حين تبتهج القلوب وتنشرح النفوس بالمولد النبوي الشريف
محمد المحسن | تونس
إن ما يملأ قلوب المسلمين في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول في كل عام من ناموس المحبة، وما يهز نفوسهم من الفيض النوراني المتدفق جمالا وجلالا، ذكرى مولد الهدى ورسول الإنسانية محمد- صلى الله عليه وسلم- فيأتي هذا اليوم محملا بأجمل الطيب وبذكريات القرون السابقة، مما يعكس عناية المسلمين من أسلافهم الكرام إلى يومنا هذا بإحياء هذا اليوم التاريخي الأعظم الذى أكرمه الله بمولد النبي.
وما ابتكره المسلمون في كافة أرجاء العالم الإسلامي من مظاهر الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، ما هو إلا لإظهار التعلق به وإعلان تمجيده، وتطلع النفوس إلى استقصاء خبر تلك الأيام،حيث كان المسلمون الأوائل ملوكا وعامة يتسابقون إلى الوفاء قدر المستطاع بهذه المناسبة الكريمة.
الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من أفضل الأعمال وأعظم القربات ؛ لأنه تعبير عن الفرح والحب له،ومحبة النبي أصل من أصول الإيمان، ليس هذا فقط بل إن له دلالات ومؤشرات دينية واجتماعية مختلفة فهو احتفال ديني وأيضاً ظاهرة اجتماعية عامة وسائدة منذ عقود الدول والإمارات الإسلامية منذ عهد الفاطميين إلى اليوم.
ويأتي احتفال المسلمين في كل عام بالمولد النبوى الشريف ليس باعتباره عيدًا بل فرحة بولادة نبيهم رسول الله محمد بن عبد الله حيث تبدأ الاحتفالات الشعبية من بداية شهر ربيع الأول إلى نهايته بإقامة مجالس الذكر التى ينشد فيها قصائد مدح النبى ويكون فيها الدروس من سيرته.
ومن يتوغل في التاريخ الإسلامي يجد أن أول من احتفل بالولد النبوي الشريف هو النبي نفسه من خلال قوله- صلى الله عليه وسلم- “هذا يوم ولدت فيه”، ويذكر الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه “حسن المقصد في عمل المولد” أنّ أول من احتفل بالمولد بشكل كبير ومنظم هو حاكم أربيل (في شمال العراق) الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، والذي قال عنه السيوطي وابن كثير: أنه أحد الملوك الأمجاد والكبراء وكان له لأعمال حسنة. .
وهناك علماء ومحدثون كثيرون من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ممن أجازوا الاحتفال بالمولد النبوي فمن هؤلاء المتقدمين الإمام السيوطي في قوله: “عندي أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي وما وقع في القرآن عن مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف، ومنهم ابن الجوزي الذي اعتبر أن من خواص المولد النبوي أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل المرام.
وقد وصف أستاذ الشريعة الإسلامية الدكتور عبد المنعم سلطان، في كتابه عن الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي الاحتفالات آنذاك فقال: “اقتصر احتفال المولد النبوى في الدولة العبيدية (الفاطمية) بعمل الحلوى وتوزيعها وتوزيع الصدقات، أما الاحتفال الرسمى فكان يتمثل في موكب قاضي القضاة حيث تُحمل صواني الحلوى ويتجه الجميع إلى الجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخليفة، حيث تلقى الخطب ثم يُدعى للخليفة ويرجع الجميع إلى دورهم.
وكان أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم في الدولة الأيوبية في عهد السلطان صلاح الدين الملك مظفر الدين كوكبوري إذ كان يحتفل به احتفالاً كبيرًا في كل سنة، وكان يصرف في الاحتفال الأموال الكثيرة حتى بلغت ثلاثمئة ألف دينار وذلك كل سنة، وكان قبل حلول المولد بيومين يخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرًا وزفّها بالطبول والأناشيد حتى يأتي بها إلى الميدان ويشرعون في ذبحها ويطبخونها.
فإذا كانت صبيحة يوم المولد يجتمع الناس والأعيان والرؤساء ويُنصب كرسي للوعظ ويجتمع الجنود ويعرضون في ذلك النهار، بعد ذلك تقام موائد الطعام وتكون موائد عامة فيه من الطعام والخبز شيء كثير.
وكان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بالاحتفال بجميع الأعياد والمناسبات المعروفة عند المسلمين، ومنها يوم المولد النبوي إذ كانوا يحتفلون به في أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان فلمّا تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدي.
وكان الاحتفال بالمولد في عهده ليلة 12 ربيع الأول، حيث يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم وجميعهم بالملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة ثم يقفون في صفوف انتظارًا للسلطان، فإذا جاء السلطان خرج من قصره راكبًا جوادًا من خيرة الجياد بسرج من الذهب الخالص وحوله موكب فخمرُفعت فيه الأعلام، ويسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثماني وخلفهما جماهير الناس ثم يدخلون الجامع، ويبدأون الاحتفال بقراءة القرآن، ثم قراءة قصة مولد النبي محمد ثم قراءة كتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبى، ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر، فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي، وفي صباح يوم 12 ربيع الأول يفد كبار الدولة على اختلاف رتبهم لتهنئة السلطان.
أما بالنسبة لسلاطين المغرب الأقصى فكانوا يهتمون بالاحتفال بالمولد النبوي لا سيما في عهد السلطان أحمد المنصور الذي تولى الملك في أواخر القرن العاشر من الهجرة، وقد كان ترتيب الاحتفال بالمولد في عهده إذا دخل شهر ربيع الأول يجمّع المؤذنين من أرض المغرب ثم يأمر الخياطين بتطريز أبهى أنواع المطرَّزات.
فإذا كان فجر يوم المولد النبوي خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته ثم يدخل الناس أفواجاً على طبقاتهم فإذا استقر بهم الجلوس تقدم الواعظ فسرد جملة من فضائل النبي محمد ومعجزاته وذكر مولده، فإذا فرغ بدأ قوم بإلقاء الأشعار والمدائح فإذا انتهوا بُسط للناس موائد الطعام.
وقد قال السويطى: “عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك، وهو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف”.
على سبيل الخاتمة:
عندما جاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء احتفالا بنجاة سيدنا موسي ومن آمن معه من فرعون .. ماذا قال ؟!! قال: “نحن أولي بموسي منهم”. وأمر بصيام يوم عاشوراء احتفالًا بنجاة سيدنا موسي.
ألسنا أولي بالاحتفال بمولد حبيبنا وشفيعنا ورسولنا وسيدنا خير الخلق ؟!!!
إن الذين يُحرمون الاحتفال بالمولد محرومون من حب سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ومشكلتهم، أنهم يريدون من الناس العوام أن يتركوا كل ما يتعلق بحب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، كالاحتفال بمولده، وزيارته عليه الصلاة والسلام وعلى آله، ومدحه، فكل ذلك يشير إلى تعظيم النبي إلى القدر الذي يستحقه، و هذا ليس غلو ولا تفريط.
ألم يقرأوا قول الله سبحانه و تعالى في سورة الفتح:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إنا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
صدق الله العظيم