أليس اليأس ممنوعا..في مفردات القاموس السياسي التونسي؟!

محمد المحسن | تونس
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت انّ شرارة «الحركات الثورية العربية» اندلعت من أرض تونس المنتفضة على الظلم والظلام ذات شتاء قاتم من سنة 2010 .
واليوم، بعد عشر سنوات ونيف على انطلاق مخاض التحولات تصمد التجربة التونسية في الإنتقال السياسي، وتبقى خارج دائرة الفوضى التدميرية التي امتدت من ليبيا إلى سوريا..
ولكن يبدو أن تفاقم الأزمة الإقتصادية وقلة الدعم الدولي واحتدام الجدل السياسي والأيديولوجي عقب الإجراءات الإستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد،وضع البلاد أمام منعطف دقيق يستلزم ورشة إنقاذ داخلية واهتماما دوليا لا يقتصر على مكافحة الإرهاب.فقضايا ومطالب التونسيين في هذا الظرف الدقيق والحاسم الذي تمرّ به البلاد،باتت أهم من الصراعات الشخصية والمناورات الحزبية والمحاصصات السياسية التي لا طائل من ورائها سوى تغليب الفتق على الرتق والزج بالبلاد والعباد في متاهات مبهمة ومعقّدة من الصعوبة بمكان التخلّص من عقالها والنأي بأنفسنا عن تداعياتها الدراماتيكية في المدى المنظور..
وبغض النظر عن المنطق الحسابي،ورهانات الربح والخسارة،لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الإستقرار بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب،مما سيفضي مستقبلاً -في تقديري-إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي.
ومن هنا يتوجب التذكير بتغليب الديمقراطية التوافقية ودور النقابات والمرأة والمجتمع المدني إبان المرحلة الحرجة في 2013،إذ أن إسقاط منطق العنف السياسي لم يستند قط إلى تلاقي الإرادات،بل أيضا إلى إرث تونس الفكري والقانوني والسياسي من ابن خلدون إلى الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة،وكذلك بسبب الأولوية الدولية للحرب ضد الإرهاب وخشية سقوط تونس في المحظور،مما يزيد من اشتعال اللهيب الليبي ويهدد بتواصل الإرهابيين من الجبل الأخضر في ليبيا،إلى معاقل الجهاديين في الجزائر والساحل.
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول انّ دروس الماضي والحاضر تؤكّد أهمية اليقظة الداخلية والتشديد على منع استخدام العنف والتمسك بالوحدة الوطنية كي تترسخ الدولة التونسية وتتطور باتجاه تمثيل أفضل للشباب والجهات المهمشة كضمانة لديمومتها.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :
إلى أين تسير تونس؟ أهي صحوة الموت،أم غفوة الحياة،كما يتساءل شاعر الرومانسية كامل الشناوي؟
وهنا أقول : لقد بلغ السيل الزبى. لم يعد القاموس الأيديولوجي مناسباً لشعب عاشق للثقافة والسياحة والحرية والحضارة.
تونس التي أطلقت شرارة ما يسمى “الربيع العربي” عام 2011،هي تونس نفسها التي أعادت حساباتها ليلة 25 جويلية 2021.
المعادلة اختلفت،عشر سنوات مضت كافية لكشف زيف وحقيقة تنظيم دولي ارتهن مقدرات الشعوب العربية من أجل تحقيق أهدافه ومخططاته وأدواره الوظيفية.
أغلبية الفئات الشعبية التونسية،من أصل الـ 70% من السكّان الذين زادت “حكومات الثورة” في إفقارهم وتهميشهم،ترحّب بإجراءات الرئيس قيس سعيّد أملاً في تغيير مسار الحكم الذي استولى على الثورة،ثم استحوذ على الدولة والثروات العامة،محاصصةً وغنيمةً،بحَسْب وصف الرئيس.
الروابط المهنية والنقابية واتحاد الشغل..والتي ثارت على حكم ابن علي مع الشعب،تشمّر عن سواعدها من أجل المشاركة في تصحيح المسار،فتبدأ ورشة العمل نحو خريطة طريق آمنة، عَبْرَ حكومة إنقاذ وطني وبرنامج عمل سياسي ـ اقتصادي ــ اجتماعي، قد تصل إلى مشاركة شعبية مباشِرة في صنع القرار السياسي.
