قراءة نقدية في “ بين مدينتين ” للأديب فتحي فوراني
صباح بشير| فلسطين
سيرة ذاتية مُبهرة
في احتفال ذاتي جمالي سطر الأديب فتحي فوراني سيرته الذاتية “بين مدينتين”، وقف على أحداث الزمن الماضي ومزج الحكاية بعبق المكان، أرفق الصور وتحدث عن نفسه مُركِّزا على نشأته وتكوينه النَّفسيّ والثَّقافيّ، علاقاته وفترة الشباب، حياته المدرسية ومعلميه وبعض الشخصيات التي تركت أثرا في نفسه وساهمت في تشكيل شخصيته.
يقعُ هذا الكتاب في مئتين وسبعة وتسعين صفحة، وقد صدرت الطبعة الأولى عام 2014م، والثانية في العام 2017م وهي مزيّدة ومنقحة، صَمّم الغلاف مارون قعبور.
أهدى الكاتب مؤلَّفه إلى زوجتهِ أولادهِ وأحفادِهِ، وبدأ في كل جزءٍ يُفّصِّل الأحداث والشجون، اللوحات والمشاهد الحيّة، استهل كتابه متحدثا عن تلك الأسباب التي ذهبت به لِخَط هذه السيرة، فبعد أن أُصيب بسكتة دماغية وعاش تجربة خاصة أفضت به إلى المعاناة، توقف عن العمل وأصبحَ لديه متسعٌ من الوقت للكتابة، بدأ أصدقاؤه وأقاربه بزيارته، كانوا يقلبون صفحات الماضي التي لم يبقَ منها سِوى شجونها، يتذكرون تلك الأيام الخالية ويتحدثون عنها، واقترحوا عليهِ كتابة تلك الذكريات رغبة منهم في استنشاق رحيقها، وهذا ما حدث، لقد وجد في الكتابة ضالته وما يعينه على الخروج من تلك المحنة، فوقف بذاته المبدعة أصلا ولم يركن إلى ما مر به من الصعوبات، بل تجاوزها مُستقبلا ظَرفَه بروح العمل والإنجاز، ويبدو أن الكتابة قد بعثت فيه احساساً وحنيناً غامضاً لأشياءَ كثيرة، وأشعلت فيه رغبة محمومة بالتذكر، وبعثت ألفة الأشياء التي اختبأت هناك، خلف ثنايا الزمن.
نجح الأستاذ فوراني في انتقاء الأماكن والرموز وتسليط الضوء عليها، غير أن الرجل بحق أضفى قُدْرَة وحيوية على كل ما كَتب؛ فهو لم يَحضُر مملًا حافظًا للمعلومات مدونا لها، بل تميز بغزارة معرفته وثقافته التي أتاحت له سرد مرحلة عاصرها ووثقها بسيرته.
ذَكَرَ أسماء النباتات في فلسطين، وَصف اللباس الشعبي الفلسطيني، الحلويات والأغاني التراثية، وبعض العادات والتقاليد القديمة، كتب عن مرارة التحول إلى لاجئ في الوطن، وسَرَد لنا ما حدث مع عائلته التي تأثرت بأحداث النكبة بشكل مباشر، ذلك الجرح الفلسطيني الغائر، عملية التهجير والتشريد واقتلاع الناس من بيوتهم وأراضيهم تحت تهديد الموت، وقع الرصاص وأنين البشر ونداءات الاستغاثة!
تتعدّد المشاهد والعناوين الدافئة بين المدينتين، فنجد أنفسنا أمام مشاهد مكثّفة متعددة متفرعة، تغري القلب وتُعطِر الروح، ترافقها أحاسيس كثيرة متنوعة، وتصب الحالة الشعورية في هذا التنوع، من الوصف إلى التفصيل وفنية التصوير، وإلى المزج بين الماضي والحاضر، وعلى هذه الوتيرة وداخل فسيفساء مُدهشة، استحضر فوراني أيّامًا مضت، انتشلها من ذاكرته بأحداثها ومواقفها وقَسّمَها إلى ثلاث محطّات، (صفد، النّاصرة وحيفا)، استحضر الذكريات في صفد من كلام الآخرين عنها، فهي مرحلة الطفولة الأولى التي عاشها ولم يعد يتذكر الكثير منها، انتقل بعد ذلك مع عائلته إلى الناصرة وبدأ يَقّص علينا ذكرياته فيها، تلك المدينة التي احتضنته، أحبها وانسجم مع أهلها ومثقفيها، بَيَّنَ لنا نمط الحياة الأدبية الاجتماعية والثقافية فيها، صوَّر المواقع الجغرافية، وحكى عن البيوت الأزقة والأماكن، استذكر المُعَلِم الأول فؤاد خوري، والده وعملَه كحلاق وكيف كان يتأنق بملبسه ومظهره ويقرأ الصحف، وصفه بأنه عنوان وَمَعلَم من مَعالمِ المدينة، يتمتع بسجية أخاذة ويؤمّه الكثير ممن بحثوا عن واحة ظليلة تمنحهم الأمان والراحة، وتحدَّث عن جدّه التاجر صاحب الشخصية الرجوليَّةِ الذي كان يتكلم بلغة “الإيدش”.
هكذا استعرض فتحي فوراني مواضيعه، ظل يقِفُ على أعتاب الذّكريات وبيوتها الدافئة، الطعام اللذيذ الذي كان هنيئا ببركة الزمن الجميل، جدّته الفيّاضة بعطائها الخبيرة في مداواة العيون، التي كانت تغمرُهُ بعطفها وحبها، تأخذه معها أينما حلت وذهبت، كان يشعرُ بحنانها ويطمئن بأحضانها ويرتاح إليها أكثر مما يرتاح إلى أمه!
وصفَ الحياة القروية بأبهى تجلياتها، وكيف تفوح منها روائح الطابون والكانون، التبن والطين، البيدر ولوح الدراس، البئر والجمال والعجّال، الصراعات والطوشات العائلية، وانتقل بالحديث من مدينة البشارة “الناصرة” إلى عروس الكرمل “حيفا”، استرجع ذكرياته منذ انتقاله إليها وعيشه فيها، عمل معلما في الكلية العربية الأرثوذكسية، نَشِطَ وشغل المناصب، بعد ذلك تقاعد وتفرّغ للمشاركة في النشاطات الثقافية والأدبية حتى وصل لكتابة سيرته الذاتية التي رواها بصدق، وجعلها تنشأ وتشَبّ في إطار جاذب مشوّق، تنساب متتالية متسلسلة بين دفتي كتاب، فأبهرنا بما جاء فيها من متانة اللغة، الجمال والبلاغة.
أبحر الكاتب في رحلة ماتعة بين القصص الطريفة أحيانا والمريرة أحيانا أخرى، دون تسخيف أو ادعاء أو تَكلُف، جاء هذا عفويا في السياق مما أضفى حيوية واضحة بين ثنايا السطور، استَذَكَر مدرسته وما كان يتعرض إليه الصغار من عنف تربوي غير مبرر(الفلقات)، الحي الشرقي، كنيسة الأقباط وأبونا واكيم، كنيسة البشت والقرش ذو العين الواحدة، الجامع الأبيض الوحيد في المدينة، مدرسة “أبو جميل”، جنينة أبو ماهر ملتقى الأحبة الأدباء والشعراء، جامعة الصفوري، الندوات واللقاءات الثقافيَّة والأدبيَّة التي كانت تُقام في المؤسسات، الحوانيت والجمعيات التي كان يجتمعُ ويلتقي فيها بالكُتّاب والأدباء والشَّخصيَّات المعروفة، وتدور بينهم الأحاديث والنقاشات والحوارات المختلفة، منها الأدبيَّة والسياسيَّة والثقافية وغيرها، دراسته رفاقه وأترابه وأصدقاء الزمن الجميل، طه محمد علي، راشد حسين، نور الدين العباسي، محمود درويش، فدوى طوقان، عصام نور الدين، عماد شقور، إميل حبيبي وغيرهم.
لقد عَبّر الأديب فتحي فوراني عن جوهر كيانه وأصالته، فهو لم ينفصل عن تجربته الإبداعية التي كانت جزءا من تجربته الحياتية بأبعادها الفردية الاجتماعية والإنسانية، نثر حبه وتمَكَن ببراعة من خلق نص يُضاف إلى ما سبق من إبداعاته، وإلى هذا النوع من الأدب ذي النزعة الإنسانية وَقِيَّمِه الرفيعة، ليصل إلى القرّاء بأسلوب مُقنِع مُؤثِّر.
لقد شعرت أنَّ بيني وبينَ صفحات هذا الكتاب سرًّا مشتركًا، وحين انتهيت من قراءته أحسست وكأني أودع شيئاً ثميناً، فثمَّةَ رائحة من الحنينِ الخفيِّ تفوحُ بين سطوره، وكم تمنيت لو أني أجلسُ بين تلك البيوت التي وصفها الكاتب، فألقي التحية على أصحابها، أستمع إليهم وأقفُ مقابلَ شرفاتهم المُطلَّة أراقبُ ظلالَها وأهلها، لتقص عليّ الحكايات وما مر عليها من الذكريات، وأدخل عمق ذلك الزمن بكامل رغبتي، أتأمل وأكتشف، وأستدعي أحلام شعبنا وأهلنا التي كانت والتي ستكون، وحاضرنا الذي وقف ممتدا من أول الماضي البعيد إلى أول الآتي القريب، وحكاياتنا الموغلة في الزمن والذكرى والحزن المسكوب المشتعل.