رياضة روحية تسمو على الحاكم اسمها: سيادة القانون!
المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين
اللوحة للفنان الدنماركي: مارتينوس كريستيان ويسلتوفت رورباي
ذات يوم قبل أكثر من عقدين من الزمان، وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، وبعد الحجيج الأممي للأراضي المحتلة لرفع وضعها الإقتصادي والصحي والإجتماعي من كل حدب وصوب، أعلن ونشر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان عبر ممثله المرحوم الدكتور أمين مكي مدني السوداني الجميل عن مسابقة لوضع خطط لفلسطين في قطاعات متعددة منها قطاع العدالة والإسكان والصحة. وقد فاز كاتب هذه السطور بشرف وضع أول خطة لإدارة العدالة في فلسطين بشقيها قطاع غزة والضفة الغربية، وتم التعاقد معه لوضع هذه الخطة.
وكان من ضمن أسس إعداد الخطة مقابلة وسماع آراء رؤساء شرطة وبلديات ووزراء يتصل عملهم بالعدالة في فلسطين، وكان من ضمن هؤلاء اللواء غازي الجبالي رئيس الشرطة الفلسطينية الأول. وتم اللقاء في قطاع غزة، وأثناء النقاش سألني سؤالا مركزيا أبديا يعبر حقيقة عن الصراع بين القوة والقانون. سألني كيف ستلزم ” أبو عمار ” بقانونك وسيادته فيما لو لم يرغب في ذلك. فأجبت إنها رياضة روحية يجب أن يعيها الحاكم كائنا من كان، هكذا تقدمت الدولة الحديثة، وبدونها ستبقى فلسطين في الدرك الأسفل ولن تقوم لها قائمة في المجتمع الدولي ولا في المجتمع الإنساني. قال، إذا إذهب واقنع ” ياسر عرفات ” بمقولتك.
قدمت خطة إدارة العدالة في فلسطين لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بعد مناقشات مكثفة على صعد علمية عديدة، وللدكتور أمين مكي مدني الذي لم يتدخل فيها ولا في تفاصيلها ولا في مقترحاتها. وبعدها قدمها مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، للجهات الفلسطينية المختصة السياسية. ووجدتها هذه الجهات السياسية، خطة طويلة لا يقوى المسؤول السياسي الفصائلي الذي كتب مئات البيانات السياسية منذ أن كان عضوا في مجلس الطلبة، على قراءتها وليس له صبر أن يقرا ستين ضفحة. لذا كان لا بد من إحالتها لشخص لتلخيصها وابتسارها. وهنا تم تشويهها والحذف منها والإضافة عليها. ودخلت النسيان وعلاها الصدأ والغبار.
من هنا كانت مسيرة العدالة وسيادة القانون في الأراضي الفلسطينية المحتلة متعثرة منذ بداية البدايات. فلم يكن السياسي الفلسطيني مهما علت رتبته أو دنت راغبا في أن تقيده قاعدة قانونية وهو الفهلوي الثائر المتمرد على قواعد العالم الجامدة التي أسموها قوانينا، بل كان هذا السياسي باستمرار يشكو مرّ الشكوى من هذا القانون الجامد المعيق العتيق الضيق البالي، ويطلب الإطاحة به واستبداله أو شطبه. وكان يصفق له شيوخ السلاطين من القانونيين ويروجون لهذه الأفكار السطحية غير القانونية بحجة الخصوصية الفلسطينية.
رافق ذلك ظهور عدد كبير من الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحيث وصل العدد إلى ثلاثة عشر جازا أمنيا ونيف، وهو عدد لم تصله دول لها صولات وجولات في قطاع الأمن في العالم أجمع. ولم يكن متصورا أن يقوم هذا العدد من الأجهزة الأمنية بأنشطته المتنافسة فيما بينها وأن تسود حقوق الإنسان ولا سيادة القانون ولا الدولة القانونية، على الرغم من الخطى الحثيثة التي بادر إليها المجلس التشريعي بإقراره عددا من القوانين الهامة، يقف على رأسها القانون الأساس لعام 2003. ولم يكن متخيلا أن تسود قيم حقوق الإنسان في عقلية رجل الامن فهذه سمة عالمية وجبلة دولية، حتى لو كان خريجا لجامعة هارفارد أو كامبريدج، مع أنه كان يصرح ليل نهار أنه مقتدٍ بحقوق الإنسان ولا يحيد عنها قيد أنملة.
ومما زاد الطين بلّة، انكماش دور وزارة العدل الفلسطينية، ومحاربتها عبر زعم استقلال القضاء استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية، حيث لاقت الفكرة قبولا ورواجا عند بعض أعضاء المجلس التشريعي لغاية في نفس يعقوب.
وتأججت الشخصنة والإستقلالية في قطاعات العدالة المختلفة، فهذه فرصتهم لتحقيق مطالبهم. فتناحر قضاة المحكمة العليا على تولي منصب رئيس المجلس القضائي الأعلى. وكان هذا التناحر مدخلا للسلطة التنفيذية لأن تعين أشخاصا لرئاسة المجلس القضائي الأعلى من خارج المجلس في مخالفة صريحة وواضحة لقانون السلطة القضائية وتشكيل المحاكم. حتى أن أجهزة الأمن تجرات وجعلت فيمن يعين لرئاسة المجلس القضائي الأعلى أن يوقع ورقتين، واحدة لتعيينه في المنصب والثانية على استقالته المستقبلية من المنصب فارغ تاريخها. وهكذا كان التناحر مدخلا لفساد القضاء وبذا أفل مبدأ سيادة القانون. واتصل الأمر بإنشاء قضاء شرعي أعلى على منوال القضاء النظامي، وعين قاض للقضاة لهذا القضاء المخالف للقانون الذي يرفض تنفيذ قرارات محكمة العدل العليا النظامية، ما فيش حد احسن من حد.
ولم تخل النيابة العامة من ذات المرض ، فأرادت الإستقلال عن القضاء النظامي وعن وزارة العدل ورأت في نفسها جهازا مستقلا دونما تبعية لجهة ما. وصلاتها مع الأجهزة الأمنية واضحة للعيان وبخاصة مع بدايات تعييناتها ودخلت في سجالات واعتقالات بعيدة عن قانون الإجراءات الجزائية وهمشت القانون الأساس ومواثيق حقوق الإنسان. وما دام هناك قضاء شرعي اعلى، فلم لا يكون هناك محاكم عسكرية دائمة ولم لا يكون هناك نيابة عسكرية دائمة ولم لا تنفذ اشباه القوانين التي صدرت في بيروت باسم منظمة التحرير الفلسطينية تحت مسميات شتى وهي ليست بقانون بالمعنى الحقيقي. وبذات السباق بين الوزراء والأجهزة الأمنية والمحافظين في عدم تنفيذ قرارات المحاكم. ورأى الوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية والمحافظون في أنفسهم اشخاصا أكفياء، وأقدر من القضاة أنفسهم بحيث يؤهلهم على رفض تنفيذ أي قرار قضائي ولا يسائلون.
وجاءت الطامة الكبرى بغياب المجلس التشريعي واستغلال وجود المادة 43 من القانون الأساس لعام 2003 أبشع استغلال. فعلى الأقل حينما كان يوجد مجلس تشريعي، هناك بالضرورة لجنة قانونية تعلق على مشروعات القوانين وترفع توصياتها. اضف أن المجلس التشريعي به قراءات ثلاث يصوت على مشروع القانون في نهايته. وللرئيس حق نقضه. فضلا عن أن المجلس التشريعي لم يكن ليقبل أي مشروع قانون فيه مخالفة للحقوق والحريات العامة. أما اليوم فيقوم شخص واحد دون نقاشٍ كافٍ بإعداد التعديلات ومشروعات القوانين وتوقيعها من الرئيس ونشرها في الجريدة الرسمية.
الأخطر من هذا وذاك ان الثقافة القانونية لحقوق الإنسان والفهم الحقيقي لسيادة القانون في مجتمعنا السلطوي مجرد حبر على ورق وعلاقات عامة وقضايا نفعية. يشترك في هذه السمة المسؤول ورجل الأمن والمحافظ والوزير والموظف والمواطن وحتى القاضي أو رجل النيابة. أفبعد هذه السطحية في تناول حقوق الإنسان وسيادة القانون يمكن أن يصان المبدأ وقد تم التفريط به من زمن بعيد وقد سادت اللفلفة وعقلية التبرير.
عبر التاريخ، يتميز الأنسان عن الحيوانات بموضوع الحريات والحقوق الفردية. فالحيوان يأكل ويشرب وينكح لكنه لا يفهم ولا يقدر حرية الرأي ولا حرية التدين ولا الحق في الحياة ولا طعم الحرية ولا الحق في الصحة ولا في التعلم. لهذا وضع المشرع في كل دول العالم هذه الحقوق والحريات في صدر الدستور من أجل أن يحميها وحتى لا يتم الإعتداء عليها من قبل السلطة التنفيذية تحديدا، لأن الوحيد الذي يستطيع أن يخرقها هم أعضاء السلطة التنفيذية على اختلاف مناصبهم دنوا وارتفاعا. فإذا منعت من التظاهر أو إبداء الرأي أو سحبت رخصة جريدتك أو محطتك الفضائية من المسؤول أو سجنت بغير وجه حق، فأنت لا تملك رفاهية مهاجمته فقط مقاضاته وفق القانون وحقوق الإنسان. وحينما يصدر حكم لك فأنت تملك تطبيقه تطبيقا لسيادة القانون. فإذا فقدت هاتين الميزتين فأنت تعيش في غابة ويغدو الجكم للأقوى وينهار المجتمع. فكل امرىءٍ يصنع قدره بنفسه وطاحونة الله تطحن ولكن بثبات ولو دامت لغيرك ما آلت إليك!