابنه حسام عن عبادة المصريين للعجل أبيس، وأن عبادة البقر كانت عند الفراعنة، هي قصة الربة حتحور التي يعني اسمها مكان حور أو حورس، وتوصف بأنها ابنة الإله رَع، وصورت كبقرة، أو امرأة يزينها قرص الشمس بين قرني بقرة، ودائما ما تمتلك أذني بقرة، وكان أهم موقعها في دندرة بالصعيد، وقد وحدتها الثقافة اليونانسة بأفروديت، لأنها كانت آلهة الرقص والموسيقي، والحب وكل ما يبعث السرور، وكانت الربة حتحور تصور أحيانًا كإله من آلهة الموتى.

كل ذلك يعطي النص مصداقية ورسوخًا، وفي الوقت نفسه يقوم النص بتقديم وجبة ثقافية عن الحياة في الفترة التي روي عنها، حيث بساطة الحياة وتلقائيتها، ونظافة القلوب والنفوس، وإيقاع الحياة، والآلات التي كانوا يستخدمونها، وكأن القارئ يراها رؤية العيان.

استخدام الشعر

هناك ملمح فني ثري في الرواية ألا وهو استخدام الشعر في أغاني أهل القرية، وفي كل نواحي الحياة، وجاءت الأغاني كتعبير عن السعادة من جانب، وفي الوقت نفسه أداة لتزجية الوقت للعامل، ولا يترك الراوي عملًا، ولا مناسبة إلا ووجدنا فيها الأغاني، تلك الأغاني التي تعبر عن روح البيئة في بساطتها ورضاها، وتقبلها للحياة، عمال التراحيل يغنون، العمال في حصيد القمح يترنمون بالأغاني في الأفراح، وفي طهور الأولاد… الخ.

ويلاحظ على هذه الأغاني خفتها وسهولة حفظها، وتعبيرها عن الفرحة والسعادة لقلوب راضية بالقليل، ومناسبة كل أغنية للحدث الذي يدور حوله المشهد النصي، ونستشهد ببعض النصوص كقول عم مسعود وهي يعزق:

يا مهون، هون يا مهون

دي أرضي وترابها مصوّن

أعزقها بالفأس وأديها

وعاليها هاتوا ف وطيها.. ص 110

وعندما أعلن عبد الناصر تنحيّه بعد نكسة يونيه، أخذت خالتي وهيبة تلف الشارع يوم 9 و10 يونيه وهي تردد أغنية سيد مكاوي:

ازرع كل الأرض مقاومة/ ترمي في كل الأرض جدور

إن كان ضلمة تمد النور/ وإن كان سجن تهد السور.. الخ ص 98

وللغلام الذي طاهروه تكون الأغنية:

يا عريس يا صغير

علقة تفوت ولا حد يموت

لا بس ومغير وهتشرب مرقة كتكوت

يا أم المطَّاهر رشي الملح سبع مرات ص 90

 حتى في حالة الوضع نجد الأغنية المعبرة عن الحالة التي يروي لها الراوي:

يا قوليلا يا قوليلا …  ادحرجي ادحرجي

إن كُنْتِ بُنَيَّة أو صَبِيّ… بقدرة القادر العلي العظيم … ص 75… الخ.

رواية “خالتي بهيَّة” رواية لها نكهتها الخاصة في التعبير عن طابع الريف فترة ما قبل غزو الحضارة لبيوته ومعالمه، فترة النفوس الراضية المطمئنة بالإيمان، والعامرة بالحب الصادق، وتقبل الحياة، رغم محدودية الإمكانات كانت النفوس راضية عن وضعها، دون ضجر أو نفور، فترة أضاعتها إيقاع الحياة المؤلم المتسلح بفيروس الحضارة، الذي وفَّر لنا إمكانات مادية، ومقابلها دمَّر النفوس وخرَّبها، هذه الفترة تقبض عليها الرواية، لتكون ذكرى لأيام نضرة جميلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى