الدين والأخلاق

نهاد أبو غوش | فلسطين

كل الأديان والشرائع تحض على الأخلاق الحميدة ومن بينها الدين الإسلامي، ويتبدى ذلك في مواقف ومواقع صريحة في القرآن والسنة، سواء بالنص الحرفي على معنى الأخلاق، كما ورد في وصف الله للنبي محمد ” وإنك لعلى خلق عظيم”، أو بما ورد في الأحاديث النبوية التي جاء فيها حديث في غاية الأهمية ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وهو حديث يستحق كثيرا من التفسير والتاويل، وفيه إشارة دامغة على أن العصر الذي يسميه المسلمون ب”الجاهلي” لم يكن كذلك فعلا إلا من زاوية الدين، وشاعت فيه الأخلاق الكريمة، وجاء النبي ليتممها.

من الأحاديث والمرويات المنقولة عن النبي محمد – وقد اختلط صحيحها بضعيفها بالفبركات التي صاغتها القوى والسلطات السياسية في عصور لاحقة ونسبتها للنبي- إشادته بقصيدة لامية العرب للشنفرى – الشاعر الجاهلي المتمرد الصعلوك-، وتشجيع المسلمين على تعليمها لأبنائهم لأنها تحض على مكارم الأخلاق. كما تشتهر رواية أخرى، حين جيء بأسرى وسبايا قبيلة طيء على يد جيش المسلمين المنتصر.خرجت للنبي امرأة جميلة وفصيحة، وخاطبته بمنطق وجرأة، وناشدته ألا يُشمت بها العرب وألا يعرضها للإهانة، وحين سألها عمن تكون قالت انها سَفانة ابنة حاتم الطائي، المشهور بالكرم على مر العصور وكان مسيحيا وشاعرا وفارسا، فأطلق النبي سراحها تكريما لابيها وسيرته العطرة وكرم أخلاقه، فلم تكتف سَفانة بذلك، حتى أطلق النبي كل من معها من أسارى طيء، وردهم مع أملاكهم واسلابهم.

نسوق هذه المقدمة لمقارنتها بالحالة المفجعة والظاهرة التي كتب عنها كثيرون وهي ما يمكن تلخيصه بالتناقض الحاد بين ارتفاع نسبة التدين من جهة، وسوء الأخلاق، أو الانحطاط الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى، ويمكن الاستناد إلى مجموعة شواهد ثابتة تؤكد هذه الحقيقة ومنها الارتفاع المثير للرعب في نسبة حوادث التحرش في المجتمعات الإسلامية وبخاصة في المجتمعات التي تتبنى موقفا ورؤية متشددة للدين، مثل السعودية ومصر وافغانستان وباكستان. الشاهد الثاني هو في ارتفاع منسوب الغش والتدليس والكذب وعدم احترام حقوق الغير، وعدم احترام الوعود والمواعيد وانعدام النظافة في المرافق العامة، والتسيب الإداري وعدم احترام العمل وانتشار الأمية وتراجع مستوى التعليم ونوعيته، وتردي الحريات العامة، وانتشار القمع والاستبداد والحكم المطلق، وغياب النقد والشفافية والمساءلة وحرية التعبير، وغيرها كثير من الظواهر التي باتت من السمات اللازمة للمجتمعات الإسلامية حتى دفع ذلك بعض المحللين العنصريين إلى ربط التخلف بالإسلام.

التحليل العلمي يدفعنا لنبذ التفسيرات العنصرية والبحث عن أسباب واقعية وعلمية لهذه الظاهرة، فثمة جملة من الأسباب المسؤولة عن ذلك، من بينها ثقافية كاختزال مفاهيم الأخلاق والشرف في المعنى الجنسي، وتحديدا ما يتصل بالأنثى وأعضائها الجنسية وعذريتها وما إلى ذلك، وهي مفاهيم موروثة عن عهود غابرة سبقت الإسلام وتجددت معه ومع أنظمة الحكم التي نشأت في ظل الإسلام، ثقافة كهذه تعطي لصون العرض والشرف والأعضاء الجنسية، ولبس المرأة، قيمة أكبر بكثير من الوفاء والنظافة والحرية والكرامة الإنسانية، والصدق والتزام المواعيد.

السبب الثاني هو في شيوع نمط من الدين التجاري، الدين الذي يغري صاحبه بالكسب، المدجج بالخرافات والشعوذة، كمثال الأدعية التي تجلب الرزق والأدعية التي تدخل الجنة، والأدعية التي تشفي الأمراض (لكل مرض دعاء خاص به ويشمل ذلك السرطان والايدز والسكري وضغط الدم)، واذا قرأت الدعاء الفلاني فإن لك قصرا في الجنة، والدعاء العلاني ينقذ أمك واباك من عذاب النار وهكذا، اينما مررت في شارع او جلست في قاعة انتظار أو ركبت حافلة أو طائرة، تجد اناسا “يتمتمون” ويدندون بينهم وبين أنفسهم أدعية تجعلهم ذاهلين عما حولهم لا يلتفتون للقذارات التي في الشارع، ولا للمنكر الذي أمر النبي بإزالته بيده، فالدعاء الذي يتمتم به هذا المؤمن اكثر جدوى من “إزالة الأذى عن الطريق ” التي جاء عنها في الحديث “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”، وهذا المؤمن التجاري لا يتورع عن أن يغشك في نوع البضاعة وجودتها، ولكنه يصرّ إصرارا غريبا على أن ترجح كفة الميزان حين يزن لك بضاعة عملا بالآية ” وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”.

سبب ثالث هو دين السلاطين وشيوخهم الذين يفصلون الدين في كل بلد بطريقة تخدم الحاكم أو السلطان وتخدم استباب حكمه، وبالتالي يقوم هؤلاء الشيوخ بإعلاء قيمة مثل قيمة “الطاعة” اي طاعة ولي الأمر امتثالا للأية (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) على حساب قيم العدل والإحسان والكرامة والحرية والمساواة، وهذا يتكرس في دروس الدين وخطب الجمعة، ومناهج التعليم، بحيث يصور للعامة أن تلك القيم التي يأمر بها العلماء ويشددون عليها أكثر أهمية من النظافة التي يبقى الأخذ بها (النظافة من الإيمان) من باب الكماليات.

السبب الرابع هو فشل معظم بلدان العالم الإسلامي في بناء نموذج دولة المواطنة القائم على المساواة في الحقوق والواجبات، فالدولة في نظر الناس هي عبء، وشر مستطير، كائن غريب، وعدو يهضم حقوقهم ويعتدي عليهم، ولا يوفر لهم اي خدمة، وبالتالي فإن الحيز العام والأملاك العامة لا تعني المواطن لأنه لا يملكها وهي ليست له من قريب أو بعيد، ومن السهل عليه الاعتداء عليها وسرقتها أو تخريبها بما في ذلك تخريب أملاك الغير، فالمواطن حين يكون جائعا ومقهورا ومقموعا ومرعوبا من أجهزة الأمن، لا يمكن أن تعنيه في شيء مشكلات الاحتباس الحراري وثقب الأوزون، والحفاظ على الغابات وعلى الينابيع الطبيعية والموارد المائية، ولا تعنيه نظافة المدينة ولا جمال حدائقها، ولا حتى الانتخابات العامة وحق الاقتراع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى