بساطة الحوار وبلاغة السرد في قصة ” عوض” للكاتب المصري علي عبد الرشيد
قراءة نقدية بقلم: د. حسن محمد العمراني | مصر
أولاً: النص (عــــوض)
استيقظ مبكرا كعادته. حيّا أمّه ونبهها ان تصر له الطعام في منديله الأصفر.. ذلك المنديل الّذي صنعته له من بقايا جلبابه الكستور، شكي من تورّم قدميه الدائم
– سوف اشتري لك بوت يستحمل الدّهك..تبرمّ وجهه…….أنا عايز صندل بزرار زي بتاع محمود صاحبي…ناولته الطّعام (وكيس اللّطع) ..انطلق ينشب ساقيه في تراب الطّريق ليلحق بالجّرار الزراعي ويتّقي يد الخولي…ولسانه. ذلك الرجل ذو الصوت الأجش المرعب لا يكاد أحد ان يصدق أن هذا الصوت يصدر من فمه ولا يستطيع احد الجزم من أين يأتي ذلك الصوت..كان ينادي على الأسماء يتهكم علي هذا ويركل ذلك
-يلاّ كل واحد على سرابته يا ولاد ال….
-وانت فين سرابتك؟
- أول يوم النهارده
- روّح يا روح امك وتعالى بكره أول الساركي..غور قبل البيه المعاون ما يشوفك ويخرب بيتنا
- ميـــــــّل….
قرار للإنحناء لمسافة تلوى فيها الأعناق وتتصلّب منها الظهور…وتثير حافظة الغثيان…تحاول العيون الخروج من مدارها في الجمجمة لولا يقظة الحارس.
-قيم ضهرك…
-أه لو يسيبنا خمس دقايق
-ده قلبه حجر هيقول ميل تاني..
-تف من حنكك
-ميـــــــــــــّ…قيم ضهرك …………..ميـــــــّل …..ميّل…..ميل
- مش هنشرب؟إإ
-السوقة الجاية يا حمار
-عطشنا
-افرسوا..
-التهب الجو …الحصى كرؤوس المسامسر المدببة تنغرس في الاقدام الحافية ونصف الأقدام شبه الحافية ..ارسلت الأرض ما بداخلها من حر السنين لترد للشمس الصفعة…ضاقت الصّدور..احتقنت الجوه بدمائها..فاضت ينابيع العرق ..رفع اصبعه الوسطى عموديا على كفّه…باقي خمس دقايق ع الغدا
-ميــــــل..
-جعانين..
-اطفحوا…
-افترشوا الأرض كل إلى صرّته…
-هات حتّة بصل..
-متجيب من بيتكم..
-خد حته يا عوض
-تعيشي يا سميرة
-معاك خيار
-——–غالي
-الجبن حادق قوي ..
-كُل رِجْلة-الواد حسن دني
-ده غلبان
- انت اللي غلبان ابوه غفير بياخد كوم فلوس
-د الجزار مداينهم..
-حسن داسس طعميه في جيبه
-هياكلها وحده!!!
-ابويا هيجيبلنا كل جاجه من العراق..لمّا يرجع
-وامي هتجبلي صندل بزرار
- كم المناديل وعلى السرايب يلاّ..
-فترة مسائية من بكره يا عيال (الفقس) ريحته فاحت ومدير الجمعيّة فاضحنا..
-أحسن… يعني هنزيد ريال…يبقى اليوم بتمانين قرش…..هشتري صنل بزرار…وكورة كفر..وجلابية جديده بدل دي
-انا هدي الفلوس لأبويا يجيبلنا غلّة
-احنا عندنا..
- يا بختك، ابوك (مقرقر)
-أنا نفسي في السمك..
- هموت على البطيخ..
- ميل يازفت ..حلل لقمة أهلك انت وهيه…رفع ذراعه الى السماء وهوى بها فلسع نشو الرمّان ظهره ..صرخ..ميّل..بكى ..ميل..ملأت دموعه كيس (اللّطع ) المعلق في عنقه
-(الرّمادي ..اهركها يا كلب بدال متبقي مسائية مش ناقصين تعب
- ع الوش وقد القرش
- التعب من الجميع.. تصايصوا استجداءً للنشاط…غنوا استعطافاً للمرح…تراشقوا بالحصى في القدم..
- قلِّب يابغل في الشجر أحسن من اللعب
-انا اجاورك يا قصب وامشي ندّي الخولي لحم الخنزير ولا يشبعشي….
-حاضر يا ولاد الكلب …يابت يا ملاّية ادلقي القدرة محدش هيشرب
-خولينا من عبطه شال الكلب وخبطه…
-كدا كلّ واحد مخصوم منه يوم..
-تضاحكو من سخفه فلا أحد يستطيع سوى المعاون..
-قيم ضهرك…طابور واحد..م حدّش يجري في القطن ..دمال ناس يا ولاد ال….
-..استنو عند الجمعية هتقبضوا النهارده
-هات حِتّة بعشرة وخد سته جنيه
-ليه؟؟
-دمغه..
-معايش
-اسّلف
-محدش معاه ..أخصمها مني
-امسك فلوسك يا عوض
- احتضن الجنيهات الست واطلق العنان لساقيه واحلامه
-….صندل بزرار …كورة كفر ..جلابية العيد…جرى مسرعاً تلاحقت أنفاسه طار من الفرح…اسرع …اسرع …اسرع : عواااااض ..إوعى المقطورة يا عوااااااااض.
ثانياً: القراءة النقدية
“عوض” قصة تحتوي على الكثير من المضامين والرموز الدلالية. وهي من النصوص الكاشفة التي تعالج موضوعاً واقعياً من منظور سردي: وهو السُخرة وسيطرة الرأسمالية على مناحي الحياة. وهو نص يساير الواقع ولا يحاكية مما يسمح للكاتب بالتحرك بديناميكية تنتصر للتوظيف الدرامي الحي كما يتيح للمتلقي ملاحقة الأحداث بخيالٍ القارئ ومخيلة الناقد.
وقد جاء العنوان موفقاً من حيث علاقته بمضمون وفضاء النص. و”عوض” اسم من التراث الشعبي المصري، وله دلالته اللغوية ومرجعيته المحلية، حيث يوحي بالعطاء والحرمان معاً. وذلك سر التميز في عرض الفكرة والموضوع من خلال العزف تقنية القطع والفلاشباك مما يعمل على اندياح الفضاء السردي، عبْرَ الألفاظ المتناقضة والروئ المتداخلة، رغم كونهما يدوران في فلك الفكرة الواحدة ومن ثَمَّ يمثلان وحدة عضوية تتحقق عبر التوظيف الفني لتقنيات الالتفات والانزياح اللغوي. وهذا الأمر يحمل المتلقي علي مسايرة الأحداث والتفاعل مع هموم وقضايا البطل المنكسر ويُعْلِي من الحس الدرامي الذي يمكِّن الكاتب من إحكام قبضته على تلابيب الحبكة أو العقدة من خلال تسارع وتيرة السرد من جهة وتداخل أصوات الشخوص من جهة أخرى: “ضاقت الصدور..احتقنت الجوه بدمائها..فاضت ينابيع العرق ..رفع اصبعه الوسطى عموديا على كفّه…
-باقي خمس دقايق ع الغدا”
ومما يزيد الأمر تشويقاً ويفتح طاقة للتفاؤل هو اعتماد الكاتب لأغاني الفلكلور المبهجة والمضحكة:”قلّب يابغل في الشجر أحسن من اللعب / –انا اجاورك يا قصب وامشي ندّي الخولي لحم الخنزير ولا يشبعشي….” والجدير بالذكر أن الكاتب اختزن لحظة التنوير حتى يبلغ الحوار مبلغ الجد ويضع الحكي أوزاره بالنهاية المروِّعة التي باء بها ” عوض” لتنفك عقدة الحدث بينما يظل الأثر عالقاً في ذهنية القارئ.
وأما من ناحية الشخصية المحورية “عوض”، التي تدور حولها الأحداث، فهي لسان حال الكاتب وحال معظم المقهورين، الذين لا يقوون على شراء حذاء جديد أو بعض الغلال لسد الرمق. وقد وُفِّق الكاتب في استدعاء شخصية ” عوض” داخل النص ليجعلها نقيضاً لشخصية زميله ” حسن” ابن الخفير، الذي يمثل السلطة، وصديقه ” محمد”، ابن ” المقرقر” (وهو الرجل الذي يعرف، بحكم حرفته، كيف يفصل حبوب الغلال أو الثمين منها عن القش أو الغثّ، وذلك بِذَرِّ الغلال لأعلى بمدراته – أو آلة الذَرّ- عكس اتجاه الريح بعد أن يدرسها النورج حالَ حصادها) وذلك يوحي بقدرة أولئك الصنف من البشر على مقاومة الجوع وتوفير احتياجات أسرهم. وأما الخولي والبيه المعاون ومدير الجمعية فهم شخصيات اعتبارية كرتونية تشير للاستغلال المادي والمعنوي لمشاعر وقدرات البشر.
هذا النضوج في توظيف الفكرة، وبكارة التجربة الإبداعية، أفلح من خلالهما الكاتب في تمثيل حالة العوز والاحتياج التي يمر بها معظم أفراد الطبقة الكادحة من البسطاء، تحت ظروف القهر والجهل والمرض وسيطرة الانتهازيين على قوت الغلابة. وهذا الطراز من المستضعفين في الأرض أو المغلوبين على أمرهم يمثل السواد الأعظم من البشر في كل عصر وإن اختلفت معطيات الواقع من زمن لآخر. ولكن يظل شعاع الأمل هو الباعث على التمسك بالحياة، ويتبدى ذلك من خلال بذل العرق وتَحَمُّل سخافات الواقع من أجل لقمة العيش، حتى وإن لم تكن كريمة تماماً. وقد نجح الكاتب في جعل الشخصية الرئيسية تتحلى بالمثابرة والجَلّد كي يفتح ثغرة للحرية حتى ولو جاءت النهاية قاتمة لكنها لحظة فارقة تنم عن التغيير للأفضل، وكأنه يريد أن يقول لنا أن هناك بصيص من الضوء في أخر النفق المظلم. ورغم لظروف التي أطاحت بهذا الأمل كما أطاحت ” المقطورة” بأحلام اليقظة عند ” عوض” يكفي شرف المحاولة التي أضاءت الطريق لمن يتذرعون بالأحلام البسيطة.
من الشواهد التي تستدعي الإنتباه هو البعد المجازي وتشعير لغة السرد في النص: “صرخ..ميّل..بكى ..ميل..ملأت دموعه كيس (اللّطع ) المعلق في عنقه” وهذا يشير لتَمكُّن الكاتب من أدواته البلاغية، بالرغم من كونه يجنح في بعض المواضع لتجريد اللغة والألفاظ المقعرة: “قرار للإنحناء لمسافة تلوى فيها الأعناق وتتصلّب منها الظهور…وتثير حافظة الغثيان…تحاول العيون الخروج من مدارها في الجمجمة لولا يقظة الحارس.” وتخفيفاً لحدة السرد نجد القاص يلجأ لتضمين روح الدعابة من آن لآخر: “خولينا ( الخولي) من عبطه شال ( حمل) الكلب وخبطه…”
الحقيقة أن كتابات علي عبد الرشيد تمثل نسقاً فريداً في منوال القصة؛ فله عبارته البسيطة الموجزة وإن كان يلجأ أحياناً للتكثيف الشديد في بعض العبارات مما قد يلبس النص عبئاً بلاغياً، ويوحي باقتضاب السرد على حساب الحوار والعكس، ناهيك عن بعض الجمل الحوارية الفلاشية التي ترد دون تمهيد مما قد يربك القارئ قليلاً فلا يستطيع أن يحدد من يخاطب من. وفي هذا المضمار أيضاً نجد الكاتب يعمد، وربما دون قصد، لفرض لإسقاط بعض الألفاظ المحلية مما يتطلب من القارئ التوقف لمحاولة فض الإشكال اللغوي المرتبط بثبت الأسماء والاسقاطات اللفظية مثل: ((كيس اللطْعَة (لجمع الدود الملتصق بالقطن)/الفقس/السركي ( سجل إثبات أسماء ويوميات العمال)/ السَّرَابة ( خط بارز في الأرض لوضع البذور فيه)/ عايز ( أريد)/ كستور (نوع شعبي من القماش الخام)/ الدَهْك ( العمل الجهيد)/النِشْو ( عصا للضرب)/ تَصُرُّ ( تلف وتربط في منديل)/ الخُولِي ( المسئول عن جمع الأفراد واصطحابهم للعمل)/ السُوَقَة ( خط في الأرض يلتزم به العامل في الحقل حتى يُنهيه)/ رِجْلَة( نبات عشبي معمر)… إلخ)). وذلك يستلزم مراعاة البعد المعرفي لدي القراء المعاصرين، من منطلق أن القارئ مشارك فعال في النص، وحتى يمكننا أيضا تبرير تضمين العامية في لغة الحوار لكي تتجانس وتتضافر مع الإطار العام للسرد والحكي.