والحال،من البديهي أن ترى “النهضة” والطبقة المستفيدة من سلطة الحكم،إجراءات سعيّد “انقلاباً كامل الأوصاف” على ديمقراطيتها،وعلى مؤسساتها الدستورية.لكنّ تخوّف كثير من النُّخَب السياسية والثقافية العربية المعارضة (ومنها الأمين العام لحزب العمال التونسي)، ممّا سمّته “عودة الاستبداد”، يدلّ على تخمة التشبّع بتقديس الديموقراطية الأميركية،المتخوّفة على إنقاذ مسمار ثمين في مركب يغرق في بحر العواصف.
وهنا أفتح قوسا كي أقول دون محاباة لهذا..أو ذاك : الرئيس الخبير في الفقه الدستوري،هو،في موقع اختصاصه،أحدُ الفقهاء الكبار المشكّكين في نجاعة الديمقراطية التمثيلية البرلمانية، في التعبير عن إرادة الشعب.
يميل،مع غيره من المختصّين الكبار،إلى الديمقراطية التشاركية،أو الديمقراطية المباشرة في التعبير عن إرادة الشعب،استناداً إلى تجارب تاريخية،منذ اليونان القديمة،إلى كومونة باريس (عام 1870) وحركة “المير” في روسيا عام 1906،إلى الجمعيات العمومية العمالية والفلاحية في إسبانيا وأوروبا،إلى تجربة سويسرا والحركة “الزاباتية” في المكسيك عام 1994..إلخ (راجع، على سبيل المثال: أنطوان بيفور، “نحو ديموقراطية تشاركية”، منشورات الصحافة في العلوم السياسية، باريس، 2002).
الثابت أن الرئيس سعيّد ليس من الدوغمائيين،الذين يتخيّلون الدستور والديموقراطية التمثيلية كتابَين إلهيَّين مقدَّسين،يُتَّهَم من يشكّك في قدسية وجودهما بصبغة الإلحاد أو الشعبوية،كما يتخيّل بعض المحرّضين وبعض محدودي الأفق..
فلسفة “العدالة الانتقالية” لم تُسفر في جنوب أفريقيا عن أثر يُذكَر بعد 25 سنة من المسار. ومن الصعب أن تُسفر في تونس عن نتائج مرجوّة في المدى المنظور. فأخطبوط تونس هو مرآة تعكس تشابك عالم تماسيح الغابة المتوحّشة، في المستويين الدولي والإقليمي، وصولاً إلى المسنوى المحلي، وبالعكس.
تصدّي قيس سعيد لأزمات اهتراء النظام، عبر التصويب على الأخطبوط التونسي، من شأنه أن يقيّد حرّية النهب وتعميم الفساد الذي تتعطّل حركته تحت الضوء. لكن خروج المسروقين في عيد الجمهورية، يوم 25 تموز/يوليو، يدفع إلى الذهاب إلى أبعدَ ما يمكن، في طريق تصحيح المسار.
وإذن؟
تونس إذا،في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا-كما أسلفت-هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا..
ما المطلوب..؟
لا بد اليوم-في تقديري-من عقد اجتماعي جديد في تونس قوامه التوازن في توزيع الثروات بين الجهات،وتشبيب الإستثمار،وإعادة النظر في دور الدولة الإجتماعي والإقتصادي،لا من زاوية مقتضيات وإملاءات الجهات الدولية المانحة، وإنما من بوابة بيئة الإستثمار الجديد وتدعيم اللامركزية دون إلغاء المركز،والدفع بمنظومة الحقّ في الإضراب دون ضرب موارد الدولة.
أقول هذا وأنا على يقين بأن تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديموقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.فجدلية العلاقة بين-محتج-يطالب بالعدل والعيش الكريم في كنف ديموقراطية ناشئة،ودولة منهَكَة-أصلا-ومطلوبة،تفرض-حتما-عدم استبطان منهاج ما بعد الليبرالية،حيث تتحوّل الدولة إلى مجرّد إدارة تعنى بالدفاع والأمن والوثائق الإدارية فقط،بل وهو الأهمّ المزاوجة بين فرص الإستثمار الخاص والدولة المستثمرة في القطاعات الإستراتيجية.
قلت هذا،إيمانا مني بأنّ اليأس ممنوع في مفردات القاموس السياسي التونسي.
وهذا ليس بغريب على بلد يتمتّع بقسط كبير من العقلانية والحداثة،ويمكن أن يشكّل نموذجا يمكن شعوب العالم العربي من الدخول إلى التاريخ من جديد.
ماذا بقي إذن؟
يكفي أن نجيد تغليب الرتق على الفتق..والعقل على النقل..حتى نتجاوز كل المطبات التي قد تعيق مسارنا الديمقراطي الناشئ..
لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء..من حسابات الإنتهازيين..ودعاة الفوضى..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى